هذا البحر لي

من الميدان

هذا البحر لي

لقطة لمجموعة من صيادي غزة وهم ينطلقون في رحلة إبحار قد تطول لأربع عشرة ساعة. تصوير عز الزعنون، اللجنة الدولية: 2016.

خاصرتها بحر، شهية، رطبة، ندية، سهلة المنال، تبدو من بعد. يغمرها البحر أحيانًا، وما إن تخرج، حتى يرسل أمواجه رسائل عشق لها. رذاذه ينثر الملح على ملامحها السمراء فيزيدها صلابة، وحِدَّة، وأكثر من هذا، جمالًا.

بقع الدم اللزج تقترب من بعضها، لا تغرقها ولا تشكل فيها بحورًا. مزاجية، مدهشة، دائمًا عصية المنال، هكذا تبدو المدن الساحلية، أو ربما هكذا يرى الفلسطينيون غزَّتهم.

أحد أيام الخريف، طافت فيه ريح معتدلة فبدا البحر هادئًا، بالقرب من ميناء الصيادين، الطيور البيضاء تملأ المكان، وشباك صيد خضراء وبيضاء. البعض منشغل بإعداد شباكه وإصلاحها، استعدادًا لرحلتهم اليومية. أصوات الباعة المتجولين أيضًا مسموعة بوضوح. شعر البنات (غزل البنات أو السكر الملون) بألوانه الصفراء والزهرية والبيضاء، يحمله بائع ويغني للأطفال. عائلات أتت بأبنائها لتأخذهم في جولة في الميناء.

اقتربت الساعة من الثالثة عصرًا، موعد إبحار الصيادين. علت أصوات محركات القوارب الصغيرة التي يستخدمونها. كل منهم يحاول أن يتأكد من عمل المحرك، وامتلاء خزان الوقود، بعض الماء والخبز على متن القارب، فهذه رحلتهم اليومية منذ كانوا أطفالًا. ورثوها عن آبائهم، وهم يعرفون جيدًا أن الرحلة قد تطول لأربع عشرة ساعة إبحار.

في يوم مشمس تزيد حرارته عن الموسم بأربع درجات، في محاولة من الطبيعة لتقول لنا: حتى أنا أتغير. في مثل هذا الوقت من الأعوام الماضية كانت الحرارة منخفضة والأمطار وفيرة. انطلقنا في تمام الساعة الرابعة والنصف، بتأخير ساعة وبضع دقائق عن الموعد المتفق عليه مع القبطان.

ثمة مشاكل في المحرك، حسنًا سيتم تغيير المركب لنستقل آخر. أمور كهذه اعتاد عليها الصيادون. «على أية حال أن تحدث [مشاكل في المحرك] ونحن ما زلنا على الميناء، أفضل من أن تحدث ونحن في وسط البحر» مازحنا القبطان قائلًا.

بدا الصيادون متحمسين لوجودنا على القارب، كلٌّ له قصة، وكلٌّ عنده أمل، فهمي طالب في كلية الحقوق في الجامعة، متزوج، يدرس صباحًا ويعمل مساءً، ليسد حاجة أسرته وتكاليف تعليمه.

أبو بكر في الخامسة والخمسين من العمر، تفننت الحياة في رسم خطوطها على ملامحه، يفكر كيف يمكن لرحلة الليلة أن توفر جزءًا من متطلبات الحياة، الكل مقبل على فصل الشتاء الذي يواجه فيه الناس عادة الكثير من الأزمات، منها زيادة ساعات قطع التيار الكهربائي، في قطاع يستقبل في أحسن الأحوال تسع ساعات منها في اليوم، نقص في غاز الطبخ، نقص في الوقود، وهذا يراكم الأعباء التي على السكان التفكير بها، إلا أن صوت دندنات أبي بكر كانت مسموعة بوضوح.

خارج حياتهم، نعجز نحن عن فهم الحوافز التي يمكن أن يمتلكها هذا الصياد، لتمكنه من الابتسام، لندرك حين نلتقيهم أن القوى الكامنة في أي إنسان يصعب التنبؤ بها.

الحادية عشرة ليلًا، خرجت الشباك الأولى محملة بالكلمار، جزء منها سيكون عشاءهم الذي سيعينهم على ليلتهم، موقد نار أعد للتدفئة، ولإعداد وجبة بسيطة سريعة، انشغل صياد بتنظيف الكلمار، وزميله أعد القدر، ولم ينس الفلفل الغزاوي المكون الأساسي لأي وجبة هنا، وبضع حبات من البندورة (الطماطم)، رائحة الخبز المحمص ملأت القارب ليجتمع حولها من على متنه، بعدها يستمتعون بشاي ساخن بالميرويُتناوب، فمن فاتته الحلقة الأولى ينضم لحلقة العشاء الثانية.

الثانية والنصف بعد منتصف الليل تبدأ جولة رمي الشباك الثانية، تُطفأ أنوار المركب، وينزل بعض البحارة على مركب صغير مضاء بأنوار خافتة، الأسماك أيضًا يغويها النور، يصيدون ويرفعون الشباك إلى المركب الكبير لتجري تعبئته في صناديق بلاستيكية بألوان مختلفة، زرقاء في أغلبها، برتقالية ومنها صفراء.

من خلد للنوم بعد العشاء جاء دوره ليبدأ، ليكمل الليلة حتى الصباح في العمل. الرابعة فجرًا، فوج ثالث من الصيد يتسنى لهم، وبعدها تبدأ رحلة العودة للميناء، ليصلوا في السادسة مع تحلُّق طيور النورس في الميناء لينوبها هي الأخرى نصيب من الصيد.

حين يرسو القارب يبدأ أحدهم بإعداد القهوة لكل من وُجِد على القارب وحوله، ويبدأ الآخرون بإنزال الصناديق، ليتحدد سعر السمك يومًا بيوم، حسب ما منَّ به البحر. أصوات الدلالين تكسر صمت الصباح وتختلط رائحة السمك برائحة القهوة، تطوف في فناجين بيضاء رسم عليها روميو وجولييت.

أحدهم سألني: «عارفة مين هدول؟» [أتعرفين من هؤلاء؟] قلت: أخبرني أنت. فقال: «أشهر قصة عشق جالت الأرض ولكنها حزينة، تشبهنا كثيرًا، نحن لا نبلغ مرادنا من هذا البحر، رغم عشقنا له، إنه الحياة التي تستعصي علينا، نراها بأعيننا ونقف على حافتها، ولا تتأتى لنا، ولكن، ليس لدينا خيار آخر، سأعود اليوم عصرًا لرحلة قادمة، فهذا البحر لي».

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا