جائزة الفيزا الذهبية لصورة من غزّة.. ساهر الغرة:”لا مفرّ” إلا أن يرانا العالم

ثقافة / حوارات

جائزة الفيزا الذهبية لصورة من غزّة.. ساهر الغرة:”لا مفرّ” إلا أن يرانا العالم

ساهر الغرة في بورتريه يوثق حضوره المهني (تصوير: هيثم نورالدين)

حين ينكسرُ جدار فوق عائلة، لا يسمع العالمُ شيئًا. لكن ساهر الغرة كان هناك، ينصتُ بعدسته إلى الصوت الذي لا يُلتقط: بكاء على هيئة صورة، وصرخة على هيئة ضوء.
لم ينتظر أن يُنادى باسمه في أي مهرجان، بل اختار أخطر زاوية يمكن أن يقف فيها: الزاوية التي يرى منها العالم كل ما أراد أن يدير له ظهره. في غزّة، حيث كل لحظة هي رهان حياة، لم يختبئ ساهر خلف عدسته، بل تقدم بها. كل صورة التقطها كانت مفاوضة مع الفقد، كل مشهد عاشه كان اختبارًا لقدرة الإنسان على ألّا ينهار. وعندما لم يجد وقتًا للدموع، جعل الصورة تبكي نيابة عنه. ومن بين الركام، خرج حاملًا سلسلة صورها تحت القصف وسماها “لا مفر”، لتتوج لاحقا بجائزة “الفيزا الذهبية الإنسانية” من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. في هذا الحوار، لن تقرأ عن مصوّر فاز بجائزة، بل ستواجه رجلًا خرج من بين الركام وفي يده دليلاً ضد النسيان.

 

«الإنساني»: بداية، كيف استهللت رحلتك مع التصوير، ومتى أمسكتَ الكاميرا لأول مرة كمصور صحافي؟

بدأتُ رحلتي مع التصوير عام 2017، أثناء دراستي الجامعية في تخصص العلاقات العامة والإعلام في جامعة فلسطين. في إحدى السنوات الدراسية، أهداني والدي كاميرا، شكّلت أولى خطواتي على الطريق. بدأت ألتقط مشاهد من الحياة اليومية وصورا لمشاريع الدراسة. بعد تخرّجي، تطوّعت في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وهناك انطلقت نحو التصوير الميداني والإنساني. وفي عام 2018، بدأت أوثق مسيرات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزّة، وأبني أرشيفًا خاصًا بي. أعتبر تلك المرحلة انطلاقتي الحقيقية في عالم التصوير الصحافي الاحترافي. ومنذ 2021، بدأت العمل كمصوّر صحافي حرّ مع وكالات دولية، وهيئات إنسانية، ورافقت الأحداث من الميدان، خصوصا منذ بداية حرب 2023، وما زلت إلى اليوم مستمرًا.

 

«الإنساني»: درستَ الإعلام والعلاقات العامة، لكنك اخترت أن تحكي القصة بالصورة. لماذا؟ وهل ترى أنها أكثر قدرة على البقاء من الخبر العاجل؟

الكاميرا كانت عشقي الأول. منذ طفولتي وأنا مأخوذٌ بجاذبيتها، أتأملها وأتساءل: كيف تلتقط الصورة؟ وكيف تُجمّد اللحظة في ثانية واحدة لا تتكرّر؟ وحين كبرت وتخصصت في الإعلام، أدركت أن الصحافة حقولٌ متعددة: مراسلون، كتّاب، محرّرون… لكن قلبي استقرّ عند التصوير الصحافي، لأنني شعرت أن الكاميرا تُكمل القصة، بل تمنحها روحًا لا يمنحه إياها السرد وحده.

وفي مناطق النزاع، تصبح الصورة شهادة حيّة لا تحتاج إلى تعليق. مهمتي كمصوّر صحافي هي أن أقدّم للعالم ما يحدث فعلًا على الأرض، لا عبر التقدير أو الرواية، بل عبر الشهادة. وقد رأيت أثر ذلك بنفسي؛ صور كثيرة لي وجدت طريقها إلى الجمهور الغربي، وحرّكت مشاعر التضامن. وصلني دعم من أناس في أوروبا وأميركا، حمل بعضهم صوري في مظاهرات مناصرة لغزّة، رُفعت على اللافتات وفي الشوارع.

 

«الإنساني»: في حوار سابق ذكرتَ أنك كنت مُصمّما على “تصوير الجمال” فبدأت بتوثيق جمال الحياة من حولك، لكنك وجدت نفسك سريعًا أمام حروب ومظاهرات ومآسٍ توثّقها بعدستك. كيف أثّر هذا التحول عليك؟

في زمن السلم، من الطبيعي أن يسعى المصوّر إلى إبراز الجمال في مدينته؛ أن يصوّر البحر والصيادين، ولهو الأطفال، وأجواء الأعياد، وتفاصيل الحياة التي تمنح الإنسان دفء الانتماء. لكن غزّة لم تمنحنا ترف الاختيار. فُرضت علينا حربٌ ممتدة، وحصارٌ قاسٍ، وواقعٌ مأساوي لا يُمهل الحالمين. وجدتُ نفسي – كغيري من أبناء المدينة – داخل جغرافيا من القهر، لا تسمح لك بأن تبقى محايدًا أو متفرّجًا. ومع اشتداد المعاناة، تغيّر معنى الصورة. لم تعد مجرد فنّ أو حسّ جمالي، بل تحوّلت إلى مسؤولية أخلاقية وإنسانية. فركّزت في عملي على وجهين متكاملين للإنسان “الغزاوي”: أولًا، توثيق الظلم والتحديات التي يتكبدها يوميًا لمجرد أن يبقى حيًّا؛ من دمار، وجوع، وقصفٍ لا يهدأ. وثانيًا، إبراز أن هذا الإنسان – رغم كل ذلك – لا يزال متمسكًا بالحياة، ويُصرّ على العيش لا على البقاء فقط.

لهذا، ستجدني – إلى جانب صور النزوح والانفجارات – أبحث عن ومضات الأمل في أكثر الأماكن هشاشة. أصوّر طفلًا يلهو فوق الركام، أو أسرةً تحتفل بعيد ميلاد بسيط في مخيم نازحين، أو ضوءًا صغيرًا ينبعث من عتمة الخيمة. ربما تغيّر محور عملي من تصوير الجمال إلى توثيق الجراح، لكن هدفي لم يتغيّر: أن أنقل الحقيقة كما هي، سواء كانت جمالًا مهدّدًا أو وجعًا لا يُحتمل.

 

«الإنساني»: كيف تُوازن بين واجبك المهني في نقل الحقيقة وبين مشاعرك ومسؤولياتك كإنسان لديه أسرة وذاكرة ووطن تحت القصف؟

تحقيق هذا التوازن، في الحقيقة، من أعقد ما واجهته في حياتي. فنحن في غزّة لسنا صحافيين وافدين إلى ساحة نزاعٍ نغادرها متى نشاء؛ نحن أبناء الأرض التي نغطيها، نعيش الحرب بكل تفاصيلها، وننقلها بينما نُصاب بها. حين صدر قرار إخلاء شمال القطاع في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اصطحبتُ عائلتي جنوبًا بحثًا عن مأوى أكثر أمنًا. تركتُهم هناك وعدتُ على الفور إلى الميدان. انقطعتُ عنهم لفترات طويلة وأنا أغوص يوميًا في الخطر. اضطررنا، ككثير من الزملاء، إلى نصب خيام قرب المستشفيات لتكون لنا مقرًّا ميدانيًا، نبيت بجوار أقسام الطوارئ، نعمل تحت سقف تصرخ تحته الجراح، ونحاول أن ننجز عملنا بينما تدوي صفارات الإنذار وتصلنا جثامين الشهداء بالعشرات. وفي الوقت نفسه، نجُرّ خلفنا قلقًا متواصلًا على أهلنا الذين لا نراهم، ويدور في خاطرنا في كل لحظة سؤال لا جواب له: هل ما زالوا أحياء؟

 

«الإنساني»: في غزّة، الخوف حاضر في كل لحظة. ورغم ذلك تخرجون كل يوم بكاميراتكم تحت القصف. ما الذي تضعه بينك وبين الخوف حتى تستمر في عملك؟ ومتى تقرر أن الخطر تجاوز الحد وأن عليك التراجع حرصًا على حياتك؟

في هذه المهنة، الخوف رفيق دائم، والخطر جزء لا ينفصل عن تفاصيل العمل. نحن ندرك، منذ اللحظة الأولى، أن هذه الطريق محفوفة بالمخاطر، ولا نُخدع بوهم السلامة. ما أضعه بيني وبين الخوف هو إيماني برسالتي، وثقتي بالله، وشعوري العميق بالمسؤولية تجاه أهلي ووطني، وتجاه الحقيقة التي يجب أن تُنقل. هذا الإحساس يمنحني شجاعة لا تُلغي الخوف، لكنها تتقدّم عليه. لكننا – رغم كل شيء – لسنا مغامرين بلا وعي. نُقيّم المخاطر في كل مهمة، نرتدي بِدل الحماية، نراجع خط السير، ونحدد بدقة أين يقع الخط الأحمر الذي لا ينبغي تجاوزه، كي لا نُقدّم حياتنا دون غاية. ومع ذلك، أحيانًا لا يكون أمامك سوى المجازفة المحسوبة.
خلال وجودي في رفح خلال العام الجاري، قبيل انتقالنا جنوبًا، بلغ استهداف الصحافيين حدًا غير مسبوق. لأول مرة، شعرت أن الكاميرا قد تقتلني. صرنا نخشى التجوّل علنًا ونحن نحملها، خشية أن نستهدف. كان ذلك تراجعًا تكتيكيًا، لا تخلّيًا عن الرسالة. فالخوف، إن سيطر عليك بالكامل، يُنهي كل شيء. أحيانًا أغامر، وأحيانًا أتوّقف. لكنني في الحالتين أحرص على ألا تُطوى قصة كان يمكن أن تُروى. نحن نعيش في ظروف لا مثيل لها، والمضيّ فيها ليس بطولة، بل ضرورة. والبديل الوحيد هو الصمت. لكن الصمت، في الحرب، ليس خيارًا.

 

«الإنساني»: هل تذكر لحظة وضعت فيها الكاميرا جانبًا، ليس لأنك لا تستطيع التصوير، بل لأنك لم تعد تحتمل أن تكون شاهدًا؟

نعم، مرّت بي لحظة كهذه، لن أنساها ما حييت. كانت في أواخر العام 2024، في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، وسط غزّة. ذات صباح، وقعت مجزرة مروّعة غرب دير البلح. وفجأة، امتلأ المستشفى بالجرحى والشهداء، كأن الموت قرر أن يزور المكان دفعة واحدة. باشرت كعادتي بتصوير المصابين لحظة دخولهم قسم الطوارئ. الألم كان يملأ المكان، الصرخات تملأ الآذان، والفوضى لا تترك متسعًا للتفكير. فقط توثّق.

بعدها، اتجهت إلى ثلاجات الموتى. كنت أعلم ما ينتظرني هناك، لكنّي لم أكن مستعدًا له. عند باب المشرحة، وجدت المشهد الذي لا يشبه شيئًا مما رأيته من قبل: نساء فلسطينيات منهارات، يصرخن، يلطمن وجوههن، يمسكن بالأكفان ويقبلن الجباه الباردة؛ رجال يبكون بصمت، أو ينهارون تمامًا؛ جثامين لأطفال وشباب ممددة في الثلاجات، تغطّيها الدماء، وجوههم كأنها لا تزال تحمل تعبير النوم، لا الموت.

في تلك اللحظة… تجمدت. لم أستطع رفع الكاميرا. وقفت أستمع فقط لصوت البكاء، للصراخ، لنحيب الأمهات. كنت مسمّرًا كالحائط، عاجزًا، مشلولًا. ولأوّل مرة، شعرت أني لا أستطيع أن ألتقط صورة واحدة أخرى.  لا لأنني خفت، بل لأنني كنت إنسانًا… مجرد إنسان يقف أمام هذا الكم من الحزن، ولا يستطيع سوى أن يبكي بصمت. انسحبت بهدوء، وقلت لنفسي: “كفى”.

 

«الإنساني»: من بين كل المشاهد التي صورتها، هل هناك قصة أو صورة معينة بقيت محفورة في ذاكرتك؟ صورة شعرت أنها لا بد أن تُروى للناس؟

طبعا. هناك صورة واحدة لا تزال تلاحق ذاكرتي كلما استدعيتُ مشاهد النزوح المريرة. التقطتُها خلال موجة نزوح جماعي من شرق خان يونس، في اليوم الذي تقدّمت فيه القوات الإسرائيلية بشكل مباغت، وبدأ المدنيون يفرّون تحت القصف. في تلك الصورة، تظهر مجموعة من النساء يركضن مذعورات، يحملن أطفالهن، وسط عاصفة من الغبار والنيران. كانت تلك لحظة الفزع المطلق؛ حين بدأ إطلاق النار المفاجئ على السكان أثناء فرارهم، فاندلعت حالة من الهلع الجماعي. وجوه النساء مغبّرة، والأذرع مشدودة، والخطى متخبطة… والموت يلوح من كل زاوية. تجسّد هذه الصورة – بالنسبة لي – المعنى الكامل لعبارة “لا مفر”.
كلما نظرتُ إلى تلك الصورة أشعر أنها تختصر الحكاية كلّها: مدنيون عُزّل، يفرّون بلا خريطة، تحت نار لا تميّز بين سلاحٍ وطفل، فقط لأنهم كانوا في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ.

مدنيون فلسطينيون يفرّون من منازلهم شرق خان يونس – 22 يوليو 2024 (تصوير: ساهر الغرة/زوما للصحافة)

فلسطينيون يفرّون من المنطقة الشرقية بخان يونس – 22 يوليو 2024 (تصوير: ساهر الغرة/زوما للصحافة – من سلسلة “لا مفر” الحائزة على جائزة الفيزا الذهبية)

«الإنساني»: من كل ما التقطت، ما الصورة التي تمثل “نقطة اللاعودة” بالنسبة لك؟ تلك التي بعدها لم يعد كما قبلها؟

من الصعب القول إن صورة واحدة تغيّر الإنسان جذريًا؛ فالشخصية تتشكل بتراكم التجارب وتعدد الندوب. لكن ثمّة صورة واحدة، تركت في نفسي أثرًا بالغ العمق، ولا تزال تسكنني حتى اليوم. إنها صورة للطفل زياد صيدم، الشهيد الوحيد لوالديه. التقطتها في مستشفى شهداء الأقصى بعد قصف طال مخيم النصيرات. أتذكر اللحظة بكل تفاصيلها: الأب كان جالسًا على الأرض، يحتضن جثمان ابنه ويبكي بحرقة، يُخاطبه كأنما يحاول استعادته بالكلمات: “سامحني يا بابا.. ما قدرتش أحميك.” أما الأم، فكانت تائهة بين الصراخ والإنكار. تصرخ تارة: “مش إبني! إبني ما ماتش!” ثم تحدّق فيه بصمت كأن عقلها تجمّد.

 أم فلسطينية في حالة حداد على نجلها داخل مشرحة مستشفى الشهداء في دير البلح – 24 يوليو 2024

مشهد لأم زياد صيدم تودّع طفلها داخل مشرحة مستشفى الشهداء بدير البلح –  24 حزيران/يوليو 2024 (تصوير: ساهر الغرة/زوما للصحافة – من سلسلة “لا مفر” الحائزة على جائزة الفيزا الذهبية)

وقفت جانبًا، مكسورًا ومذهولًا. لم أضغط على زر الكاميرا فورًا. لكن بعد لحظة صمت، رفعت الكاميرا والتقطت تلك الصورة: أم تحتضن وجه وحيدها بصمت يشبه الغيبوبة. بينما الأب يجهش بالبكاء ويغطي وجهه كمن لا يقوى على الرؤية ولا على الفقد. كانت تلك أولى صور سلسلة “لا مفر”، وأقواها في نظري. أرسلتها إلى معارض دولية لا لأنها صادمة بصريًا، بل لأنها صادقة إنسانيًا. فيها كل شيء: الفقد، والذهول، والخذلان، والثمن الحقيقي للحرب. لكن تأثيرها عليّ لم ينتهِ عند النشر أو الفوز. لاحقني وجه زياد لأيام. كلما أغمضتُ عينيّ، رأيت أمّه تمسح جبينه، كأنها ترجوه أن يصحو.

لا أدّعي أنني تحوّلت إلى شخص آخر، لكن شيئًا في داخلي تصدّع. وشيئًا آخر عاد ليتشكّل. بعد تلك الصورة، صارت الكاميرا عندي أكثر من أداة توثيق. صارت شاهدًا على من لا تُكتب قصصهم، ولا يُسمع وجعهم. وأنا، لم أعد كما كنت.

 

«الإنساني»: لماذا قررت التقدم لجائزة الفيزا الذهبية (Visa d’Or) تحديدًا؟ عم كنت تبحث؟

صراحة، كان ترشّحي لهذه الجائزة يجمع بين الطموح المهني والرسالة الإنسانية. جائزة الفيزا أو التأشيرة الذهبية الإنسانية التي تنظّمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر تُعدّ من أهم الجوائز العالمية في مجال التصوير الصحافي الإنساني، لأنها تركّز على معاناة مدنيين في مناطق النزاع، لا على الأحداث فحسب. حين علمت بها، شعرت أن هذا بالضبط هو الإطار الذي أبحث عنه: أن تُعرض صوري، التي توثّق معاناة الناس في غزّة، في سياقٍ إنساني لا دعائي، وفي منصّة تنصت فعلا لصوت الإنسان. وكان واحد من أبرز الدوافع معرفتي بأن الفوز بهذه الجائزة سيعني عرض الصور في مهرجان “فيزا بور ليماج” الدولي في فرنسا، وهو أهم تظاهرة سنوية للتصوير الصحافي في العالم. تخيّلت صور غزّة تُعرض هناك، أمام جمهور عالمي من الصحافيين وصنّاع القرار والمهتمين بالشأن الإنساني، فشعرت أن رسائل الناس هنا، التي قد لا تجد فرصة للظهور في الأخبار اليومية، ستصل إلى أبعد مدى ممكن.

أما على المستوى المهني، فلا أنكر أن الجائزة نفسها تحظى بمكانة عالية بين المصوّرين حول العالم، والفوز بها يُعتبر علامة فارقة في المسيرة المهنية لأي مصوّر. أيضًا، وجود اسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر كجهة منظمة شكّل دافعًا كبيرًا بالنسبة لي؛ فهي مؤسسة معروفة عالميًا بعملها الإنساني، واهتمامها بالمدنيين المتأثرين بالنزاعات المسلحة.

وبالحديث عن الجوائز، أودّ أن أخصّ بالشكر صديقتي المصوّرة الفرنسية آرولان (Aruallan)[1]، التي وقفت إلى جانبي منذ الأيام الأولى للحرب. كانت داعمة لي نفسيًا ومهنيًا، وساندتني عن قرب، بل ومثّلتني في استلام معظم الجوائز التي حصلت عليها.

 

«الإنساني»: حدثنا عن سلسلتك الفوتوغرافية الفائزة “لا مفر”. كيف ولدت فكرتها وهل هناك قصة وراء اختيار عنوانها؟

لم يأتِ عنوان “لا مفر” مصادفة، بل خرج من إحساس حقيقي عشته، وعاشه كل أهل غزّة. استلهمته من قصيدة لمحمود درويش، يقول فيها:

حاصر حصارك بالجنون
ذهب الذين تحبّهم ذهبوا… لا مفر، لا مفر.”

