إنجي صدقي: الكونغو تعيش تحت نير عدة نزاعات مسلحة لا نزاعًا واحدًا

العدد 66 / من الميدان

إنجي صدقي: الكونغو تعيش تحت نير عدة نزاعات مسلحة لا نزاعًا واحدًا

ICR

يقف الناس في جمهورية الكونغو الديمقراطية على أرض تحوي أغنى الأرصدة بالثروات المعدنية. هي دولة شاسعة المساحة وغنية بسكانها، ومع ذلك فهي من أكثر البلاد فقرًا في العالم، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى النزاعات التي مزقت أوصال البلاد وأنهكتها خلال الأعوام العشرين الماضية. يتعرض السكان في البلاد لظروف يصعب العيش أو التأقلم معها، كالنزوح والتشتت عن أفراد العائلة. بالإضافة إلى التعرض الدائم لمخاطر الموت أو الإصابة. في هذا العدد التقينا مع إنجي صدقي، المسؤولة الإعلامية التي أنهت مهمتها مؤخرًا في تلك البلاد. إنجي لم تكن ضيفة عابرة على الكونغو، فقد عاشت طفولتها هناك. رصدت لنا الملامح والخطوط الأساسية للنزاع المسلح والأزمة الإنسانية في الكونغو.

الإنساني: منذ سنوات طويلة، ترزح جمهورية الكونغو الديمقراطية تحت نير أزمة إنسانية طاحنة، والمشكلة أننا لا نسمع كثيرًا عن هذه الأزمة. هل يمكن أن تخبرينا بأبعاد هذه الأزمة، وما هي ملامح الوضع الإنساني في الكونغو؟

إنجي: الأزمة الإنسانية الحالية في الكونغو ممتدة من حوالي ربع قرن. وللأسف هي أزمة معقدة للغاية، لأننا لا نتحدث عن طرف ضد طرف آخر، ولكن أطرافًا مختلفة تتناحر فيما بينها. هناك أنواع مختلفة من النزاعات داخل البلد؛ هناك نزاع ما بين الدولة والمجموعات المسلحة، هناك نزاعات ما بين المجموعات المسلحة نفسها التي يبلغ عددها نحو 90 مجموعة مسلحة. من ناحية أخرى، هناك نزاعات عرقية وقبلية، وهناك تراكمات لنزاعات مسلحة في دول الجوار، هذا كله إضافة إلى العنف الموجود داخل المدن الكبرى. نحن – إذن – لا نتحدث عن نزاع واحد فقط، بل مجموعة من النزاعات المسلحة أفضت إلى أزمة إنسانية كارثية، خاصة في ظل عدد سكان البلاد الكبير الذي يناهز ثمانين مليونًا، ومساحة البلاد الشاسعة، فهي ثاني أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة؛ الذهاب من غربي الكونغو إلى شرقها يعادل الذهاب من بولندا في شرق القارة الأوروبية إلى البرتغال في الغرب.

إنجي صدقي في الكونغو-تصوير: اللجنة الدولية

الإنساني: هل يمكن أن توضحي لنا ملامح هذه الأزمة الإنسانية؟

إنجي: بسبب هذا النزاع المعقد تحدث موجات نزوح متتابعة، وهو ما يؤثر في الأمن الغذائي داخل الكونغو بسبب معاناة السكان في الزراعة وهجر أراضيهم. فمع أن البلاد تتمتع بمستوى عالٍ من خصوبة الأراضي الزراعية علاوة على اعتماد المجتمع نفسه على الزراعة، إلا أن هناك مناطق كثيرة تكتنفها حالة من الفقر المدقع جراء النزاع الممتد. في منطقة الكاساي، وسط البلاد، يعاني أطفال العديد من القرى من سوء التغذية. لقد رأيت يوميًّا أسرًا كاملة تبحث عن القواقع بين الأشجار ليأكلوها، إذ لا يوجد أي شيء آخر يسدون به الرمق. في مناطق أخرى، رأيت في الأسواق اعتمادًا كاملًا على الأغذية المجففة مثل الذرة والفول المجفف والسمك المجفف، لكن لا توجد أي محاصيل زراعية طازجة. هذا النمط الغذائي يُحدث أزمات صحية عميقة للمجتمع هناك. وبخصوص الصحة، فهذه أزمة أخرى نظرًا لنقص الإمكانيات، علاوة على صعوبة الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية بسبب بعد المسافة. هناك مثلًا قرى في شبه جزيرة أبواري (جنوب شرقي الكونغو) تبعد عن أقرب مركز طبي نحو خمس ساعات بالمراكب الخشبية التي هي وسيلة النقل الوحيدة. وطبعًا حالة المراكب يرثى لها إذ إنها بدائية جدًّا. ولو حدث أن تعرض شخص لوعكة صحية طارئة ليلًا، ستكون هناك صعوبة بالغة أن يُنقل إلى المركز الطبي للحصول على العلاج. وحتى تكتمل قتامة الصورة، فهناك الأوبئة التي تندلع في البلاد مثل الملاريا، وهو وباء سهل العلاج، إذا ما توفرت الخدمة الصحية. بالإضافة إلى كل ذلك تعاني الكونغو منذ حوالي سنة ونصف من تفشي وباء الإيبولا في الشمال الشرقي للكونغو، في مناطق مثل بيني وبوتنمبو ومانجيناو. في عام 2018، تمكنت اللجنة الدولية من سد بعض هذه الاحتياجات من خلال توفير الرعاية الصحية لحوالي 400 ألف شخص، وتقديم المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية وأدوات الزراعة والبذور لنحو نصف مليون نازح أو عائد. ولكن بالطبع هذه نسب صغيرة بالنسبة للاحتياجات المتنامية يومًا بعد يوم.

ماذا عن النزوح، نقصد فرار السكان المدنيين جراء أعمال العنف؟

النزوح من ضمن المشاكل الكبيرة في البلاد. عندما يندلع نزاع سواء نزاعات قبلية أو ما بين الجماعات المتصارعة، يبدأ نزوح الناس بشكل عشوائي، تتشتت عائلات كثيرة وتضطر إلى المبيت في الأحراش لمدة شهر أو اثنين، بدون مأوى أو غذاء أو ماء صحي حتى للشرب، وهو ما يعني وضعًا إنسانيًّا صعبًا للغاية، ما يعرضهم للأوبئة. كثير من الأطفال في هذه الرحلة يفقدون أسرهم. وعند عودتهم إلى قراهم يجدون أنهم فقدوا كل شيء سواء ممتلكاتهم الخاصة أو بيوتهم أو ماشيتهم أو أراضيهم الزراعية. مثلًا في بلدة كاكينجي في مقاطعة الكاساي وسط الكونغو، هجر جميع السكان هذه البلدة (الذين يُقدر عددهم بنحو 10 آلاف أسرة أو 60 ألف شخص) بسبب اندلاع النزاعات العرقية عام 2018. وعند عودتهم كانت معظم البيوت قد أحرقت والممتلكات قد نهبت ولم يتبق الكثير. فى آب/ أغسطس الماضي وزعت اللجنة الدعم المادي لجميع سكان هذه البلدة حتى يستطيعوا بناء منازلهم وبدء مشاريع اقتصادية صغيرة وتغطية المستلزمات الدراسية لأبنائهم.

في تقديرك لماذا لا تحظى الأزمة الإنسانية بما تستحق من تغطيات إعلامية، هناك أزمات إنسانية ضخمة في العالم في القارة الأفريقية وجدت فرصة في أن تتصدر عناوين الأخبار، لكن في الكونغو يبدو الأمر مختلفًا، كيف ترين هذه الصورة؟

بسبب امتداد النزاع داخل الكونغو لأكثر من ربع قرن، يبدو أن الإعلام الدولي قد أصابه الملل من هذه الأزمة. لكن مؤخرًا بدأ الإعلام يهتم بالوضع الإنساني في الكونغو بسبب تفشي مرض الإيبولا، وهو ثاني أكبر تفشٍّ للمرض في التاريخ كله. بدأ الإعلام يهتم مجددًا بالنزاع داخل الكونغو. حاولنا في قسم الإعلام في اللجنة الدولية انتهاز الفرصة ليس فقط للتحدث عن مرض الإيبولا وعن المعاناة الناجمة عنه، ولكن أيضًا لتسليط الضوء على المشاكل الأخرى المتراكمة مثل مشكلة الأمن، الغذاء، توفر الرعاية الصحية، هذا خلافًا للمشاكل الأخرى المتعلقة بانتهاكات القانون الدولي الإنساني.

قبل ثلاثة أعوام، اندلعت موجة جديدة من العنف في البلاد، من وجهة نظرك، كيف فاقم ذلك من الأزمة الإنسانية المتفاقمة أصلًا في البلاد؟

بالتأكيد عندما يندلع أي نزاع تكون النتيجة أن آلافًا من الأسر تهجر المكان الموجودة فيه، وتحاول النزوح إلى أماكن أكثر أمانًا. للأسف هذه الأسر إما أنها تفقد أطفالها أو تفقد الحقول الزراعية التي تعتمد عليها بالأساس لتوفير الغذاء. هناك قرى كاملة تدمر أو تحرق جراء القتال. وعندما تعود الأسر بعد هدوء الأوضاع، تجد أنها فقدت كل ممتلكاتها. يمثل هذا عبئًا كبيرًا على المجتمعات المستقبلة للأشخاص النازحين. فهم يضطرون لاقتسام الخبز اليومي، واقتسام النقود القليلة التي بحوزتهم علاوة على الاشتراك في الأماكن المحدودة للعيش معًا. رأينا أماكن لا تسع إلا ثلاثة أفراد، ولكن بسبب الأزمة تعيش فيها أسرتان مكونتان من اثني عشر فردًا. وقد تبقى الأوضاع على هذه الحال طيلة شهور.

لدينا أيضًا مشكلة أخرى من ناحية الوصول لهذه المجتمعات. فنظرًا لأن النزوح يتم بطريقة عشوائية وغير منظمة، فإن قدرة المنظمات الإنسانية على الوصول لهذه المجتمعات، وتقديم الدعم الإنساني تكون في غاية الصعوبة. يصعب مثلًا خلال فترة الأمطار في البلاد توصيل المساعدات الإنسانية، فالطرق غير ممهدة للسيارات وللشاحنات الكبيرة الخاصة بالدعم الإنساني. هناك الكثير من القرى النائية أو على الجبال لا نستطيع الوصول إليها إلا عن طريق الدراجات النارية أو مشيًا على الأقدام. هذا قطعًا يستغرق وقتًا طويلًا جدًّا حتى نستطيع توصيل الدعم الإنساني. إلى جانب ذلك هناك مخاطر أخرى كثيرة على العاملين في المجال الإنساني، من ضمنها التهديدات بالعنف والاختطاف. نحاول في هذا السياق قدر الإمكان التوعية بأهمية حماية الأطقم الإنسانية والطبية.

ICRC

الإنساني: غالبًا ما يرتبط النزاع المسلح في الكونغو بانتهاكات جسيمة لقانون الحرب، لا سيما الانتهاكات البشعة المتعلقة بجرائم العنف الجنسي ضد النساء، كيف ترين هذه الجرائم في الكونغو وما مدى استجابة المجتمع المحلي لدعم الضحايا؟ ما الذي تقدمه اللجنة الدولية في هذا السياق؟

للأسف العنف الجنسي ضد النساء إشكالية كبيرة في الكونغو ويعود لسنوات عديدة منذ بداية النزاع الحالي. لهذه الجرائم عواقب وخيمة على النساء نفسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. معظم النساء اللائي يتعرضن لهذا العنف الجنسي ينبذن من قبل مجتمعاتهن وأزواجهن وأولادهن. كذلك الأثر النفسي المهول لضحايا العنف الجنسي. بعض الضحايا من النساء يجري التعدي عليهن داخل الحقول الزراعية، فيما هن منهمكات في العمل. وبالطبع تكون ضحية العنف الجنسي مرعوبة إذا عادت لتعمل في الحقل الذي تعرضت فيه لهذه الخبرة الأليمة. وذلك يؤدي إلى تبعات اقتصادية على الأسرة ذاتها لعدم استطاعة المرأة العودة مرة أخرى لمتابعة عملها بسبب معاناة تداعيات هذه التجربة. دورنا في اللجنة الدولية للصليب الأحمر هو التوعية بمخاطر العنف الجنسي، وكذلك دعم الضحايا طبيًّا ونفسيًّا إذا تعرضن له. فمثلًا ننظم بعض الحملات من خلال الراديو المحلي أو من خلال استخدام مسرح الشارع للتوعية من مخاطر الاعتداء الجنسي وتقديم النصائح اللازمة للضحايا وأسرهن، وذلك بالتعاون مع الصليب الأحمر الكونغولي. أسسنا مثلًا بيوتًا للاستماع، ليس فقط للنساء، وإنما كذلك للأطفال والرجال الذين يمرون بأزمات نفسية معينة بسبب النزاع القائم، ويزور هذه البيوت حوالي 4000 شخص سنويًّا، هذا إلى جانب الحوار الذي يجري بين اللجنة الدولية وأطراف النزاع الموجودة في المناطق التي يكثر بها العنف الجنسي. نحاول توعيتهم بضرورة احترام القانون الدولي الإنساني الذي يحظر الاعتداء على النساء.

من هذه الانتهاكات أيضًا تجنيد الأطفال في النزاعات الدائرة؟

نعم هذه إشكالية أخرى منتشرة جدًّا في الكونغو. أحيانًا يُجبر الأطفال على الانضمام لصفوف أحد أطراف النزاع، وفي أحيان أخرى تحث الأسرة أطفالها للانضمام نظرًا للعائد الاقتصادي الذي يمكن أن يعود على الأسرة. بعض الأسر التي قابلتها كانت تعد ذلك تأمينًا لمستقبل الأطفال. تضطلع اللجنة الدولية بمهمة أساسية وهي توعية أطراف النزاع بضرورة احترام قوانين الحرب التي تجرِّم تجنيد الأطفال. من ضمن الأنشطة الأخرى التي نقوم بها في هذا السياق هو برنامج إعادة الروابط العائلية. نقوم بلم شمل الأسر مع الأطفال المجندين بعد إلقائهم للسلاح سواء داخل الكونغو أو خارجها.

ذهبتِ إلى الكونغو وأنتِ طفلة صغيرة لأسباب عائلية، والآن بعد سنوات ذهبتِ إليها مرة أخرى كي تشاركي في تقديم العون للسكان المتضررين هناك، كيف تفكرين في حال هذا البلد؟ ما الأمر المختلف؟ كيف ترين حال الناس هناك؟ ما الوجه المميز لهذا البلد؟

ذهبت إلى الكونغو للمرة الأولى مع أسرتي في العام 1989، ثم عدت إليها في العام 2019. هناك فارق ثلاثين عامًا. عندما ذهبت وأنا صغيرة كنت أعيش في مناطق آمنة نوعًا ما في العاصمة كنشاسا، وعندما عدت في 2019، تغيرت الصورة كلية، فلم أذهب إلا إلى الأماكن التي تعاني الشقاء. جبت البلاد طولًا وعرضًا، وتعرفت إلى الحياة القاسية التي يعيشها الكونغوليون. الشيء المشترك من حياتي طفلة في الكونغو ثم موظفة في اللجنة الدولية هو انبهاري الشديد بالبلد. تتمتع الكونغو بطبيعة خلابة. ما تراه يمكن أن يُعد من أجمل المناظر الطبيعية التي يمكن للمرء رؤيتها في حياته. في أوقات كثيرة ونحن نقدم المساعدات للناس، أفكر في أن هذه الدولة يمكن أن تكون من أكثر الدول جذبًا للسياحة في العالم لولا النزاع المستعر فيها. أمر آخر كان يبهرني سواء عندما كنت صغيرة أو بالغة وهو الحس الفني الفطري لدى الشعب الكونغولي، فهو شعب محب للحياة والموسيقى والرقص، حتى في أسوأ الظروف التي يعانون منها، تجدهم يعبرون عن أنفسهم بهذه الفنون. الأطفال الصغار، بالرغم من الجوع والفاقة، تجدهم يعبرون عن أنفسهم باستخدام مكونات من الطبيعة لرسم لوحات فنية مبهرة. عندما كنا نزور المستشفيات التي تتلقى دعمًا من اللجنة الدولية، والتي يُعالج فيها جرحى الحرب، كنا نرى المرضى وهم يرقصون بالعصا على أنغام الموسيقى. حبهم للحياة وتأقلمهم مع الحياة المعيشية الصعبة يعطيانهم أملًا.

نُشر هذا الحوار في عدد مجلة الإنساني رقم 66 الصادر في خريف/ شتاء 2019. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا ولتحميل العدد، انقر هنا.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا