كيف يتحول المحتوى إلى ضرر: مساهمة المعلومات الضارة في إلحاق الأذى بالمدنيين

قضايا إنسانية / وجهات نظر

كيف يتحول المحتوى إلى ضرر: مساهمة المعلومات الضارة في إلحاق الأذى بالمدنيين

يستمرّ تطور المعلومات الضارة القادرة على إلحاق الأذى بالمدنيين أو تعزيز احتمال تضررهم منها سواء عن طريق وسائل الإعلام التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الحملات أو الأنشطة المنسّقة لنشر المعلومات. ولكن تبقى الأدلة غير كافية للبرهنة على عوامل الخطر وتبقى الحلول غامضة.

في هذا المقال، يستعرض المسؤول السابق في قسم الحماية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كريس برو، نماذج سابقة لمعلومات ضارة والتي غالبا ما يُشار إليها بعبارة المعلومات الخاطئة والمعلومات المُضلّلة وخطاب الكراهية (أو المختصر باللغة الإنجليزيةMDH)، وتلحق الضرر بالمدنيين ليُحدّد أنماط عوامل الخطر الكامنة فيها ومدى إمكانية معرفة الحالات والظروف التي قد تتسبب فيها هذه المعلومات في الإضرار بالمدنيين.

طالما كانت المعلومات الضارة عنصرا مرتبطا بالنزاع والعمل الإنساني ما انفك يتطوّر عبر الزمن. وفي عالم يشهد ظهور وسائل تكنولوجية جديدة للتواصل بين البشر، برزت قنوات جديدة لنشر المعلومات الضارة وإرباك قدرتنا على فهم ما يدور حولنا واتخاذ قرارات مستنيرة في الوقت المناسب. وقد ترد هذه المعلومات الضارة في صيغة مطبوعة أو عن طريق الراديو أو التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها قادرة في جميع الحالات على إلحاق ضرر بالغ بالمدنيين وبقدرتهم على تأمين سلامتهم وكرامتهم. فكيف إذا يمكننا أن ننتقل من مجرّد التعرّف على المحتوى الذي قد يكون ضارّا إلى درء تداعياته السلبية والحد من تأثيرها على الناس؟

قد يكون من الصعب أن نُحدد يقينا العلاقة السببية بين المعلومات الضارة وما تلحقه من أذى بالمدنيين، إلا أنه من الأهمية بمكان أن نفهم التفاعل بينهما. ويسعى هذا المقال إلى تقديم بعض نقاط الانطلاق لإشراك أوساط العمل الإنساني والمجتمع المدني وواضعي السياسات في نقاش أوسع نطاقا بشأن العلاقة بين المحتوى والضرر من أجل ترشيد عمليات تقييم مخاطر المحتوى الضار والوقاية منها والسُّبل الممكنة للتصدّي لها.

ولهذا الغرض استندت هذه المقالة إلى دراسة نظريّة لأحداث وقعت في ستة سياقات مختلفة وشهدت نماذج لمعلومات ضارة متاحة للعموم. واستند التحليل إلى الأنماط التي لاحظنا وجودها في العناصر الزمنية والسياقية الكامنة والتي تسببت في ترسيخ الرابط بين المعلومة والإضرار بالمدنيين. واستخدم التحليل نماذج من أفغانستان وأرمينيا/أذربيجان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وميانمار وسورية. وحتى في السياقات التي تختلف عن بعضها اختلافا جذريا، يعدّ انتشار الاتصالات والتغلغل السريع للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والاستقطاب السياسي والاجتماعي، وتراجع الثقة في مصادر الإعلام التقليدية عوامل أساسية تزيد من قدرة المعلومات على التسبب بالضرر الجسدي أو النفسي أو غيره من الأضرار للأفراد. ومن خلال هذا التحليل، قسمنا عوامل الخطر إلى ست فئات كبرى: نزاعات مسلحة سابقة و/أو جارية؛ استقطاب سابق و/أو بداية الاستقطاب؛ التضييق على المساحة المتاحة للمعلومات؛ الدعاية والأنشطة الإعلامية؛ ضعف التحكم في المحتوى.