كلما سمعت هذا المقطع، شعرت أنه يُلخّص تمامًا حالنا: لا مفرّ من الحصار، ولا من القصف، ولا من الجوع، ولا من الموت الذي يلاحقك حتى لو لم تغادر مكانك. حين تأملتُ واقعنا خلال الحرب، وجدت أن هذا العنوان يُعبّر بدقة عما نعيشه. لا مفرّ بكل ما تحمله الكلمة من ثقل. وأردت لكل من يرى صوري أن يشعر بذلك الإحساس الثقيل: أن الغزّي، حين يفتح عينيه صباحًا، لا يسأل نفسه أين الأمان؟ بل: هل هناك أصلًا مكان يمكن النجاة فيه؟ كل صورة في السلسلة شهادة على إنسان محاصر بواقع يفوق قدرته. أردت أن أقول للعالم: إن لم يكن لنا مفر من هذه الحرب، فعلى الأقل لا مفرّ لكم من رؤية حقيقتها.

 

«الإنساني»: ربما تكون الجائزة أيضا للوجوه التي صورتها… هل يمكن أن تحدثنا عن أحد هذه الوجوه ممن لا تزال معك حتى اللحظة؟

في الحقيقة، كل صورة في سلسلة “لا مفر” تحمل وجها يسكنني، لكن من أصعب المشاهد التي لم تفارقني كانت لحظة لم ترتبط بالقصف، بل بالجوع. ظهرت تلك الوجوه خلال توثيقي لمشهد توزيع الوجبات المجانية في إحدى “التكايا” بمدينة خان يونس. بسبب الحصار وانهيار الاقتصاد، أصبح عدد كبير من الناس يعتمد اعتمادًا كاملًا على هذه الوجبات البسيطة: أرز، أو شوربة، بالكاد تسد الرمق. في ذلك اليوم، توافد المئات، أغلبهم من النساء والأطفال، فجأة، لمحت طفلًا صغيرًا ينضغط بين الأجساد عند الحاجز الحديدي. رأيته يصرخ، وجهه محمَرّ ومحتقن من انقطاع النفس.  هرعتُ مع المتطوعين لنخرج الطفل من بين الأقدام بصعوبة. كان يلهث، مرعوبًا، يبحث عن هواء.

طفل ينتظر وجبة مجانية وهو يحمل وعاءً فارغًا في مخيم للنازحين بمدينة غزة – 18 مايو 2025 (تصوير: ساهر الغرة)

فتى يحمل وعاءً معدنيًا فارغًا بانتظار وجبة في مخيم نازحين وسط مدينة غزة – 18 أيار/مايو 2025 (تصوير: ساهر الغرة/زوما للصحافة – من سلسلة “لا مفر” الحائزة على جائزة الفيزا الذهبية)

حملناه جانبًا، وأعطيناه صحنًا من الطعام، وطلبنا منه أن يبتعد عن هذا الجحيم البشري. وحين نظرتُ حولي، رأيت مشهدًا تقشعر له الأبدان: أمهات وأطفال، عيونهم مليئة بالجوع، والخوف من الرجوع فارغي الأيدي. بعضهم يبكي، أياد ترتفع بحثا عن دورٍ أو نصيب. بعضهم كان بالأمس مكتفيا لا يتخيل أن يقف اليوم في طابور معونة. والآن يبكون من أجل صحن شوربة.  رفعتُ الكاميرا، والتقطت صورة لسيدة تصرخ وقد رفعت يديها إلى السماء وسط الزحام، وطفل يبكي بجوارها.

هذه الصورة أدرجتُها في سلسلتي، لأنها تروي نوعا آخر من الألم.. الألم الذي لا يرى. حرب تهين الكرامة بالجوع، وتقتل الناس ببطء دون قذائف. كلما نظرتُ إلى تلك الصورة، أشعر بواجبي يتجدّد. واجب أن أروي مثل هذه القصص المخفية خلف دخان الحرب… قصص من لا يصرخون… لكنهم يتألمون كل يوم.

 نساء فلسطينيات يحاولن الحصول على طعام في مطبخ خيري بخان يونس – 29 نوفمبر 2024

نساء ينتظرن الحصول على وجبات في مطبخ خيري بخان يونس وسط أزمة غذائية – 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 (تصوير: ساهر الغرة/زوما للصحافة – من سلسلة “لا مفر” الحائزة على جائزة الفيزا الذهبية)

 

«الإنساني»: ما الذي تعلّمته عن البشر حين يفقدون كل شيء؟

للأسف، أكثر ما لمسته هو وصول الكثيرين إلى حالة اللامبالاة. وهذه ربما أخطر آثار الحرب على روح الإنسان. رأيت في غزّة أناسًا فقدوا، من فرط الألم، أي رد فعل طبيعي. كأن مشاعرهم انطفأت من هول ما مرّ عليهم. أذكر مشهدًا مؤلمًا انتشر عبر الإنترنت من غزّة: رجل يحمل جثمان قريبه وسط الشارع، ويبكي بحرقة، بينما الناس حوله مستعجلون لدرجة أن بعضهم مضى من جواره وكاد يدوس على أطرافه، وهو جالس على الأرض محتضنًا فقيده. كأن منظر الموت أصبح عاديًا في الشارع، لا يلفت النظر إلا لثواني، ثم يمضي كلٌّ إلى شأنه. هذا المشهد هزّني جدًا، لكنه أصبح واقعًا متكررًا.
كثيرون هنا باتوا يقولون: “لم يعد لديّ ما أخسره.” … أن يمسي الموت حدثًا معتادًا، وأن يفقد الإنسان غريزة الحفاظ على نفسه كما يجب كارثة نفسية جماعية أفرزتها سنوات الحرب.

 

«الإنساني»: أخيرًا، ما الذي تقوله اليوم لمصور شاب يقف أمام شارع مليء بالحكايات، لكنه لا يعرف من أين يبدأ؟

نصيحتي الأولى لأي مصوّر ناشئ هي أن يبدأ من نفسه: أن يسألها بصدق، ما الذي أبحث عنه بالكاميرا؟ ما الذي يشدّني إلى هذا العالم؟ وما القصة التي أريد أن أرويها؟ التصوير مجالات، وكل مجال له لغته وروحه. حين تعرف أين تجد قلبك ينبض، تبدأ رحلتك الحقيقية. النجاح في هذا المجال لا يأتي فجأة، بل يتشكّل كما تتشكّل الصورة: ببطء، وبصبر، وبنور داخلي. احترم من تصوّرهم، لا تتعامل مع الكاميرا كأنها سلاح، بل كأنها ضوء. كن صادقًا، ولا تخن القصة التي ترويها.

 

 جائزة الفيزا الذهبية الإنسانية

«الفيزا الذهبية الإنسانية» (ICRC Humanitarian Visa d’or Award) هي جائزة سنوية أُطلقت عام 2011 من قِبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) ضمن مهرجان Visa pour l’Image للتصوير الصحافي في بيربينيان، فرنسا

تمنح الجائزة لمصور صحافي نشر تقريرًا فوتوغرافيًا يسلّط الضوء على قضية إنسانية مرتبطة بصراع مسلح، سواء كان ذلك من خلال تغطية العنف ضد المدنيين، أو تأثير الحروب على الرعاية الصحية، أو الأوضاع الإنسانية للنساء، أو النتائج الكارثية للحروب الحضرية.

تُعدّ هذه الجائزة تكريمًا لالتزام المصورين بالإبلاغ الموضوعي والمراعي للكرامة الإنسانية، ولتعزيز الوعي بالمبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي دون تحيّز أو ترويج سياسي.


[1] آرولان مصوّرة وثائقية تعمل بين فرنسا والضفة الغربية، وتركز على الحياة المدنية وقضايا حقوق الإنسان في المناطق المتضررة من النزاع. ↩︎

Share this article

تعليقات

There is no comments for now.

Leave a comment