معاملة أسرى الحرب: وجهة نظر بوذية

نشرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذا العام التعليقَ المحدَّث على اتفاقية جنيف الثالثة التي تنظم معاملة أسرى الحرب. واتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها الإضافية هي المعاهدات الأساسية في القانون الإنساني الدولي، المعروف أيضًا باسم “قانون الحرب” أو “قانون النزاعات المسلحة”، وهي مجموعة من القواعد التي تهدف إلى حماية أرواح الأشخاص الذين لا يشاركون – أو كفّوا عن المشاركة – في الأعمال العدائية، وصون كرامتهم، وتفرض هذه القواعد قيودًا على وسائل وأساليب شن الحرب.

أفضت التطورات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، منها على الأخص ظهور تقنيات ومجالات جديدة في القانون، إلى تغييرات كبيرة في كيف يطبَّق القانون الدولي الإنساني بهدف مواجهة التحديات المعاصرة. وهذا التعليق الجديد على الاتفاقية الثالثة جزءٌ من مشروع كبير لتحديث تعليقات اللجنة الدولية على اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها الإضافية، وتقديم تفسيرات محدَّثة في هذا الصدد. وقد استندت اللجنة الدولية في نهوضها بهذه المهمة إلى خبرتها الواسعة في مجال مساعدة أسرى الحرب وحمايتهم، فضلًا عن حشدها الخبراء الدوليين.

 

إن الوضع القانوني لـ “أسير الحرب”، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا ينطبق إلّا على المحتجزين في أثناء النزاعات المسلحة الدولية. ومن بين هؤلاء، أفراد القوات المسلحة، والذين يرافقونهم، وسكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون السلاح بطبيعة الحال لمقاومة الغزاة. ووفقًا لاتفاقية جنيف الثالثة، لا يُعد احتجاز أسرى الحرب صورةً من صور العقاب، وليس هدفه سوى إبعادهم عن استئناف مشاركتهم في العمليات العدائية، ولا يمكن مقاضاتهم إلّا إذا ارتكبوا جرائم حرب.

ويجب أن يعامَل أسرى الحرب معاملةً إنسانية في جميع الظروف، وحمايتهم من أي عمل من أعمال العنف، وكذلك من الترهيب والإهانات وفضول الجماهير. ويحدَّد الحد الأدنى لظروف الاحتجاز فيما يتعلق بالسكن والغذاء والملبس والنظافة والرعاية الطبية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها يجب إطلاق سراح أسرى الحرب وإعادتهم إلى أوطانهم دون تأخير أو إبطاء.

ورغم أن معظم النزاعات المعاصرة غير دولية، ومن ثمَّ لا ينطبق الوضع الكامل لأسرى الحرب ولا تمتّعهم بالحصانة من الملاحقة القضائية، فإن المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني تنص على أنه يجب أن يُعامَل الأشخاص المحرومين من حريتهم بسبب نزاع مسلح غير دولي معاملةً إنسانية في جميع الظروف. وهم على وجه الخصوص مشمولون بالحماية من القتل أو التعذيب أو المعاملة القاسية والمهينة والحاطة بالكرامة.

ومع أن التصديق على اتفاقيات جنيف ظاهرة حديثة نسبيًا، إلا أن الحرب لطالما كانت خاضعة دومًا لمبادئ وأعراف معينة، وللقانون الدولي الإنساني جذورُه في قواعد الحضارات القديمة والأديان. وتعاليم البوذية وثيقةُ الصلة في هذا الصدد، وقد نظمت اللجنة الدولية مؤتمرًا دوليًا عن الحد من المعاناة في أثناء النزاع: القواسم المشتركة بين البوذية والقانون الدولي الإنساني في سري لانكا في أيلول/سبتمبر 2019.

ورغم أن البوذية فعليًا لا تشجع على الحرب، فإنها لا تتحاشاها، وتقدم أدبيات البوذية الكثير من الإرشادات ذات الصلة بالحروب التي اندلعت في زمن بوذا وما بعده. ورغم أن النصوص البوذية – التي تغطي تعاليمها الأخلاقية نطاقًا عريضًا بوجه عام من حيث طبيعتها – لا تحتوي على أحكام مفصَّلة بشأن معاملة أسرى الحرب، فليس من الصعب تطوير منظور بوذيّ حول هذه المسألة، ومجموعة من الممارسات الجيدة بشأن كيف يعامَلون بما يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم. وفي الواقع، فالبوذية بالتزامها القوي والفعلي بالسلام وسلامة الآخرين تسوق حجةً قويةً تدعم رعايةَ أسرى الحرب على أسسٍ إنسانية وكتدبير استراتيجي لمنع إشعال فتيل نزاعات أخرى.

وبالإضافة إلى النصيحة العامة التي قدَّمها بوذا بالامتناع عن الأنشطة التي تسبب معاناة للآخرين وللنفس، توجد فقرات ومقاطع تشير على وجه التحديد إلى المعاملة اللائقة لأسرى الحرب. ففي إحدى الحالات، يتسامح الساكا (Sakka)، ملك الأرباب، مع تعليقات مسيئةٍ تفوَّه بها أمامه خصمٌ مهزومٌ مقيَّد بالحبال. وعندما أبدى المساعد الشخصي للساكا حيرته بسبب امتناع سيده عن الإتيان برد فعل إزاء الإساءة، فسّر ملك الأرباب سلوكه غير العادي على النحو التالي:

متى تحمَّل إنسانٌ وُهِب القوةَ

امرءً ضعيفًا بطولِ صبرٍ وأناةٍ،

فذاك ما يُسمّون الحِلمَ الأعظم …

ومن يجازي غاضبًا بغضبٍ،

فهو إذ ذاك إنّما يزيد الأمر سوءً فوق سوء.

ألا مَن كفَّ غضبَه مجازاةً لغاضبٍ

فإنما هو امرؤ كَسبَ معركةً بشقِّ الأنفس.

في إحدى قصص “جاتاكا” (Jataka، 23)، ينصح حصانٌ، كان له دور فعّال في كسب الحرب، سيدَّه بالامتناع عن قتل أعدائه – إذ سِيقَ إليه سبعةُ حكام أسرى مكبّلين بالأصفاد – وحثَّه على أن يهبهم حياتهم. وكما يتضح في مثل هذه الحالات، فإن الموقف البوذي يتمثل في أنه ينبغي على المنتصرين في الحروب إظهارَ الشهامة والنّبل تجاه الأعداء المدحورين الخاضعين لسيطرتهم. وبصرف النظر عن المبدأ الأخلاقي العام بالامتناع عن الانتقام، تؤكد هذه القصص صورةً من صور السلوك الأخلاقي الذي يمثل انتهاجه تحديًا للمرء وتبدو ممارسته صعبة.

ومع أن الذين لديهم ذهنيات غير منضبطة أو غير مدرَّبة قد يميلون أحيانًا إلى معاملة أعدائهم بقسوة ومعاقبتهم أو إساءة معاملتهم إذا ما كانت لهم اليدُ العليا، إلّا أن البوذية تشجع الناس على التمسك بالقوة الأخلاقية والتسامي على هذه البواعث الأدنى والميول الوضيعة. والسبب في ذلك هو أن الود واللطف والعطف، لا العداء، هو ما يديم الحياة ويجعلها تستحق العيش. في الظروف الصعبة مثل الحروب، يجب على البوذيين أن يكونوا على استعداد لبذل جهد إضافي “ضد التيار” (Bhojājānīya-jātaka) إذا أرادوا النجاح في ممارستهم، التي تتضمن إظهار اللطف والرحمة والكرم تجاه المقاتلين الأعداء الواقعين في قبضتهم.

وبالمثل، جاء في “الدامابادا” (الفصل 5، 137) أن: “من أنزلَ عنفًا بمن هم بلا سلاح” سيُبتلى بمعاناةٍ كبيرة فيلقى الكارما (karma) التي يستحقها، ما يعني أن العنف تجاه الأشخاص العُزل هو ممارسة تتسم بخبث خاص. وبطبيعة الحال، فإن أسرى الحرب والمحتجَزين من كل الفئات مستضعفون بصورةٍ خاصة لأنهم واقعون في قبضة القوى المناوئة لهم. وتعد الأفكار البوذية بشأن كيف يُعامَل السجناء بوجه عام، سواء في زمن الحرب أو السلم، مهمة وذات صلة أيضًا.

على سبيل المثال، جاء في قصص الجاتاكا (the Sumaṅgala Jātaka, 420) أنه يجب على الملك ألّا يفرض عقوبةً على الجناة عندما يكون في حال اضطراب عاطفي؛ لأن مثل هذا المسلك من المحتمل أن يفضي إلى تجاوزات غير أخلاقية. وتتضح السياسات الأخلاقية التي يتبناها الملك وضوحًا تامًّا عندما يفكر الملك أنه “إذا غضب السيد غضبًا شديدًا، فيجب ألّا يأمر بعقوبة غير عادلة أو في غير محلها، ما يسبب معاناةً هائلة على الآخر”. (الجاتاكا 441Jat III ). وفي الوقت نفسه، في قصة (Ratnavali) “الإكليل الثمين Ratnamālā” ينصح الفيلسوف البوذي ناجاريونا (Nagarjuna) الملكَ بضرورة معاملة المجرمين على النحو الآتي، الذي يتماشى إلى حد كبير مع القانون الدولي الإنساني:

لا تلجأ أبدًا إلى إعدامهم أو تكبيلهم أو تعذيبهم وإن استحقوا ذلك جزاءً. بل بقلبٍ ملؤه رحمة وشفقة اشملهم دائمًا بعنايتك.

طالما لم يُفرَج عن السجناء، أسعدْهم وأرحْهم، وليكن عندهم من يشذّب شعرهم، وتحت تصرفهم مرفق استحمام ومأكل وملبس وشراب ودواء.

وبخلاف ذلك، يعد الامتثال للقواعد الحالية للقانون (Loka vajja) أمرًا مهمًا لجميع البوذيين، بما في ذلك الرهبان المتفرغون: “اطلبُ منكم، أيها الرهبان، أن تسلكوا وفق [قانون ونظام] المَلك” (anujānāmi bhikkhave rājūnaṃ anuvattitum، Vin. I، 138). ومن المحتمل أن تشمل هذه الوصية المعاهدات المصدَّق عليها عالميًا مثل اتفاقيات جنيف، التي تهدف إلى الحد من المعاناة في أثناء الحرب.

البوذية تدعو إلى معاملة جميع المخلوقات بلطفٍ ومحبة غير محدودين، بما في ذلك أسرى الحرب. وعندما يتعلق الأمر بكفِّ الأذى وإظهار العطف، تضع البوذية كل الكائنات الحية في مجموعة واحدة؛ لأن “الجميع يرتعدون أمام العصا، والجميع يخشون الموت. وعند مقارنة الآخرين بالنفس، فلا ينبغي للمرء أن يَضربَ ولا أن يأمر بضرب.” (الدامابادا، 5، 129).

وإلى جانب الأسباب الفلسفية والأخلاقية التي تُساق بغرض بناء سلوكنا الأخلاقي العام، فإن فكرة مقارنة الآخر بالذات هي واحدة من أقوى الأفكار الأخلاقية في تعاليم بوذا، كما أن قوتها النفسية والعاطفية تتيح الدافع لمعاملة الكائنات الحية الأخرى بإنسانية ورحمة.

وبإمعان النظر مليًّا في الصّلات المشتركة بين البشر كافة – وهي يمكن أن تكون بمثابة أساس لهم كي يُظهِر بعضُهم العطف والشفقة تجاه بعض – فلربما أمكننا أن نوسّع نطاق مجاز “أسير الحرب” ليشمل جميع البشر أو جميع المخلوقات الحية وفقًا لتعاليم بوذا، إذ أن جميع الكائنات غير المستنيرة هي في حالة صراع دائم مع أعدائهم الداخليين. وبدافعٍ من انحرافهم وفسادهم، فغالبًا ما يكون هؤلاء في صراع مع ذواتهم، وهم إذ ذاك سجناء في حلقة ولادةٍ وموتٍ تمتد أبد الدهر (التّيه الأبديّ Saṃsāra). وبهذا المعنى، يكون المنتصر والمهزوم كلاهما أسرى حربٍ وعرضة لتكبّد المعاناة بينما هم يستحقون الشفقة والرحمة، بعضهم من بعض. وهنا مرة أخرى “عند مقارنة الآخرين بالنفس، فلا ينبغي للمرء أن يَضرب ولا أن يأمر بضرب.”

هوامش
*الدامابادا (Dhammapada) كتاب يحوي أقوالًا منسوبة لبوذا.

The Connected Discourses of the Buddha, Translated by Bhikkhu Bodhi, Wisdom Publications, Boston, 2000, 322

المؤلفون

يشغل السيد أسانغا تيلاكاراتني منصب أستاذ فخري بجامعة كولومبو في سري لانكا، وبيتر هارفي هو أستاذ فخري بجامعة سندرلاند، والدكتور سونيل كارياكاروانا هو قس بوذي بالقوات المسلحة البريطانية، أما أندرو بارتليز-سميث فهو مسؤول تواصل إقليمي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

نُشر هذا النص في الأصل بالإنجليزية على مدونة “الدين والمبادئ الإنسانية”. وقد ترجم عاطف عثمان المقال إلى اللغة العربية. 

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا