أخلاقيات العمل الإنساني: دليل إلى أخلاقيات المساعدة في الحروب والكوارث

قانون الحرب

أخلاقيات العمل الإنساني: دليل إلى أخلاقيات المساعدة في الحروب والكوارث

العمل الإنساني هو استجابة رحيمة لصور المعاناة الناجمة عن العنف والنزاع المسلح أو الكوارث الطبيعية. ففي أي لحظة يوجد على ظهر كوكبنا شخص يعاني بسبب نزاع مسلح أو كارثة بيئية، ونحن نكاد نكون على يقين بأن أفرادًا في عائلته أو مجتمعه المحلي سيهبّون لنجدته ومساعدته. وقد يكون من تمتد يده بالمساعدة أحدُ العاملين في قطاع العمل الإنساني، مثل متطوع بالصليب أو الهلال الأحمر أو موظف في الأمم المتحدة أو منظمة غير حكومية.

ولهذه الفئة من العاملين يقدم كتاب “أخلاقيات العمل الإنساني: دليل إلى أخلاقيات المساعدة الإنسانية في الحروب والكوارث (Humanitarian Ethics: A Guide to the Morality of Aid in War and Disaster)” نقاشاتٍ وآراءَ تساعدهم في عملهم في هذا القطاع بحيث يقدمون خدماتهم إلى المتضررين بما يحفظ أرواحهم ويحقق صون كرامتهم في ظل ظروف شاقة وخطيرة. فهو كتاب عن أخلاقيات العمل الإنساني، أي القيم والمبادئ التي يقوم عليها والمشكلات الأخلاقية التي تنشأ عن ممارسته وطرق تفكير العاملين فيه بشأن قراراتهم، سواء كانوا منظمات أو أفرادًا.

المؤلف هوغو سليم (Hugo Slim)، أكاديمي بريطاني ومستشار سياسات في العلاقات الدولية وتخصصه هو أخلاقيات الحرب والمساعدات الإنسانية. ويتألف الكتاب من مقدمة وثلاثة أجزاء وأربعة ملاحق. يناقش الجزء الأول “الجذور الأخلاقية للعمل الإنساني”، ويتناول الجزء الثاني التجلي الحديث لمبادئ العمل الإنساني، بينما يتناول الجزء الثالث الممارسات الأخلاقية في العمل الإنساني. وأما الملاحق الأربعة فهي: المبادئ الأساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، ومدونة سلوك المنظمات غير الحكومية في إغاثة المنكوبين بالكوارث، وميثاق العمل الإنساني، ومبادئ تقديم المنح الإنسانية.

محور العمل الإنساني حفظُ الأرواح وصونُ الكرامة الإنسانية، وهو تجلٍّ للتعاطف والإيثار ويتطلب التعاون لا السيطرة وزيادة فاعلية الإنسان والمجتمع المتضرر بمساعدته على النهوض من جديد. وقد شهد العالم في السنوات السبعين الماضية اتساعًا كبيرًا في نطاق تنفيذ البرامج الإنسانية والإغاثة لمساعدة المتضررين من العنف بكل صوره والجوائح والكوارث والفقر. والهدف هو الحيلولة دون وقوع المعاناة وتخفيفها حال وقوعها. ويمثل اتساع نطاق هذا القطاع أحد تجليات اتساع مجال أخلاقياتنا العملية بوصفنا بشرًا. والعمل الإنساني ينفّذه أفراد من مختلف الانتماءات القومية والعرقية والدينية وهو يحدث على أرض تحكمها سياقات معينة، ما يثير تأملات كثيرة بشأن قدرة البشر على تأسيس أخلاقيات تحكم هذا النشاط وقدرة العاملين والمؤسسات على تحديد قيم جوهرية تستحق مواجهة أي تحديات لأجل إعلائها.

وقد حرصت الوكالات الإنسانية على صوغ قيمها ومبادئها التي يهتدي بها عملها. فجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر اتفقت على المبادئ الأساسية عام 1965 ومنذ ذلك الوقت اهتدت بالمبادئ نفسها وكالاتٌ أخرى كثيرة حول العالم في عملها الإنساني. وفي 1992 ظهرت مدونة السلوك للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي مدونة تحكم الممارسة الأخلاقية للعمل الإنساني في الكوارث والنزاعات. وأضيف إلى ذلك ميثاق العمل الإنساني 1998 وهو أكمل صياغة أخلاقية وقانونية للمبادئ الحاكمة للعمل الإنساني.

ICRC

تحديات على أرض الواقع

غير أن العمل الإنساني على أرض الواقع كثيرًا ما يواجه تحديات ومعضلات كبيرة تتعلق بالنزاهة والقدرة على الوصول إلى المتضررين في ظل نزاع طاحن بين أطراف متحاربة، وقد يتسم بعدم التنظيم، وهو عرضة أيضًا لسوء الاستغلال وربما الانتهاكات. لذلك، تحتاج الوكالات الإنسانية إلى التنظيم والحكمة في التعامل مع الحكومات والمستفيدين من خدماتها وأطراف النزاع بما فيها الجماعات المسلحة من غير الدول. وعلاوة على ذلك، تحتاج الوكالات والعاملون فيها إلى فهم عميق لثقافات الناس والمجتمعات التي تستفيد من الإغاثة والمساعدات والبرامج الإنسانية. وهكذا يتضح أن هذه الجهود في الممارسة ربما تواجه احتمالات الفشل، وفي أحيان كثيرة تنطوي على خطر على أرواح المدنيين والعاملين أنفسهم، ما يثير معضلات أخلاقية ومشكلات تتطلب قرارات وحلول تراعي مصلحة المتضررين وحفظ أرواحهم وكذلك حماية الموظفين أنفسهم.

الروح الإيجابية

ويأسف سليم لأن العاملين في المجال الإنساني ونقادهم يركزون كثيرًا على أخطاء وتناقضات العمل الإنساني بدلًا من رؤية أروع ما فيه. يرى سليم أن العمل الإنساني يحقق أهدافًا لا يمكن التقليل من شأنها أبدًا، فالعمل الإنساني معنيٌّ بإنقاذ الأرواح، وحفظ الصحة والسلامة البدنية، وإعادة سبل كسب العيش للأفراد، ولمّ شمل العائلات المشتتة، وزيارة المسجونين وتحسين ظروف الاحتجاز، وإعادة بناء المجتمعات المحلية، وتحسين التعليم، وزيادة قدرة المجتمعات على الصمود والتأقلم، ومساعدة ضحايا العنف الجنسي. ويأمل سليم أن تكون لغة العاملين في هذا القطاع إيجابية وملهِمة وطموحة لتكون على قدر الأهداف النبيلة التي يسعون إلى تحقيقها. ويؤكد أن غرضه هو تشجيع العمل الإنساني لا تقييده، لتذكير العاملين بأنه عمل مهم وشجاع وأنه يمكن أن ينجز باقتناع أخلاقي وتفاؤل راسخ مهما تكن التحديات والمعضلات.

معضلات تكتنف المجال

ولكي يضع المؤلفُ القارئ والعاملين في المجال الإنساني في قلب المشهد، يحدد المعضلات التي تكتنف هذا القطاع:

ما هي حدود هذا المجال؟ ما الموضوعات الأخلاقية المهمة حقًا للعمل الإنساني؟ هل هي المعاناة وأسبابها والفقر المدقع وانتهاكات الحقوق أو بعض الحقوق؟ فحدود المجال تثير أسئلة عن فحوى التدخل الإنساني وهل هو إنساني حقًا أم يتوخى أغراضًا أخرى؟ هذه الأسئلة وغيرها تثار بسبب ثلاثة عوامل أو قوى هي: الأطراف الفاعلة في النزاعات المسلحة، ومنهجية التدخل، وسياق النزاع. هذه عوامل ثلاث تشد العمل الإنساني في اتجاهات مختلفة ما يخلق معضلات أخلاقية.

ومن النقد الموجه للعاملين في المجال أن الوكالات أغلبها غربية تعمل بأساليب وأنماط غربية، والعاملون الأجانب فيها يحيون بنمط فيه مغالاة وترف ويقودون سيارات فخمة. وباختصار فالعمل الإنساني له سمات نيوكولونيالية.
وسجل بعض المراقبين وجود توتر بين الروح الطوعية والمهنية في العمل الإنساني، فثمة تناقض بين ما يدفع إلى العمل الطوعي (وهو حب المساعدة والعون) والصبغة المهنية التي يتطلبها العمل حديثًا. ويخشى المراقبون أن الإفراط في التأكيد على الخبرة المهنية قد يأتي على حساب الشغف وروح المبادرة التي يجب أن تميز العمل الطوعي. وربما ينعكس ذلك على ثقافة الوكالات الإنسانية التي تزحف إليها البيروقراطية والنزعات المؤسساتية والإدارية. هذه الضغوط المؤسسية تؤثر على الروح الطوعية التي يتطلبها العمل الإنساني، فالمؤسسات قد تكون بطيئة وغير حكيمة بينما العمل الإنساني بحكم طبيعته يتطلب سرعة اتخاذ قرارات حكيمة تعالج الكارثة أو عواقب النزاع المسلح.

ويشير سليم أيضًا إلى الدوافع الفردية المختلطة لدى العاملين في المجال سواء من الأجانب أو المحليين. فللعاملين دوافع مختلطة تتراوح بين حبهم العمل الإنساني وبين رغبتهم في تأمين مستوى حياة جيد أو اكتشاف الجديد والسفر إلى أماكن بعيدة أو اكتشاف ذواتهم أو كل هذه الدوافع مجتمعة، ما يجعل العمل بالنسبة لهؤلاء الأفراد متأثرًا بعوامل أخرى.

وماذا عن التمويل والمتبرعين؟ إن أغلب الوكالات الإنسانية الكبرى غربية، فهل ينشر الغرب أفكاره وأيديولوجياته ليكسب عقول وقلوب المستفيدين من المساعدات من خلال برامج الإغاثة؟ كما يطرح سليم أسئلة بشأن المجال بما أنه يتداخل مع حقوق الإنسان: فهل نحن عاملون في المجال الإنساني أم عاملون في حقوق الإنسان؟

ICRC

أسس أخلاقية

وعلى ذلك يقدم الجزء الأول من الكتاب الأسس الأخلاقية للعمل الإنساني مستعينًا بمجموعة من الفلاسفة مثل الفيلسوف اليوناني أرسطو، والفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711 – 1776) واللاهوتي توما الإكويني (1225 – 1274) والفيلسوف الأسترالي بيتر سينغر (1946 – )، بينما يشرح الجزء الثاني التجلي الحديث لمبادئ العمل الإنساني وكيف صاغ هذا المجال قواعد وقيمًا تحكم العاملين فيه منذ الحرب العالمية الثانية بما في ذلك وضع اتفاقيات جنيف لعام 1949 ومبادئ الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر.

أما الجزء الثالث من الكتاب فيفحص اتخاذ القرارات الأخلاقية على الأرض والعوامل التي تؤثر على الاختيار الذي يتخذه العاملون أو الوكالة الإنسانية. إذ يناقش الفصل السابع أهمية مزج العقل بالعاطفة والفضيلة في الأخلاقيات العملية للعمل الإنساني وأثناء اتخاذ قرارات على الأرض. وفي الفصل الثامن يقدم إطارًا بسيطًا لممارسة الحكم الأخلاقي. ويحلل في الفصل التاسع المجال المعتاد للخيارات الأخلاقية الذي يواجه العاملين في المجال. وفي الفصل العاشر يقدم نموذجًا لفهم المسؤولية الأخلاقية في العمل الإنساني.

وفي الفصل الحادي عشر يفحص بعض المعضلات الأخلاقية في العمليات الإنسانية. يحاول سليم شرح المعضلات بأمثلة من الواقع. هنا، يمكن أن نرى كيف يمكن لفردين أو منظمتين مواجهة معضلة أخلاقية في نفس السياق وكل طرف يتخذ قرارًا مختلفًا عن الآخر للاستجابة للموقف حسب القيم والمبادئ التي لها الأولوية والمعلومات المتاحة والغاية النهائية المرجوة. أما الفصل الثاني عشر فيناقش كيف يمكن تشجيع الثقافة المسؤولة في المنظمات الإنسانية.

وقد عمل سليم في المجال الإنساني ثم انتقل إلى العمل الأكاديمي. ورغم أن الكتاب يركز على الميراث الغربي أكثر من البوذي أو الإسلامي في مجال الأخلاقيات فهو إضافة مهمة للقارئ العربي، إذ يطرح أسئلة ومعضلات ويقدم أدوات يمكن من خلالها للفرد والمنظمة التفكير في الاستجابة الملائمة أخلاقيًا لاتخاذ قرار بحسب المعطيات. والكتاب يساعد العاملين في المجال والدارسين ويهم القارئ العام المهتم بمجال الأخلاقيات ليتعرف إلى النقاشات الدائرة حول العمل الإنساني الذي بات نشاطًا ملحوظًا في المنطقة العربية، وبالأخص بعد عام 2011، إذ صارت مجتمعاتٌ عربية عديدة تعتمد على وجود الوكالات الإنسانية كما هو الحال في اليمن والعراق وسورية وليبيا، كما يشهد بذلك نشاط اللجنة الدولية للصليب الأحمر على سبيل المثال، بما لها من بعثات ومكاتب في المنطقة.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا