تعود جذور شيرين أبو عاقلة إلى مدينة بيت لحم، لكننها ولدت وترعرعت في القدس، حيث أنهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا. وهي خريجة قسم الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك الأردنية. بدأت العمل في الصحافة في العام 1994 عندما أنشئت محطة “صوت فلسطين”، وهي اليوم تعد واحدة من أبرز الوجوه الإعلامية النسائية العربية. وفيما يلي حوار معها حول شؤون وشجون مهنة البحث عن المتاعب بالنسبة لصحافية تعمل في منطقة ترزح تحت الاحتلال.
ما هي الدوافع التي كانت وراء توجهك إلى الصحافة؟
في الواقع، عندما التحقت بالجامعة، درست الهندسة المعمارية لمدة عام، ولكنني لم أكن راضية تماماً عن اختياري، شعرت، وهذه طبيعتي، بأنني أريد أن أكون في عملي المستقبلي قريبة من الناس ومن حياتهم اليومية. ورسا قراري على الصحافة والإعلام بالرغم من علمي أنه، في تلك الفترة، وأنا أتحدث عن العام 1989، لم يكن في فلسطين أي محطة للراديو أو التلفزيون واقتصرت المصادر الصحفية على صحيفة يومية واحدة. وهذا بالفعل ما جابهته بعد تخرجي، ضآلة فرص العمل في المجال الصحفي. فاضطررت للعمل لفترة في “وكالة غوث اللاجئين” التابعة للأمم المتحدة (الأونروا). بعد وقت قصير، التحقت بدورة للصحافة المسموعة، وعملت بعدها في محطة “صوت فلسطين” عندما تم إنشاؤها في العام 1994 إثر قيام “السلطة الوطنية الفلسطينية”. بالنسبة لي، كان التحاقي، بأول محطة إذاعية فلسطينية مقامة على أرض فلسطين، مصدراً للفخر والاعتزاز، وبقيت في عملي هذا أربعة أعوام، كنت خلالها أيضاً مرا صحفية، بدوام جزئي، لعدد من المحطات الإذاعية الأخرى مثل راديو “مونت كارلو”. كما درّست العمل التلفزيوني في جامعة بيرزيت”.
انطباعي أنك كنت دائماً في المقدمة، في المواجهة، وليس خلف الكواليس..لماذا؟
نعم، في معظم الأحيان. ففي عملي الإذاعي كنت مسؤولة أيضاً عن إعداد البرامج التي قدمتها، وكذلك هو الوضع بالنسبة لعملي في “قناة الجزيرة”.
أنت تعملين منذ البداية في منطقة يسودها النزاع، ما هو شعورك إزاء هذه الحقيقة؟
حسناً، هذه هي الصحافة وهذه هي المنطقة التي أعمل فيها. لقد مرت علينا فترات هادئة نوعاً ما في أواسط التسعينيات، ولكنني كنت أعلم دائماً بأننا نعيش في منطقة ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت. ليس هذا بالشيء البسيط، ولكنه يصبح جزءاً منك، فعندما تسمع بحدث ما في منطقة ما، ينصب تفكيرك حول سؤال واحد يعبر عن طبيعة عملك: كيف أصل إلى هناك في أسرع وقت ممكن؟
كونك تعيشين في ظل الاحتلال، كيف يؤثر هذا على طبيعة عملك؟ هل باستطاعتك الفصل بين عملك وبين حياتك الشخصية؟ كيف تتكيفين مع هذا كله؟
لا أظن أنه باستطاعتنا التجرد من مشاعرنا بشكل تام، ولكن الرسالة الصحفية تفرض عليك نقل وجهات النظر المختلفة على قدر الإمكان. إنني فلسطينية، وكفلسطينية أؤمن بشرعية قضيتي. ولكنني، أحاول في عملي، أن ألتزم الموضوعية وأنقل إلى المشاهد صورة عن الطرف الآخر بالرغم من الانتقادات التي قد توجه إلينا من قبل البعض. لقد اضطرني عملي إلى المبيت في بعض الأحيان داخل المستوطنات لتغطية الأحداث، كما حدث خلال عملية إخلاء المستوطنات في قطاع غزة.
في التقرير الذي أعددته، تعمدت أن أسأل بعض المستوطنين عن شعورهم إزاء ترك المنطقة التي يعيشون فيها. في رأيي، وحتى تكون صادقاً وموضوعياً، يجب تغطية كافة الأمور ومن كل الجوانب، وهذا لا يضفي عليها بالضرورة الوجه الشرعي أو القانوني. هناك وجهات نظر مختلفة في الجانب الفلسطيني أيضاً وعلي أن أقدم تقارير متوازنة بغض النظر عما أشعر به شخصياً. فإلى حد ما، يجب أن تترك مشاعرك جانباً في بعض الأحيان، ولا يعني هذا أبداً أن نتجرد من إنسانيتنا. لقد قمت بإعداد تقارير تروي المأساة الإنسانية، بعيداً عن الأرقام الجافة، فالرسالة هنا أقوى وأكثر فاعلية.
إن ما تقولينه يثير اهتمامي بشكل خاص، فهذا قريب جداً مما ننادي به في “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” من حيث مبدأ الحياد الذي يبطل في حال الوقوف إلى جانب دون آخر، أليس كذلك؟
هذا، في اعتقادي، صحيح. دع الحكم للمشاهد، فالصورة الواضحة خير دليل على ما يحدث. وهذا ما أحاول عمله عن طريق نقل وجهات النظر الإسرائيلية والفلسطينية، فيما يتعلق بالنزاع، أو وجهات النظر الفلسطينية المختلفة فيما يتعلق بالخلاف الفلسطيني الداخلي.
اخترت الصحافة لأنني أردت أن أكون قريبة من الناس ومن حياتهم اليومية
في السنوات الأخيرة، نلاحظ ازدياداً في عدد النساء العاملات في المجال الصحفي، وأحياناً يصلن حد النجومية، كيف تفسرين ظاهرة النجومية في مجال الإعلام على المستوى الدولي؟ وهل تواجهك بشكل عام أي صعوبات في العمل لكونك امرأة؟
لا أنظر إليها كظاهرة وإنما كشيء طبيعي. كإمرأة، لا أشعر بوجود عوائق معينة إذا توفرت العوامل الضرورية كدعم العائلة أو المجتمع، وتفهم جوانب العمل الذي نزاوله. فمثلاً، خلال الاجتياحات الكبيرة، كما حدث في جنين في العام 2002، اضطررنا إلى المبيت عدة أيام خارج منازلنا، وهذا بحد ذاته قد يشكل معضلة أو عائقاً للكثير من النساء. في بعض الأحيان، وخلال تواجدنا في مدن لا فنادق فيها، استضافنا السكان في منازلهم.
أذكر أننا، أثناء تغطية أحداث جنين، التجأنا إلى المستشفيات للمبيت هناك لعدة ليال، ولا أنسى أن أحد أفراد الطاقم اضطر إلى المبيت في حديقة الحيوان! فلولا دعم العائلة والمجتمع واحترامهم للمهمة التي نقوم بها، لكان مثل هذا الوضع صعباً على أي امرأة، خصوصاً إذا كانت متزوجة ولها أولاد. شخصياً، ربما الوضع كان أسهل بالنسبة لي كوني غير متزوجة. ولأن عملنا لا تحدده ساعات معينة، فنحن على أهبة الاستعداد ليل نهار وهذا بطبيعة الحال يكون على حساب حياتك الاجتماعية.
في فلسطين، هناك العديد من النساء اللواتي يعملن في مجال الصحافة، وفي الحقيقة، لم نشعر أبداً بأي معاملة خاصة من قبل باقي الزملاء. وبالرغم من هذا كله، ينتابني شعور بالحزن لعدم توفير الفرصة الكافية للمرأة لتبوء المناصب الإدارية العالية مقارنة بعدد الرجال في هذه المناصب. طالما أثبتنا مقدرتنا في إنجاز العمل الشاق، فلا داعي إلى استمرار حرماننا من حقنا في إدارة المناصب العالية.
حسب معرفتك بالوطن العربي الكبير، هل تظنين بأن آراءك المتعلقة بعمل المرأة في مهنة الصحافة تلقى آذاناً صاغية؟
نعم، لكن ليس بالشكل الكافي. هناك مراسلات في هذا المجال في لبنان وسورية والأردن والمغرب وفي أنحاء أخرى في المنطقة، وهنا أيضاً لم أسمع منهن أي شكوى نابعة عن كونهن نساء. ولهذا، يبدو أن الوضع في العالم العربي بشكل عام جيد، ولكن هناك حاجة إلى المزيد من التغيير والانفتاح خاصة في دول الخليج.
حياة الصحافيين الميدانيين معرضة للخطر لكن التزامك بنقل صورة شاملة عن الأحداث يدفع بالخوف إلى زاوية ثانوية
هل اضطررت إلى تقديم بعض التنازلات في عملك لأنك امرأة؟
كما ذكرت سابقاً، فإن العمل الصحافي الملتزم يأتي على حساب حياتك الشخصية. فمثلاً، خلال الانتفاضة، بين العامين 2000 و 2004، توقفت نشاطاتي الاجتماعية بشكل تام ولم أعد أفكر إلا في واجباتي المهنية. ولأن الوضع في منطقتنا مليء بالأحداث والتطورات، فإنك تجد نفسك منعزلاً، رغماً عنك، عن أوجه الحياة الأخرى وخاصة الاجتماعية منها. إنها مشكلة العمل الصحافي. لا أدري إن كنت على صواب أو خط، ولكن هذا ما حصل بالفعل. على أي حال، إنني أحاول الآن التوفيق بين الواجبات المهنية والحياة الاجتماعية. أحاول، قدر الإمكان، أن أبقي إجازتي الأسبوعية على الأقل لنفسي، وهذا شيء لم أفعله خلال سنوات طويلة.
العمل الصحافي الميداني الذي تقومين به يحمل في طياته الكثير من المخاطر التي قد تودي بحياة المراسلين أحياناً. كيف تعاملت مع هذا الأمر؟
هذا صحيح طبعاً. إن الخوف موجود، ولكن التزامك بنقل صورة شاملة عن الأحداث يدفع بالخوف إلى زاوية ثانوية. حياة الصحافيين الميدانيين معرضة للخطر، وهذا ما حصل بالفعل لعدد من الزملاء الذين وضعوا واجباتهم المهنية فوق أي اعتبار فدفعوا حياتهم ثمناً لذلك. هناك أوقات تطلق فيها النيران على أي شيء يتحرك خصوصاً في الليل، كما حدث معنا على سبيل المثال في جنين، حيث اضطررننا، بسبب الإغلاق، إلى سلوك طرق فرعية ووعرة ومحفوفة بالمخاطر للوصول إلى المدينة. وعندما نجحنا في ذلك، وجدنا أنفسنا فجأة في خضم المعركة، فالدبابات تطلق قذائفها من كل جانب وأزيز الرصاص يمر من فوق رؤوسنا.
هنا، تقع مسؤولية ما قد يحدث لك ولباقي أفراد الطاقم على كتفيك، فإما الاختباء حتى تهدأ الأمور وبالتالي لا توثق الحدث، وإما المجازفة لتحقق ما ذهبت إلى هناك من أجله، وهذا ما يختاره عادة الصحافيون الميدانيون رغم الخطر المحدق. إنه ذلك الشعور الداخلي الذي يصل، مع مرور الوقت، حد الإدمان، شعور ينسيك أي اعتبار سوى أن تكون جزءاً من الحدث.
هل ما زلت ترغبين بالقيام بهذا العمل أم تفكرين في اتجاهات أخرى؟
إنني على يقين بأنني سأستمر في تغطية مثل هذه الأحداث في السنوات القادمة ولكنني في الوقت ذاته، أكرس وقتاً أكثر لتغطية المواضيع الإنسانية من خلال التقارير الوثائقية التي تروي قصصاً إنسانية، سواء هنا أو في أجزاء أخرى من العالم. إنها رسالة يجب إتاحة الفرصة لنا أينما تواجدنا لإيصالها بحيادية تامة إلى المشاهد، كما يجب على جميع الأطراف توفير الحماية لنا كما تنص عليه القوانين والأعراف الدولية، هذه الحماية التي لم تكن، لأسفي الشديد، من نصيب زميلة لنا حاولت من خلال عملها في “قناة الجزيرة” في العراق أن تنقل صورة حيادية لم ترق للبعض، فقتلت ببشاعة.
نُشر هذا الحوار مع الصحافية الفلسطينية الراحل شيرين أبو عاقلة (3 كانون الثاني/ يناير 1971– 11 أيار/ مايو 2022)في العدد 42 من مجلة الإنساني الصادر في ربيع 2008 ضمن ملف حمل عنوان “النساء ربيع العالم”. وأجرت الحوار معها ميشيل ميرسييه التي شغلت آنذاك منصب مندوب الإعلام والنشر في بعثة اللجنة الدولية في الأراضي المحتلة.
Comments