 نزاعات مسلحة سابقة أو حالية

تبلغ المعاناة البشرية الناجمة عن الحرب مستويات خطيرة ولاشك، ولكن المعلومات الضارة قادرة على أن تزيد الطين بلة. فأثناء النزاع، قد يصبح تلقي المعلومة الموثوقة، وفي الوقت المناسب، مسألة حياة أو موت وقد يؤدي تلقي معلومة غير دقيقة أو انهمار سيل من المعلومات في الوقت نفسه إلى تداعيات وخيمة. إذ قد تحول المعلومات غير الموثوقة دون حصول ال

ناس على ملاذ آمن، أو قد تدفعهم إلى الإجلاء عبر ممرّات محفوفة بالمخاطر، أو قد تقوّض فرصهم في الحصول على خدمات أساسية أو مساعدة إنسانية.وشهد كل سياق من السياقات المشمولة بالتحليل نزاعات مسلحة دارت خلال السنوات العشر الأخيرة.

وفي كل من هذه الحالات المختلفة، شكل وجود النزاع عامل خطرشامل ومحفزا لظهور المعلومات الضارة وانتشارها مما تسبب في إلحاق الضرر بالمدنيين، وذلك جراء الاستقطاب وانعدام الثقة والممارسات الرقابية والعنف الطائفي وخطاب الكراهية والحملات المنسّقة لنشر المعلومات التي غالبا ما تقترن بسياقات مماثلة.وحين يطول النزاع، أو يُستغل نزاع قديم كذريعة لاختلاق روايات من أجل تحقيق انتصارات سياسية أو اجتماعية، قد تصبح الحقيقة عصيّة على الكشف وينتشر الاستقطاب في المجتمعات وتترسخ المعلومات الضارة.

ولوحظ في بعض السياقات استحضار بعض الأقاويل الضارة لتأجيج العنف الطائفي من أجل تحقيق مكاسب سياسية.

 استقطاب سابق أو بداية الاستقطاب

من بين عوامل الخطر العامة الأخرى نجد عاملا لا يتعلق فقط بالمعلومات الضارة التي تؤدي إلى إلحاق الأذى بالمدنيين إنما أيضا مرتبط بالنزاعات المسلحة بشكل عام، وهي  الانقسامات الاجتماعية السابقة أو التي نشهد بدايتها. وسواء أكان الاستقطاب سياسياً أو اجتماعيًا أو دينيًا أو عرقيًا أو غير ذلك فإنه قد سجّل حضورًا في كل سياق من السياقات الستة الخاضعة للدراسة في هذا التحليل. ويمكن أن ينجم الاستقطاب عن مجموعة متنوعة من العوامل بما في ذلك النزاعات السابقة والنزوح والتنافس على سُبل العيش، وأوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والفظائع الجماعية والمظالم عبر التاريخ والعنف الطائفي وانعدام الاستقرار السياسي أو إحداها.

ويؤدي المناخ الاستقطابي إلى انتشار المعلومات الضارة، ولكنه قد يكون أيضا ناجمًا عنها. وفي مناخ مماثل يتسم عادة بغياب الثقة بين مختلف الفئات والمجموعات، قد تتحول المعلومات الضارة بكل سهولة من مجرد إشاعة إلى أعمال عنف. وفي العديد من الحالات التي وردت في السياقات المشمولة بهذا التحليل، حفّزت الشائعات التي تتغذّى على المظالم والانقسامات الشديدة نشر البيانات الشخصية الخاصة بالأفراد بناء على أصولهم العرقية، وكان بإمكانها التسبب في عمليات قتل دون محاكمة واستهداف المؤسسات التجارية الصغرى والاعتداء عليها، والتحريض على طرد مجموعات بعينها أو قتلها، وأعمال الشغب، وخطاب الكراهية الذي يستهدف الشخصيات المؤثرة أو قد يصدر عنها

 ضيق المساحات المتاحة للمعلومات

تتسم كل حالة من الحالات المشمولة بالتحليل بضيق المساحة المتاحة للآراء والخطابات المعارضة وهو ما يهيء لمناخ غير سليم لتداول المعلومات حيث تهيمن خطابات على حساب خطابات أخرى أو تقيّد إمكانية الحصول على المعلومات. وسبق ورأينا أن الانتشار المدمّر للأقاويل المتحيّزة في صفوف عموم الناس بهدف تجريد الأفراد أو المجموعات من إنسانيتهم يشكل محركًا قويًا للتحريض على العنف. ويمارَس هذا التضييق بشتّى الطرق، بما في ذلك مراقبة المتظاهرين والمعارضين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ورصد وسائل الإعلام ومنابر التواصل الاجتماعي مما يفعّل الرقابة الذاتية، والتعطيل الكلي والمتكرر لوسائل الاتصال وفرض القيود على وسائل التواصل الاجتماعي ممّا يحد من قدرة مستخدميها على الحصول على معلومات منقذة لحياتهم.

وتقوّض هذه العوامل قدرة الناس على التواصل مع أحبائهم وتسمح بانتشار الأقاويل التي تؤثر على سلامة الآخرين أو كرامتهم. وقد تؤدي عمليات تعطيل الاتصال إلى زيادة تأثير الجاليات المقيمة بالخارج على الأقاويل المتداولة محليًا وعالميًا ما قد يوسع دائرة الضرر لتتجاوز السياق الأصلي.

 الدعاية والأنشطة الإعلامية

لاحظنا في خمسة سياقات من بين الستة المشمولة بالتحليل أن تفاعل ديناميات النزاع ولجوء الأطراف التابعة للدولة وغير التابعة للدولة إلى الأنشطة الإعلامية لغايات استراتيجية من بين العوامل التي تزيد من خطر تضرر المدنيين. ولطالما كانت هذه الأنشطة الدعائية جزءًا لا يتجزأ من النزاعات المسلحة ولا تعد غير قانونية في حد ذاتها ولكنها قد تشكل انتهاكا للقانون الدولي الإنساني ومن شأنها أن تزيد من خطر الإضرار بالمدنيين عبر نشرها للأقاويل التي تعزز تجريد المجموعات المعارضة من إنسانيتها، باستخدامها خطاب الكراهية ولغة التحريض والتمييز ضدها.

وفي السياقات القائمة على الاستقطاب والترابط الرقمي، يمكن لهذه الأقاويل أن تنتشر كالنار في الهشيم وتشعل العنف بين المدنيّين. وفي حالات أخرى، قد تُستغلّ الأقاويل الصادرة عن الضحايا لترسيخ الانقسامات العرقية الموجودة أصلًا وتعميقها، ولتسهيل التجنيد لمصلحة الأطراف المسلحة، وتبرير التدخل العسكري المباشر لاحقا.

علاوة على ذلك، يمكن للمعلومات الضارة، إذا ما صدرت بالتزامن مع نزاع قائم ، أن تؤدي إلى تأجيج التوترات والشعور بالقلق وانعدام الأمن، وتساهم بذلك في بث الخوف في نفوس المدنيين. وإلى جانب الأنشطة الإعلامية، يمكن أن تؤدي الحملات الإلكترونية المنسّقة التي تستهدف الإضرار بصورة المنظمات الإنسانية أو العاملين في مجال الصحة أو بسمعتهم، إلى التأثير سلبًا على قدرتهم على إيصال المساعدة لمن يحتاجونها وعلى تهديد سلامتهم، وهو ما يضع أنشطتهم والمساعدة الملحّة التي يقدمونها على المحكّ.

إلى ذلك، قد يؤدي السيل العارم من الأقاويل المتواترة والمتناقضة إلى إرباك المدنيين وإنهاكهم وإخماد صوتهم. وبالتزامهم الصمت قد تصبح الحقيقة بعيدة المنال خاصة في ظل الحملات المنسقة المستمرة، وقد تتراجع الثقة في المصادر المؤسسية للمعلومات وتضعف فرص حصول الضحايا على المساعدة التي يحتاجون إليها للتعامل مع الصدمات وغيرها من روافد المعاناة.

 ضعف التحكم في المحتوى

ختاما، برز ضعف التحكم في وسائل التواصل الاجتماعي في ثلاث من الحالات الخاضعة للتحليل. وشهدت هذه السياقات الاستغلال المستمر لدائرة المتابعين عن بعد (خاصة على منصات التواصل الاجتماعي) لتمرير المعلومات الضارة ونشرها، في ظل غياب تحكم مناسب وكاف في المحتوى أو عدم الحرص على توفيره من قبل المنصات. وسهّل ضعف التحكم هذااستخدام المنصات من قبل الأطراف ذات النوايا الخبيثة لبث الخوف والكراهية والتشجيع على العنف ضد خصومهم. وفي معظم الحالات، اقترن ضعف التحكم بسرعة انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والافتقار إلى مهارات الإلمام بالإعلام الرقمي التي تساعد على التمييز بين المعلومة الحقيقية والزائفة.

ويتزامن ذلك مع تعمّد مختلف الأطراف استخدام هذه المنصات ببراعة وبأبخس الأثمان واستغلال الأساليب النشر على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر محتواها وتحقيق أجندتها الخاصة. ومن الجدير بالذكر أنه حتى في السياقات التي يكون فيها الاتصال بالإنترنت واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي محدودا، يبقى الناس معرّضين للمعلومات الضارة وتداعياتها، إذ غالبا ما تنتشر بشكل طبيعي من خلال الإعلام التقليدي ونُظم تبادل المعلومات. ولكن وجبت الإشارة أيضا إلى أن احتمال تعرض المدنيين لخطر الإيذاء يتزايد إذا ما استُخدمت المنصات على نطاق واسع في ظل شُح ضمانات التصدي للمعلومات الضارة وبطيء تفعيلها أحيانا.

 الخاتمة

نُلاحظ من خلال كل حالة من الحالات المشمولة بالتحليل تزايد احتمال تضرر المدنيين من المساحة المخصصة لنشر المعلومات جرّاء الاستقطاب الخطير على الصعيد الاجتماعي و/أو الديني و/أو السياسي، وبسبب النزاع المسلح الجاري والمنظومة المشحونة للمعلومات ووجود حالات سابقة لانتشار المعلومات الضارة. وفي بعض السياقات، قد يقترن الانتشار السريع وغير المُكلف للاتصالات والإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بنقص في ثقافة الإعلام الرقمي وضعف القدرة على التحكم في المحتوى وقد يزيد من احتمال التعرض للخطر.

ولكن وجب التنويه مجددًا إلى أن الوصول إلى المنابر الرقمية لا يعتبر بأي حال من الأحوال شرطا أساسيًا يُحتّم إلحاق المعلومة الضارة الأذى بالمدنيين. وفي مختلف هذه السياقات، تبين أن أكثر الأشكال التي يظهر فيها هذا الضرر هي في التشجيع على العنف الذي يرتكبه مدنيون ضد مدنيين آخرين. فحين تلتقي العوامل السياقية بخطاب الكراهية والمعلومات الملفقة أو غير الدقيقة قد تشتعل سريعًا شرارة العنف الذي يمارسه أفراد أو مجموعات ضد آخرين. ويحدث ذلك أحيانا عن طريق تنسيق جهود الدولة والأطراف غير التابعة للدولة، ولكن قد يحدث في أحيان أخرى جراء إشاعات أو شكاوى أو معلومات خاطئة انتشرت على نحو طبيعي.

إذا ما الذي علينا فعله حيال ذلك بصفتنا عاملين في المجال الإنساني؟ إن تحديد عوامل الخطر ليس إلا خطوة واحدة ضمن استجابة أشمل بكثير تهدف إلى تقويض قدرة المعلومات الضارة على إلحاق الأذى بالمدنيين. وينبغي بلورة منظور تحليلي أوسع وأكثر موضوعية وهيكلية للتعرف على عوامل الخطر وذلك من أجل تغذية قاعدة الأدلة بنماذج أو أنواع مختلفة من الضرر والتي تتوسع شيئًا فشيئًا.

كما يتعين وضع آليات لتنسيق الاستجابة تدعيمًا للانسجام والتكامل بين أنشطة الجهات الإنسانية والمجتمع المدني والمنظمات الدولية. ويمكن لنا أن نستشفّ من أنماط عوامل الخطر التي تزيد من قدرة المعلومات على الإضرار احتمالية تسبب تلك المعلومات بالضرر بالمدنيين في سياقات مستقبلية أخرى. وبالتعرف على هذه الأنماط، ستتمكن المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني وواضعو السياسات من الاستعداد على أحسن وجه لتقييم احتمالات تسبب المعلومات في الإضرار بالمدنيين بينما نسعى إلى التكيف مع التقدم التكنولوجي الذي ينعكس على الحروب الحديثة ومناخ التواصل.

*Chris Brew  المسؤول السابق في قسم الحماية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذا المقال نشر باللغة الإنكليزية في مدونة “Law and Policy blog”الصادرة عن اللجنة الدولية في جنيف. From content to harm: how harmful information contributes to civilian harm (icrc.org)

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا