لا أحتاج إلى جهد كي أتذكر حرباً ولدت قبلها بعامين، وانتهت قبل واحد وعشرين عاماً. لا أحتاج إلى جهد لتذكر تلك الصورة الأعتق عنها. هذه التي كونتها بعد أعوام على وقوعها، عبر الاستماع إليها، مرة بعد مرة، من أهلي، بعدما تركنا، أو بالأحرى فررنا، من البيت الذي جرت فيه القصة، البيت الذي يطل على سكة الحديد.
في الحكاية، كما رسمتها وحفظتها مخيلة الطفل الذي كنته، كان والدي يرفعني على حافة الشرفة، لأرى القطار عند مروره. لسبب ما، ملنا برأسينا نزولاً في اللحظة التي أطلق قناص النار علينا من بعيد. الرصاصة اصطدمت بالحائط وراءنا، لأنها لم تخترق الرأسين. هكذا، نجونا أنا وهو بمعجزة.
المشهد الثاني يختلط عليّ. ربما ما زال ماثلا حقاً في ذاكرتي، وربما هو مسموع. غير أنني أذكر عمي يمشي صوب أمي التي تحملني على ذراعها، وتقف، محاطة بأخوة أنا أصغرهم. أراه، بوجهه الأبيض المستدير وشاربيه الكثين، تماشياً مع موضة السبعينيات، يمد ذراعيه نحوي ويحملني مبتسماً. عمي الذي يصغر أبي بسنوات كان جارنا. قرر النزوح، قبلنا، من المنطقة التي لم تعد ملائمة لأبناء ديننا.
هذا نزوح حرب السنتين، كما سُميت سنتا النزاع، 1975 و1976، في حينها. كانت بيروت قسمين، وكان على اللبنانيين أن ينقسموا بينهما بحسب أديانهم، المسلمون لجهة والمسيحيون لجهة. القتل على الهوية، كان عقاباً محتملاً لمن لا يحتاط ويهرب. و”القتل على الهوية”، لمن يجهل هذا المصطلح، هو التصفية الجسدية بعد التأكد من أن الدين المعلن عنه في بطاقة الهوية، هو الدين الخصم.
هربت أمي بنا، أولادها الخمسة، وكان أبي حينها قد سافر للعمل في الخليج. تقول الحكاية إن عمي التقانا على الطريق صدفة، بعدما تقطعت سبل الاتصال بين المنطقتين. هذا سبب إضافي لدموعه حين حملني وقبّلني على خدي. أمي أيضاً، بكت حين رأته، هي التي تركت بيتها المؤثث بدون أن تخرج منه قشة، على ما رددت لأعوام. وكان أناس يدخلون إلى البيت ليحتلوه قبل غيرهم، من الهاربين من بيوتهم، في الضفة الأخرى من المدينة.
هذان مشهدان يعلوهما ضباب كثيف، وقد لاكتهما ذاكرتي خلال سنوات عمري كلها، ولم يبق شيء منهما على ما كان عليه فعلاً.
المشهد الثالث الذي يمكنني دائماً أن أستعيده هو ذاك الذي سمعته، عن شقيقيّ المراهقين في حينها، اللذين اختطفا، وحشرا في غرفة صغيرة مع آخرين، وراح الملثمون يخرجونهم واحدا بعد الآخر ويعدمونهم، حتى إذا ما وصل الدور إلى صبيين، الأول في السادسة عشرة، والثاني أصغر منه بسنة، تعانقا مودعين، وخرجا من الغرفة المغلقة إلى حيث الإعدام المنتظر، لينقذهما، في اللحظة الأخيرة، ملثم مجهول رأف بحاليهما على الأرجح.
هذه الحكاية صاغتها مخيلتي مئات المرات، مرات ككوابيس، ومرات كقصص قصيرة، ومرات للمتعة فقط بتخيل المشاهد التي لم يكن فيها دم.
القصة التي لا صورة لها، هي التي وعيت عليها على هذه الشاكلة: عمي قتل على الهوية، ولا أحد يعرف أين هي جثته. أما عائلته فهاجرت كلها بعد مقتله إلى أميركا. بلى، هناك صورة واحدة ترتبط بها، هي صورة العم بالأبيض والأسود على الجدار في بيت جدي. انتبهت، لاحقاً، إلى أنه كان شاباً ووسيماً في الصورة. طوال سنوات عمري كنت أنظر إليه في الصورة، بصفته المقتول على الهوية، الذي لا أحد يدري أين جثته.
قبل أن أتم العاشرة، كنت رأيت صور جثث في مجزرة صبرا وشاتيلا. رأيت صورة أو صورتين على غلاف الصحيفة التي صرت بعد أعوام بعيدة، وما زلت، أحد صحافييها. كأنها صورة لتلة صغيرة من الجثث.
الشعور الذي عشته ذاك الصباح، أحرق في مكانه من الدماغ، أو من القلب، هو واحد من تلك المشاعر التي لن تزول أبدا.
نعيش معها، ولا نعرف ما الذي خرّبته فينا إلى الأبد. غير أنني، إذا تابعت على هذا المنوال من الذكريات، فالحبل سيطول، والنص الذي أكتبه هنا لن ينتهي، خاصة أنني عشت، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية ثلاثة حروب إسرائيلية على لبنان، كانت آخر واحدة منها، قبل خمسة أعوام، رعباً بلا نهاية، للرجل الذي صرته، وقد أتى ابنه إلى العالم قبل خمسين يوماً من الحرب.
الحرب، متى وقعت، لا تنتهي، حتى ولو وضعت أوزارها. أنا الداخل في الحرب الأهلية بعمر عامين والخارج منها وقد بلغت السابعة عشرة، لست أدري أي ضرر دائم أحدثته لي هذه الأعوام الطويلة. أحياناً لا أصدق أن عشرين سنة مرت على نهاية الحرب. أظنها ما زالت قريبة، قرب تلك الرصاصة التي مرت بيني وبين أبي، تجعل كل يوم بعد اصطدامها يوماً إضافياً لم يكن متوقعاً لكلينا، كما أيام شقيقيّ الإضافية، وقد كانا محظوظين، بعكس عمي.
سيظل الخراب الذي حفرته الحرب الأهلية في داخلي دوماً. وستظل تلك الأعوام من طفولتي أكثر من طاقتي على فهمها. لا يعنيني كثيرا أنني تعلمت مساوئ الحرب، وأنني اكتشفت بعد طول تعب أن الآخر المقابل هو ليس إلا صورتي في المرآة. لا تعنيني الدروس التي تعلمنا إياها الحروب. أظل أقول، مستسلماً، بأن الحروب لا تعلمنا شيئاً، وأن لا جمال يأتي من القبح، ولا ورود تزهر في دم مسفوك. وأن الدرس الوحيد الذي نتعلمه من الحروب هو أنها قدر لا فكاك منه، إلى أن نثبت يوماًُ، نحن البشر، أننا تخلصنا من هذه الآفة التي ليس مثلها آفة.
أظل أحلم لو أن تلك الرصاصة التي لم تصبني ووالدي، لم تطلق من الأساس. وأن شقيقيّ لم يخطفا ولم يطلقا، وأن مذبحة لم تقع. وأن طفلاً كبر بلا حرب أهلية.
نُشر هذا الموضوع ضمن ملف بعنوان «أبناء الحروب» في العدد 51 من مجلة الإنساني الصادر في شتاء 2011.
أقرا أيضا: سامر أبو هواش، في أنني مطرود ولست لاجئاً
تعليقات