عندما كنت صحفيًّا متدربًا في غرفة الأخبار، نصحني محرر متمرس في بداية مسيرتي المهنية قائلًا: «عندما يشهد شخص مأساة أو يتحمل وطأتها، قُده إلى قمة جبل الصدمة، ثم أنزله إلى سَفحِه».
وبعد تلك اللحظة بستة عشر عامًا، لا زلت أجد إجراء مقابَلات مع الناجيات من العنف الجنسي اللائي هربن من منطقة نزاع، مهمَّةً في غاية الصعوبة، يثقلها إحساس بمسؤولية عن «حكمة إدارة الأمر». وأحيانًا يتعين أن أقضي ساعات في إعادة صياغة الأسئلة مسبقًا، ولا يغيب عن ذهني أن الإخفاق في إدارة المقابلة قد يكون محفزًا يستثير مشاعر الناجية.
من المستبعد جدًّا أن يحصل القائم على إجراء المقابلة على شهادة صريحة وصادقة عندما يفتتح أسئلته بالآتي: «أخبريني عن أسوأ شيء حدث لكِ على الإطلاق؟». فإجراء مقابلة مع إحدى الناجيات يتطلب نسج رابط متين معها، ويكون النهج الأكثر أمانًا الذي أتبناه في كثير من الأحيان هو طرح الأسئلة بطريقة التسلسل الزمني.
يُعد إقناع شخص ما برواية قصته بترتيب زمني متسلسل طريقةً بسيطة للتأكد من حصول القائم بالمقابلة على جميع الحقائق والتفاصيل على نحو منهجي. ويساعد هذا النهج أيضًا في ضمان عدم دفع الناجية إلى رواية الأحداث الصادمة مرارًا وتكرارًا بلا إحساس.
لكن نهج التسلسل الزمني في إجراء المقابلات يكاد يكون مستحيلًا عندما لا يسعك تخمين لحظة انفتاح باب الرعب فعليًّا بالنسبة للناجية من الاغتصاب التي هربت من الحرب أو إبادة جماعية.
مقابلة آنا
كان هذا هو الموقف الذي واجهتُه منذ بضع سنوات، عندما كنت أجري بحثًا في واحدة من أزمات اللاجئين الكبرى في التاريخ الحديث. ما زلت أتذكر المشهد الذي وقعت عليه عيناي في مخيم للنازحين داخليًّا وأنا أقف على قمة تل.
بدا المشهد كأنه بحر لا حد له من أكواخ مصنوعة من القماش المشمع والعصي وأكياس المساعدات الغذائية القديمة، بدا ممتدًّا على مساحة أكبر من مدن أوروبية عديدة. أسمع صوت المطارق وأرى مجموعات هائلة من البشر تعيد بناء حياتها بعد تحملها فظائع يعجز عن وصفها اللسان، فأتفكر في صمود هؤلاء المتضررين وأقدره حق قدره.
لكن بمرور الأيام، سينفجر هذا التفاؤل كفقاعة ويذهب هباءً، مع ظهور الموجة الأولى من القصص المأساوية من الناجيات من العنف الجنسي من المخيمات.
وافقتْ إحدى هؤلاء الناجيات على إجراء مقابلة مع فريقنا. قبل أسابيع قليلة، كانت الناجية قد شهدت مذبحة وقعت في قريتها. ولكي نصل إليها كان علينا المرور عبر جروف وسط الأصوات المختلطة بالمخيم حيث توجد متاجر وأسواق.
سرعان ما اختفى ضجيج الباعة المتجولين عندما وصلنا إلى صف من الخيام النائية. فتحنا أحد الأبواب، وكانت تنتظرنا مع أخت زوجها، والمكان يلفُّه الظلام.
عندما تنتج فيلمًا وثائقيًّا عادةً ما يكون هدفك تصوير ثلاثة مشاهد في كل مقابلة. لكن هذه المرأة – لنسمِّها آنا – لم ترغب في الخروج. بل لم ترغب في ترك مقعدها، من فرط الرجفة التي انتابتها وهي تستعيد الأحداث الصادمة.
وبطبيعة الحال، احترمنا رغباتها. نصبنا الكاميرا وضبطنا الإضاءة في الخيمة. عندما بدأنا المقابلة، حاولتُ كشف النقاب عن قصتها بالترتيب الزمني، غير أن قصة مجتمعها المحلي خلت من النقاط المضيئة التي يفضَّل البدء بها في الحكاية، فلا أوقات سعيدة يمكن الانطلاق منها. عاش مجتمعها المحلي في ظل القمع والخوف لسنوات.
ما بين دقيقة وأخرى في أثناء سرد آنا وأخت زوجها ما حدث، كان صوت عويل إحداهما يعلو. كان هذا الانهيار العاطفي مثل نِصالٍ هوت على روحي تمزقها. بعد سؤال تلو سؤال، وصلنا ببطء إلى قمة الجبل، لكن بدا لي كما لو أنني أقودهما عبر حقل ألغام أرضية.
تحدثت آنا ببطء: «في الثامنة من صباح يوم أربعاء جاء مسلحون وبدأوا في إطلاق النيران… طعنوا رجالنا وذبحوهم. استغرق قتل جميع الرجال إلى ما بعد الظهر. ثم أخذوا النساء اللواتي لديهن أطفال. عندما أخذوا الأمهات، ألقوا بأطفالهن أرضًا… وقتلوهم».
سألتها عما حدث لطفلها، الذي كان عمره 16 شهرًا. فأجابت: «أخذونا إلى حقل مفتوح، وفي الطريق انتزعوا طفلي من بين يديَّ وطرحوه أرضًا، ثم قتلوه… كان الطفل يبكي ويصرخ أمامي مباشرة. عندما توقفت عن البكاء ضربوني وأجبروني على المشي مرة أخرى».عندما استمعتُ إلى ترجمة جوابها، ركزتُ عينَيَّ على عينيها.
كانت لغة جسدي هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها أن أظهر لها أن كامل اهتمامي منصرف إليها. في تلك اللحظة امتلأت مقلتاها بالدموع التي أوشكت على التحرر من جفنيها.
تابعت آنا: «نزعوا كل ملابسي. بدأوا في اغتصابنا جميعًا. ثم طعنوا من كانوا لا يزالون أحياء بالسكاكين وتركوهم ينزفون حتى الموت». وأشارت إلى أخت زوجها، التي غطى الإحباط وجهها وقالت: «اغتصبوا أخت زوجي وضربوها بساق البامبو».
عجزتُ عن الكلام عندما استمعتُ إلى ترجمة كلامها. كان ملجئي الوحيد هو الترتيب الزمني، وغاية ما استطعت استحضاره هو أن أسألها: «هل يمكنك إخباري بما حدث بعد ذلك؟». لقد شعرت بالحزن والشفقة.
قالت: «لا أعرف ماذا حدث لي بعد ذلك. كان رأسي ينزف. وكُسر فكِّي». ربما جرها الجنود إلى منزلها بعد تعرضها للاعتداء الجنسي. وأكملت: «عندما استيقظت، كان البيت أحمر بلون النار والباب مغلقًا». قالت آنا إنها بمحض معجزة تمكنت من الفرار عبر شق في كوخها.
وصفتْ ما حدث بعد ذلك بالتفصيل: «عندما احترق منزلنا، قلنا لأنفسنا ما دامت عناية الله أنقذتنا، فلن نعود إلى تلك الأرض مرة أخرى. فبعد الكثير من التعذيب الذي تعرضنا له لا أستطيع أن أذكر مجرد اسمها. مات جميع أفراد عائلتنا. فكيف يمكن أن نعود إليها؟ لقد عانيت كثيرًا وكدت أموت. قال الناس إننا لن ننجو؛ لأننا نُقلنا عبر الحدود في أكياس. وكنا ننزف على طول الطريق».
بعدما مرت ثلاث سنوات، عندما أنظر إلى الماضي وأتأمل في قصة هذه الناجية، أجد أن ما صدمني حقًّا هو أنه خلال الترتيب الزمني لحياة آنا، رويت قصتها المليئة بالخوف والمستعرة بالنار – ذلك الجرم الوحشي المتمثل في الاعتداء الجنسي – بنبرةٍ بدت كأنها هامش على شيء أكبر. لم تكن قمة جبل. وهذا في حد ذاته، بالنسبة لي، هو الهول!
نُشر هذا النص في الأصل بالإنجليزية في مدونة القانون الإنساني والسياسات التي تصدر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وقد نقل عاطف عثمان النص إلى العربية.
اقرأ أيضا عن العنف الجنسي في النزاعات المسلحة:
هيلين دورهام- نوبل للسلام 2018: العنف الجنسي في الحروب تحت دائرة الضوء
كولين رابنو: العنف الجنسي كوسيلة للحرب يعززها غياب آليات العقاب
العنف من منظور النوع الاجتماعي: حالة الذكور في الحرب المعاصرة
العنف الجنسي: وصمة عار في نزاع جنوب السودان
تعليقات