حماية البيئة في النزاعات المسلحة: القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية

قانون الحرب

حماية البيئة في النزاعات المسلحة: القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية

ICRC

تحظى حماية البيئة في أثناء النزاعات المسلحة باهتمام متجدد في ضوء أزمة المناخ والبيئة المستمرة. وهي في جوهرها ليست ظاهرة جديدة. إذ يمكن التدليل عليها في مداولات الفقهاء المسلمين التي ترجع إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين. تتضمن بعضُ الأسئلة المشتركة بين القانون الدولي الإنساني الحديث وهذه المناقشات التاريخية الأساسَ الذي تقوم عليه حماية البيئة الطبيعية، والذي تنبثق منه عناصر قانونية أخرى. 

في هذا المقال، وهو جزء من سلسلة مدونات الحرب والقانون والبيئة مع «مرصد النزاعات والبيئة»، يؤكد الدكتور أحمد الداودي، المستشار القانوني للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وسارة غيل، مندوبة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، على الطابع المدني للبيئة الطبيعية بموجب القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية، وأن هذه المجموعات من القوانين تشترك في أوجه تشابه تتعلق بالتزامات أطراف النزاع بحماية البيئة. توضح هذه المقارنة بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية مدى التوافق وأهمية الاستعانة بالموروث القانوني والتشريعي المتنوع من أجل تعزيز حماية البيئة أثناء النزاع المسلح.

يشهد إدراكنا وفهمنا للبيئة وتفاعلنا معها بوصفنا بشرًا تطورًا على نحو مستمر. ومع ذلك، وعلى الرغم من الأهمية الوجودية للبيئة الطبيعية بالنسبة لنا جميعًا، فلا يوجد تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذا المصطلح.

واستنادًا إلى تاريخ صياغة البروتوكول الإضافي الأول والقواعد نفسها، تعرف «المبادئ التوجيهية للجنة الدولية للصليب الأحمر لعام 2020 بشأن حماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة» البيئةَ الطبيعية بأنها «العالم الطبيعي جنبًا إلى جنب مع نظام العلاقات المتبادلة التي لا تنفصم عراها بين الكائنات الحية وبيئتها غير الحية، بأوسع نطاق ممكن يشمله معناها» (الفقرات 16-17). وهذا يشمل «الغلاف المائي العام، والمحيط الحيوي، والغلاف الأرضي، والغلاف الجوي (بما في ذلك الحيوانات والنباتات والمحيطات وغيرها من المسطحات المائية والتربة والصخور)» بالإضافة إلى «العناصر الطبيعية التي تكون أو قد تكون نتاجًا للتدخل البشري»، مثل المناطق الزراعية ومياه الشرب.

وحسب النظرة الإسلامية للعالم، فإن كل شيء في هذا الكون هو من خلق الله، والبشر مؤتمنون على الحفاظ عليه وحمايته، والإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية.[1] يكمل هذا الرأي وجهةَ نظر القانون الدولي الإنساني، فيتعامل مع العالم الطبيعي بمعنى واسع النطاق، باعتباره كل شيء في الكون فيتيح مساحة لفهمنا المتزايد لأهمية وتأثير المناخ والبيئة على البشر إذا لم يُعتنى بهما الاعتناء الواجب. وهذا يعكس نهجًا مشتركًا لحماية البيئة الطبيعية بحد ذاتها، والاعتراف بقيمتها الجوهرية (المبادئ التوجيهية، الفقرات 19-21).

الحماية العامة للبيئة الطبيعية: سير العمليات العدائية والتدمير العشوائي

من المسلم به عمومًا أن البيئة الطبيعية ذات طابع مدني (المبادئ التوجيهية، الفقرات 18-21). وعلى هذا الأساس فجميع أجزائها المختلفة مشمولة بالحماية المرتبطة بهذا الوضع. ففي أثناء سير العمليات العدائية، تحظى الالتزامات التي تقع على عاتق أطراف النزاع، بما في ذلك مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات، بدور مهم في ضمان أخذ الآثار على البيئة الطبيعية بعين الاعتبار (المبادئ التوجيهية، القواعد 5-9).

تتطلب هذه القواعد من أطراف النزاع عدم استهداف أي جزء من البيئة الطبيعية ما دام يحتفظ هذا الجزء بوضعه المدني، مع مراعاة الضرر المحتمل على البيئة الطبيعية للتأكد من أنه ليس ضررًا مفرطًا مقارنةً بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة من هجوم على هدف عسكري، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الأضرار الجانبية التي تلحق بالبيئة الطبيعية.

يمكن العثور على هذا المبدأ الأساسي أيضًا في الشريعة الإسلامية، الذي يقدم مجموعة من القواعد للحفاظ على البيئة الطبيعية وحمايتها، بما في ذلك من خلال حظر الإضرار المتعمد بالأعيان المدنية أثناء العمليات العدائية. ففي قانون الحرب حسب الشريعة الإسلامية، تبرز حماية البيئة الطبيعية كأحد شاغلين رئيسيين، إلى جانب حماية المدنيين. إذ تستند الشريعة الإسلامية على نهج «القيمة الجوهرية»؛ لأنها تحظر إلحاق الضرر غير الضروري بالبيئة الطبيعية حتى لو لم يتضرر البشر.

يندرج أي ضرر يلحق بالبيئة الطبيعية أثناء وقت السلم أو ضرر غير مسموح به قانونًا أثناء النزاع المسلح بالبيئة الطبيعية، ضمن الفعل الإجرامي الموصوف في القرآن (على سبيل المثال: الآية 205 من سورة البقرة، والآيتان 32 – 33 من سورة المائدة) باعتباره فسادًا في الأرض (ومعناه الحرفي: تدمير/ ضرر في قطعة أرض) وهو أحد الأفعال التي تندرج ضمن جريمة الإرهاب بموجب الشريعة الإسلامية. وهذا يشبه في طبيعته قواعد القانون الدولي الإنساني التي تحظر إلحاق الضرر غير المشروع أو تدمير غير مشروع لأي جزء من البيئة الطبيعية.[2]

ومن ثم، توجد أسس شرعية إسلامية وبعض الدلائل التاريخية على أن ممارسات الدولة في الإسلام تعترف بالطابع المدني للبيئة الطبيعية وتتجنب إلحاق الضرر بها إلا إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك.

متى تجوز مهاجمة جزء من البيئة الطبيعية؟

على الرغم من أن مصطلح «البيئة الطبيعية» لم يستخدم من قبل فقهاء المسلمين في العصور الوسطى، فإن القواعد ذات الصلة بالقانون الدولي الإنساني التي طوروها تضمنت باستمرار قِسمًا عن تدمير الممتلكات، حيث نظموا – وتداولوا بشأن – حظر إلحاق الضرر بأجزاء من البيئة الطبيعية أو جواز ذلك.

عند دراسة الموقف الشرعي الإسلامي بشأن حماية البيئة الطبيعية، يجد المرء مثالًا هامًّا في الجدل الدائر الذي بدأ في القرن السابع ويستمر حتى يومنا هذا. فمن ناحية، توجد تعليمات محددة تحظر الإضرار بأجزاء من البيئة الطبيعية. ومن الأمثلة على ذلك تحريم النبي قطع الأشجار باستثناء تلك التي تمنع الناس من الاشتباك.[3]

وبنفس المنطق، أصدر الخليفة أبو بكر الصديق (المُتوفَّى عام 634م) عشر تعليمات معروفة لقائد جيشه يزيد بن أبي سفيان، وتشمل: «لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا… ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة…» تتوافق الإشارات إلى حماية الأشجار المثمرة وأشجار النخيل مع الحماية التي يكفلها القانون الدولي الإنساني لهذه الأجزاء من البيئة الطبيعية بحكم طابعها المدني، وكذلك مع القواعد التي تحكم الأعيان والممتلكات التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، بما في ذلك المواد الغذائية، المناطق الزراعية والثروة الحيوانية ومياه الشرب (المبادئ التوجيهية، القاعدة 10).

من ناحية أخرى توجد مأثورات عن أن النبي أمر بإتلاف النخيل الخاص بقبيلة بني النضير عام 625م، والنخيل وأشجار العنب الخاص بالعدو في معركة الطائف في عام 630م. على الرغم من عدم صدور الأمر في سياق نزاع مسلح وعدم نشوب قتال، فهو وثيق الصلة بقانون الحرب في الإسلام. تشير المصادر الفقهية والتاريخية إلى أنه أمر أُصدر إما لإجبار القبيلة على الاستسلام أو بسبب موقع النخيل.

وفي الواقع، قد يكون كلا الأمرين صحيحًا، مع الأخذ في الاعتبار العدد القليل جدًّا من النخيل الذي قيل إنه أتلف، ما بين نخلتين وست نخلات. في معركة الطائف، استُخدمت أشجار النخيل كخط آخر للتحصين، وأمرت القوات بتدمير النخيل وأشجار العنب لإجبار العدو على وقف القتال. في هذه الحالة، صارت أشجار النخيل على ما يبدو هدفًا عسكريًّا: فقد ساهم استخدامها كحصن مساهمةً فعَّالة في العمل العسكري، ويمكن القول بأن أوامر تدميرها قدمت ميزة عسكرية محددة.

توجد مناقشات موثقة حول هذه الأحداث بين النبي وقادة أعدائه حول جواز إلحاق الضرر بهذه الأجزاء من البيئة الطبيعية. فقد قال أحد بني النضير للنبي إن تدمير النخيل سيكون فسادًا «تحرمه [يا محمد] وتدين مرتكبيه». يؤكد القرآن (سورة الحشر، الآية الخامسة) أن إلحاق الضرر محرمٌ من حيث المبدأ، لكنه يؤيده في حادثة بني النضير.

كما وثَّق سجال شعري بين الشاعر سماك من بني النضير والشاعر المسلم حسان بن ثابت (ت 674) حول الحادثة وشرعية الإضرار بأشجار النخيل. وعلى نفس المنوال، خلال معركة الطائف، طلب العدو من النبي عدم تدمير النخيل أو شجر العنب. وحثوه على الاستيلاء عليها كغنائم حرب إذا هُزِموا أو ببساطة على عدم تدميرها، تعظيمًا لله وأواصر القرابة بين الأطراف المتحاربة، وهو ما قبله النبي.

حماية البيئة الطبيعية التي تقدمها القواعد الخاصة بوسائل وأساليب الحرب

توجد أيضًا أوجه تشابه بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية بشأن حماية البيئة من خلال القواعد المتعلقة بوسائل وأساليب الحرب، مثل استخدام السموم أو الأسلحة الحارقة.

إن الأثر المحتمل للأسلحة الحارقة عند استخدامها ضد الأشياء التي تشكل جزءًا من البيئة الطبيعية أو بالقرب منها، كبير. فإذا استخدم الجيش أسلحة حارقة بالقرب من النباتات والحيوانات، فقد تطول ألسنة النيران هذه الكائنات، ما يزيد احتمالية حدوث تأثيرات غير متناسبة أو عشوائية على البيئة الطبيعية. وبموجب القانون الدولي الإنساني يجب توخي الحذر بشكل خاص في حالة استخدام الأسلحة المحرقة لتجنب الأضرار الجانبية التي تلحق بالبيئة الطبيعية والحد منها (القاعدة 23 من المبادئ التوجيهية).

ينعكس هذا المنطق في الشريعة الإسلامية. على الرغم من القدرة المحدودة لبعض الوسائل والأساليب الحربية العشوائية على إحداث ضرر لأجزاء من البيئة الطبيعية على وجه التحديد (لا أعيان مدنية أخرى)، فقد تناول الفقهاء المسلمون في العصور الوسطى جواز استخدامها. على سبيل المثال، أجاز الفقهاء بالإجماع استخدام المنجنيق (لإطلاق الحجارة الكبيرة أو كتل نار) ضد تحصينات العدو، إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك لا غير.

واختلفت الآراء حول جواز استخدام الأسلحة الحارقة ضد العدو بوجه عام، فبعضها يحرم ذلك والبعض الآخر لا يستحسنه، بينما أجازه فريق ثالث إما لضرورة عسكرية أو استنادًا إلى مبدأ المعاملة بالمثل. كما ناقش الفقهاء جواز إطلاق النار على تحصينات العدو ومعاقله بالسهام المسمومة أو النارية. فبعضهم حرم استعمالها وأبدى آخرون كراهة في استخدامها على أساس أن العدو يمكن أن يرد هذه السهام على المسلمين، ولعدم وجود سابقة على عهد النبي. وخلاصة القول إن الشريعة الإسلامية تبرز ضرورة توخي عناية كبيرة عند استخدام النار كسلاح في الحرب.

علاوة على ذلك، فإن حظر السموم أو الأسلحة السامة يمكن أن يتيح حماية غير مباشرة للبيئة الطبيعية عندما يقصد به أو يصمم لقتل البشر أو إصابتهم بجروح، على سبيل المثال تسميم نهر يستخدم لمياه الشرب (القاعدة 19 من المبادئ التوجيهية). وإذا لم تستخدم لهذا الغرض، فقد يتم حظرها أيضًا عند استخدامها ضد البيئة الطبيعية بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني الأخرى، على سبيل المثال إذا كان ذلك سيؤدي إلى أضرار جانبية غير متناسبة بالبيئة الطبيعية.

تعالج الفتاوى الإسلامية في العصور الوسطى هذا السؤال عندما أطلقت أسلحة مسمومة أو نارية أو مزيتة على تحصينات العدو ومعاقله. والاعتبارات مماثلة لتلك المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني بشأن استخدام السموم أو الأسلحة السامة، من حيث إنها قد تسمم مصادر المياه والغطاء النباتي وتقتل البشر والماشية. يحظر الفقيه العراقي الشيباني (تُوفِّي في عام 805)[4] تسميم مصادر مياه العدو بغرض قتلهم، لكنه أجاز قطع إمدادات المياه عن تحصينات العدو أو وضع السم أو الدم في المياه لإفساده بغرض إجباره على الاستسلام من داخل تحصيناتهم.

غير أن هذا الاستثناء الأخير لا يُسمح به بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، ولكن بغض النظر عن هذه الفروق الدقيقة، فالأساس المنطقي بالنسبة لغالبية الفقهاء المسلمين في آرائهم القانونية التي يعود تاريخها إلى القرون السابع والثامن والتاسع الميلادي – إذا ما استعرنا مصطلحات القانون الدولي الإنساني – هو تجنب الخسائر غير المشروعة في الأرواح وتجنب إلحاق الضرر بالأعيان المدنية، بما في ذلك البيئة الطبيعية.

هوامش

* يؤدي الضرر الناجم عن النزاع أو تدمير البيئة الطبيعية وزيادة ندرة الموارد الطبيعية وأزمة المناخ إلى تفاقم العواقب الإنسانية للنزاع المسلح. ولأننا نفهم بدرجة أكبر الآثار المعقدة للتدهور البيئي وأزمة المناخ على السكان المتضررين من النزاعات، فإن حماية البيئة الطبيعية أمر أساسي في نزاعات العصر الحديث.

* تقدم المبادئ التوجيهية للجنة الدولية توصيات عملية بهدف الحد من الأثر البيئي للنزاع المسلح والعواقب الإنسانية على السكان المتضررين من النزاع. وباعتبارها جزءًا من تراثنا الجماعي والعالمي فإن حماية البيئة الطبيعية تتجاوز الثقافات القانونية والتاريخ. وتوضح الأمثلة التي ناقشناها أن مداولات فقهاء القرن الثامن حول كيفية وسبب حماية البيئة هي صورة للمداولات الموجودة في إرشادات اللجنة الدولية للقرن الحادي والعشرين. يقع على عاتق أطراف النزاع الالتزام باحترام هذه القواعد والتمسك بها، وفهم أساس هذه الحماية ولِم تتزايد أهمية هذه الحماية في سياق النزاعات المسلحة في العصر الحديث.

[1] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 30 وسورة هود الآية 61. انظر أيضًا عبد الله شحاتة، رؤية الدين الإسلامي في الحفاظ على البيئة (القاهرة: دار الشروق، 2001)، ص 13-14، 17-20.

[2] انظر على سبيل المثال، القاعدة 5 بشأن التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والقاعدة 13 بشأن حظر تدمير البيئة الطبيعية غير المبرر بضرورة عسكرية ملحة.

[3] راجع الحديثين رقمي 18155 و 18156 في أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، سنن البيهقي الكبرى، تحرير: محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة 2003)، المجلد 9، ص. 154-155.

[4] Ahmed Al-Dawoody, The Islamic Law of War: Justifications and Regulations (New York: Palgrave Macmillan, 2011), pp. 124-125.

نُشر هذا النص في الأصل بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات». وقد ترجم أحمد سمير هذا المقال إلى العربية

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا