يكاد يُجمع نقاد الرواية العربية المعاصرة على أن الحديث عن الرواية العربية والحرب والهزيمة ينطوي على فرضية مهمة أو اعتراف ضمني بأن الأدب والفن ظاهرة متطورة، تؤثر في البيئة المحيطة وتتأثر بها، وهو اعتراف يؤكد أن الرواية تصوير لتجربة بشرية، وليست مجرد مجموعة من الأنساق والتراكيب والرموز المجردة.
– 1 –
الرواية ترتبط بالإنسان إبداعًا ومادةً وتلقيًا. ويبدو أن المرء مضطر للتأكيد بأن التطور في الأدب له مساره الخاص، إذ يختلف عن التطور العلمي، كما أن التطور الأدبي لا يخضع لمنطق السنوات أو المراحل الزمنية ولا سيما عندما يكون النوع الأدبي المدروس حديث النشأة. فالتغيرات الأدبية أبطأ من التغيرات السياسية أو الاقتصادية، ولهذا فإن العلاقة بين التطورات الأدبية والمنعطفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليست على درجة واحدة من الوضوح، بل هي تختلف حسب المراحل التاريخية وكذلك حسب طبيعة الإنتاج الأدبي.
وعلى الرغم من كل التأكيدات والاحترازات السابقة فإن المرء يستطيع أن يقرر بكل ثقة بأن “حرب 67” أو “نكسة حزيران/يونيو” كانت بمثابة الحد الفاصل بين مرحلتين في حياة الرواية العربية، بل في حياة الأدب العربي برمته، كما يذهب إلى ذلك ثلة من النقاد المعاصرين.
إن الأبنية الروائية ليست أبنية قائمة في فراغ، وإنما هي أبنية وعي يتولَّد عن شروط إنتاجه في واقعه النوعي الذي تتولَّد عنه وبه أبنية جمالية، حاملة خصائصه التكوينية بمعنى أو آخر. ولهذا فقد أحدثت تلك الحرب على سبيل المثال خلخلة عميقة في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية… إلخ وفي منظومة القيم ومنها القيم الفنية والمعايير الجمالية، فهي حجر الزاوية لكل ما تلاها وما جرى ويجري. ولهذا يمكن أن تُعد – بحق – بمثابة منعطف أساسي في مسار التاريخ.
لهذا يمكن القول أيضًا بأن فكرة الحرب والهزيمة فرضت نفسها على الروائيين العرب على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، واستطاعت أن تخلق عددًا وفيرًا من الروايات الخاصة بها. هذه الروايات لها أهميتها ودلالاتها من حيث العدد والتنوع في الموضوعات والرؤى، ومن حيث الأساليب والأشكال والمستوى الفني والمستوى الجغرافي.
– 2 –
سنسعى في هذا المقال إلى عرض نماذج من الرواية العربية المعاصرة عالجت تيمة الحرب بصورة أو بأخرى ومن منظورات رؤيوية مختلفة وخيارات جمالية متباينة، لكنها في النهاية تكاد تتفق على البحث الدقيق عما تخلفه الحرب من آثار ظاهرة وعميقة ودفينة على الأفراد والمجتمعات، وكل شيء كان في مرمى النيران والمدافع.
قيمة الرواية؛ أية رواية، لا تنبع مما فيها من تشويق فحسب، وإنما من كل ما يضاف إلى التشويق من رؤية جمالية، توازي الواقع الذي نعيشه، وتتولى تجسيده في بناء فني، يتولى تعرية مثالب هذا الواقع، ويكشف عن مساوئ قبحه وفساده، فيدفعنا إلى المزيد من الوعي به، والتمرد على كل ما فيه من فساد سياسي، وتدهور اجتماعي، وتطرف ديني، وتأزم اقتصادي، واختلال قيم، ولكن بما لا يدفعنا إلى الهروب من هذا الواقع، بل مواجهته بالوعي، ومقاومته بالقيم التي لا يزال هذا الواقع يتخلى عنها.
الرواية كالحياة تمامًا، ليست سوى تجربة أو امتحان لكي نختار، والشخوص الحقيقية الأصيلة المرسومة ببراعة وإحكام تمارس فعل الاختيار بدرجة أو بأخرى، ورواية «فهرس» للروائي العراقي سنان أنطون واحدة من الروايات التي عالجت مأساة الحرب وأهوالها وآثارها المدمرة على كل شيء ليس الإنسان فقط، بل الحيوان والنبات والحجر والجماد أيضًا!
بعد غياب لأكثر من عشر سنوات في الولايات المتحدة، يزور السارد «نمير» العراق مترجمًا لزوجين يصوران فيلمًا وثائقيًّا. يلتقي بودود الذي يُعد لأرشيف أو «فهرس» لخسائر الحرب من الحيوانات والنباتات والجماد وكل ما اندثر من غير الجنود وعتادهم، مستندًا إلى تاريخ شفوي ورصد خاص به للأحداث والمصادر الإخبارية.
«فهرس» ليست رواية عما تفعله الحرب بنا وفينا فحسب، ولا هي فقط ترجمة لمعاناة أهل العراق الذين تحولوا إلى فريسة مستباحة بين ديكتاتورية مجنونة وفوضى عارمة، ولكن المعنى الأعمق لهذه الرواية الذكية عن صراع الإنسان مع غربته ووجوده وزمنه القاهر، عن غربة خارج الوطن، واغتراب في داخله، عن زمن لا يتوقف ليسجل أو ليحفظ، ولكن الإنسان ينتصر في النهاية بالكتابة التي تحفظ الذاكرة، ينتصر لأنه ينقل إلى غيره خبرة الألم والبهجة، ولأنه يستطيع أن ينطق بلسانه، وأن يُنطِق الجماد أيضًا.
ولا تبعد رواية العراقية المغتربة إنعام كجه جي «طشَّاري» عن هذا السياق المأساوي للحرب التي عاشها العراق سنوات طويلة. قبل عقود قليلة كنا نتحدث عن رواية «التغريبة الفلسطينية» بعد النكبة والنكسة، ثم ظهرت رواية «التغريبة اللبنانية» بنت الحرب الأهلية الضروس التي استمرت 15 عامًا، واستقرت مرارتها في الذاكرة اللبنانية حتى اليوم، وفي السنوات القليلة الأخيرة سنعثر على نماذج لرواية «التغريبة السورية»، أو «التغريبة العراقية» التي تعتبر «طشَّاري» من تجلياتها الناضجة، إنها كلها في النهاية تنويعات «من/ على» رواية الحرب وأهوالها ومعاناتها التي ما زالت تلقي بظلالها الكئيبة وخرابها الشامل وآثارها المقيتة على شعوب المنطقة أغلبها.
تتتبع الرواية العراقيين الذين «تطشَّروا» في البلاد أي تفرقوا مثل طلقة البندقية، هكذا تفسر أم عراقية شابة لابنها الصغير معنى الكلمة في مهجر العائلة الفرنسي، منذ بوابة العنوان نحن أمام استعارة مدهشة لا تجعل من البندقية ومن السلاح وسيلة للقتل المجاني الجسدي فحسب، ولكنها أيضًا وسيلة للقتل المعنوي بتغريب العراقي عن بلده العريق.
اختارت إنعام ثانيًا أن تضاعف الإحساس بالأزمة، فجعلت أبطالها ينتمون إلى الأقلية العراقية المسيحية، التي كانت تعيش في تآلف وانسجام مع كل ألوان الطيف العراقي، قبل أن تنهال الحروب تباعًا ومن كل حدب وصوب وكأنها في سباق لا يهدأ ولا يتوقف عن حصد البشر، أصبح القتل على الهوية معتادًا، أما الأماكن والمدن فقد جرى تقسيمها بين الطوائف. نال المسيحيين بعضٌ من شواظ فوضى وتعصب، فُجرت بعض الكنائس، ووصلت تهديدات بالقتل والسبي، فالحالة المسيحية لا تقدم هنا سوى كنموذج لما يمكن أن يحدث لكل الطوائف، فيما لو استمر هذا الجنون الطشَّاري.
– 3 –
في مصر تأتي أعمال الروائي الراحل محمد ناجي لتمثل واحدة من أنضج المعالجات الروائية وأكثرها جمالًا وتماسكًا لفكرة «الحرب» التي يخوضها جنود الوطن المخلصون ليعودوا منها منتصرين ظافرين ويحصد ثمارها المباشرة غيرهم بلا حرب ولا مواجهة ولا ضحايا ولا دماء! الحرب كفعل يؤدي دون شك إلى حدوث تصدعات وتشوهات هائلة سواء داخل الأفراد الذين خاضوها أو في إطار الجماعة التي قدمت أبناءها وقودًا لهذه الحرب. وفي روايتيه البديعتين «العايقة بنت الزين»، و«لحن الصباح» خير تمثيل وتجسيد لما أقول.
وبالمناسبة، فإن هذه الفكرة من الأفكار المتكررة الملحة عند كُتَّاب جيل الستينيات على اختلاف تنوعاتهم السردية ومساراتهم الفنية؛ سواء في الرواية أو في السينما، وهي أن الذين انتصروا في الجبهة قد انهزموا في الحياة بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر، وأن الذي زرع غير الذي حصد، وأن الذين ربحوا ثمار المعركة من الانتهازيين وكذابي الزفة، نجد ذلك مثلًا في رواية «الحرب في بر مصر» ليوسف القعيد التي تحولت إلى فيلم بعنوان «المواطن مصري»، الشهيد ابن الفلاح والتكريم لابن العمدة.
ولكن الصورة التي اختارها محمد ناجي لحال المنتصر المهزوم لا نظير لها في قسوتها وفي قوتها وفي تأثيرها لأن المنتصرين يعودون من الحرب بعاهاتهم الجسدية، ثم يدفعون الثمن من روحهم أكثر من مرة، لا بل إنهم يتحولون إلى عفاريت وأشباح يطاردها الناس ليقتلوها، وبعض هؤلاء العائدين يلتصقون بالتراب التصاقًا (عباس الأكتع في «لحن الصباح»، وفي «العايقة بنت الزين»)، وكأنهم يتعذَّبون بنصرهم القصير مثل «سيزيف». تُرى ما الذي كانوا سيفعلونه معهم لو عادوا منهزمين لا منتصرين؟
تبدو رواية ناجي البديعة «العايقة بنت الزين» مثل مشربية صُنعت من كلمات ودموع وألحان من مقام الصبا تفتح على المحروسة بعد حرب انتصرت فيها، فلما جاء وقت اقتسام الثمار والغنائم، قفز «كذابو الزفة»، وجنرالات «غطيان الكازوزة»، ومانيكانات الشوارع، ومقاولو الهدم، وبهوات الأصفار، ووقف المنتصرون يعزفون لحن البيات بدون نوبة رجوع، وانتشروا يعتصمون بمرافئ الذاكرة، أو يلتقطون فتات الموائد، أو يستعيدون أسطورة ميزان القلوب، ويعزفون بمزمار صامت، أو يبيعون أعوادهم وألسنتهم.
ينتهي القسم الأول من الرواية بالقتل الثاني للفاتح المهزوم، وينتهي القسم الثاني من الرواية باستسلام ناعسة بعد موت أيوب للزواج من سلطان القلعة الذي اشترى كل شيء، وبين القتل والاستسلام يتداعى وطن بأكمله ويترنح المهزومون في كل مكان، وكأنهم ضحايا معركة أشرس من حرب العبور، وكأنهم ركبوا أرجوحة لا تتوقف لحظة عن الدوران، يقول المقاول الذي سينفذ عملية هدم كل البيوت: البناء يمكن أن تهدمه طوبة. وكانت الطوبة في مقتل الفاتح ثم استسلام ناعسة.
أما «لحن الصباح» لمحمد ناجي، فواحدة من الروايات البديعة على كثافتها وقلة عدد صفحاتها (تقع في ما لا يزيد على 60 صفحة تقريبًا) التي عالجت ببراعة التشوهات النفسية والاجتماعية التي تنتج عن الحرب وعقبها؛ في روايته «لحن الصباح» تجد العلاقة متوترة، دون سبب، بين خطاط يمارس فنًّا جميلًا لكنه دون موقف، وانتهى به الأمر، أن ارتعشت يداه، فبحث عن صنعة أخرى، وما بين «مقاتل» ممتلئ بالحيوية، خرج من الجيش بعد أن شارك في انتصار، وينتظر تقدير الناس له على ذلك، فإذا به يفاجأ بأن عليه أن يتجرع كأس المرارة لآخره.
والقراءة المتأنية للنص تربط مصير الشخصيتين الأساسيتين بحدث الحرب، حيث فقد عباس الأكتع ساقيه وكتفه في حرب 1973، حيث «قصتها الشظايا حتى نهاية الفخذين»، وطيرت أيضًا راحة اليد اليسرى، «تركت له راحة اليد اليمنى بإصبعها الوسطى، وإليتين خشبيتين يزحف على جلدهما اليابس» وعمل بائعًا للسبح والأحجبة… ونوفل الخطاط السابق بيده اليمنى التي أصابها مرض الرعشة فلم يعد قادرًا على إبداع فنه القديم، ولذلك أخذ يبيع هو الآخر كتب الأدعية، والأحجبة والبخور والعنبر وجوزة الطيب، وينافس عباس، والحاجة ويكا صاحبة «سوبر ماركت العهد الجديد» ذات الشخصية القوية والحضور المؤثر.
فقد نوفل ابنه في آخر حروب المنطقة «حرب الخليج» الأخيرة التي ضاع معها ابنه في الكويت، ولا تكتفي الرواية بهذا الرباط التاريخي، ولكنها ترفده برباط معيشي، حينما تقدم الحاجة ويكا الإفطار لعباس قائلة له «لكَ ولهُ» فيفتح الكيس ويدعو نوفل للأكل معه، فالصراع على لقمة العيش ينطوي في الوقت نفسه على المشاركة الحميمة فيها.
ويظل العداء مستعرًا بين الاثنين، على الرغم من وقوعهما معًا تحت وطأة الظلم الاجتماعي والتهميش العنيف، فكان لا بد أن تنتهي الرواية في لحظة الصدام، فقتل أحدهما الآخر دون قصد.
«لحن الصباح» تحكي عن مصر والمصريين عقب حرب العام 1973، ولقد انطلقت أيضًا إلى آفاق أوسع لتنقل أزمة الإنسان، ومعركته الخاصة في السيطرة على نفسه، ولكي ترصد بصورة مؤثرة، حرب الداخل الشرسة لتحقيق طمأنينة النفس، ولحسم بعض التناقضات المأساوية.
– 4 –
في «هنا القاهرة» حيث تتجسد الغربة في وطن لا نعرفه، يختبر إبراهيم عبد المجيد شخوصه المغتربين عن وطن يتغيَّر في العاصمة، ست سنوات عجاف بعد حرب انتصر فيها جيل الصبر والصمت، عاد من الجبهة فوجد نفسه مهمشًا وخارج الحياة حرفيًّا، «هنا القاهرة» تنويعة روائية أخرى على فكرة الحرب التي يخوضها النبلاء والشرفاء بالنار والدم ويحصد غيرهم ثمارها بحق أو بغير حق، وهي في عنوانها العريض حالة اغتراب في الداخل تقود إلى اغتراب فعلي، هروب جماعي لعقل مصر ومثقفيها إلى الخارج.
وتستعيد الرواية ثانيًا زمن السبعينيات الصاخب، تحفظه من الضياع، وتحتفي بمناضليه قبل أن يأكلهم النسيان، الرحلة الطويلة تستمد أهميتها أيضًا من كونها وثيقة مدهشة عن غروب اليسار، وصعود اللصوص، وانهيار كل شيء جميل، التاريخ ينقل الوقائع من السطح، مجرد أحداث كبيرة لا أثر فيها للناس العاديين، ولكن الرواية وحدها، والروائي فقط، هو الذي ينقل لك الأحداث والتحولات من العمق، من خلال عيون وقلوب وأجساد تشعر وتتألم لأنها عرفت وتثقفت وحلمت.
نٌشر هذا المقال في العدد 69 من مجلة «الإنساني» الصادر في خريف/ شتاء 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا.
يمكنكم الحصول على عدد مطبوع من المجلة التي توزع مجانًا من خلال بعثاتنا في المنطقة. انقر هنا لمعرفة عناوين البعثات.
نشرنا في السنوات الماضية، مجموعة منوعة من النصوص حول الأدب والحرب، انظر مثلا:
يوسف بزي، بيروت السلم شعرية، بيروت الدمار روائية: خراب المكان كما تسرده الرواية اللبنانية
فيروز كراوية، «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي»…مدن القناة المصرية وتجربة مقاومة الحرب بالغناء
سيد ضيف الله، الجماعة الشعبية وصياغة قواعد أخلاقية لحروب السيرة الهلالية
مهدي يزداني خرم، الأدب في مواجهة الحرب: أحياء إلى الأبد
شيرين أبو النجا، زمن الحروب الجديدة…الرواية العربية في مواجهة كابوس الحرب
فراس محمد، أزمات شحنت العين والعاطفة… الحرب والصراع كما تعكسهما مرآة السينما السورية
سحر مندور، حضور المدن في صور دمارها
Comments