كورونا في سورية: شبحٌ يراه الأطباء فقط

العدد 67 / من الميدان

كورونا في سورية: شبحٌ يراه الأطباء فقط

EPA-EFE/YOUSSEF BADAWI

أن تُشاهد صورًا بالأبيض والأسود لأناس يرتدون الأقنعة الواقية غريبة الشكل أثناء انتشار وباء الحُمى الإسبانية أعقاب الحرب العالمية الأولى، ظنًّا بأن ذلك تاريخٌ مضطربٌ لن يعود، أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن أن تعاصر وباءً وتشهد كم الفوضى والخسارات الجسدية والاقتصادية التي يُخلِّفها. فالناس يختبرون حالة من اللايقين وهم يراقبون العلم وهو يسابق الطبيعة للسيطرة على مرضٍ غامض جديد.

وبالطبع سيكون كل ذلك أكثر صعوبة إن كان المرء يعيش في سورية، بحيث يكون وباء كورونا المستجد تحديًا جديدًا آخر في بلادٍ أنهكتها حربٌ طالت عشر سنوات.

صم الآذان عن أخبار الوباء

في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل المُنصرمين، ثبتت حواس الناس في سورية على شاشات التلفزيونات والهواتف وصفحات الجرائد كي تترقب أخبار انتشار وباء كورونا في الداخل السوري، بالتوازي مع تفشيه في العالم أجمع. لكن الناس وجدوا أنفسهم أمام أرقامٍ متضاربة ومعلومات تفتقر للدقة تُضخِّم الشائعات حول المرض تارة، أو تُقلل عدد الإصابات وتشكك بوجود المرض تارةً أخرى. حتى جاءت ذروة الانفجار في أعداد الإصابات في أواخر شهر حزيران/ يونيو وتموز/يوليو: خمس إصابات، عشرون إصابة، مائة إصابة، ألف إصابة، إلخ.

كانت الإحصاءات الرسمية تُعلن عن عدد الحالات المُسجلة والمتماثلة للشفاء أو المتوفاة، وظلَّت الأرقام تتزايد، حتَّى توقَّف الناس عن الانتباه لها أو التركيز فيها.

هكذا قررت شرائح واسعة من السوريين صم آذانها وإغماض عيونها عن أي أخبار جديدة تتعلق بالوباء. واليوم أثناء التجوُّل في سورية قد يقع المرء على إعلانات طُرقية توعوية أو يسمع في الإذاعات الرسمية والخاصة رسائل تروِّج للعناية بالصحة واتباع إجراءات السلامة العامة، لكن لا أحد يلتفت إليها أو يسمعها.

فكما يبدو، وقعت وسائل الإعلام المحلية والعالمية في مطب الاختلال الوظيفي، الذي يعني أنها وأثناء أداء مهامها بإعلام الناس وتثقيفهم سببت تأثيرات سلبية غير مستحبة كإرهاق الجمهور بالأخبار المتضاربة ودفعه للتوتر والقلق، بحيث أحجم عن متابعة الرسائل الإعلامية ومنع وصولها إليه.

واليوم قليلًا ما يذكر الوباء في أحاديث السوريين اليومية بعد أن قرروا تجاهله واعتباره غير موجود، والتَّصرف بما تمليه اللحظة الراهنة؛ فرأس كل مواطن سوري مُثقل بأخبار الحرائق وأزمات المازوت والخبز واستعدادات الشتاء المُرتقب.

أطباء في مواجهة عدو غامض

من جهتهم، لا يمتلك الأطباء ترف تجاهل الوباء أو تناسيه، فالأشهر القليلة الماضية كانت مُرهقةً بما يكفي مع معرفتهم بأنهم خط الدفاع الأول في بلد منهك، بنيته التحتية متهالكة. في المقابل قد لا تكون الشهور القادمة بأحسن حالٍ ، فالأطباء يجدون أنفسهم اليوم عزَّل في مواجهة الوباء، تقع عليهم مهمة حماية أنفسهم أولًا وأداء مهامهم على أكمل وجه، فإنقاذ أكبر قدرٍ من الأرواح ليس استعارة هنا.

حول ظروف العمل الخاصة هذه، يقول الطبيب حسام رزوق، أخصائي الصدرية في مستشفيات «المزينة» و«جامعة الحواش» في محافظة حمص، إن أشد ما يقلقه فيما يتعلق بممارسة عمله أثناء الجائحة هو خوفه على صحة من حوله، وبالتحديد أهله الكبار في السن إذا ما أصيب هو بالعدوى. ويضيف «نقص المعلومات حول الفيروس وتبدُّل المُعطيات وتناقضها فرضت تحديات أخرى، وخلقت المزيد من التشويش إلى جانب الشجارات مع المرضى لإقناعهم بارتداء الكمامة».

وفي الحقيقة، كلام الدكتور رزوق يدفع المرء للتفكير بالضغوط التي يعايشها الأطباء، حينما يطالبهم المجتمع لاشعوريًّا بأن يكونوا دائمًا كليِّي المعرفة، كما لو أن معارفهم وخبراتهم ليست تراكمية ومُتبدِّلة. فهم لا بد شعروا بأن العالم يستعجلهم بإيجاد حل سريع يقضي على الوباء ويعيد الحياة طبيعية كما كانت. وهم مطالبون بإنجاز ذلك ضمن ظرف مهني صعب وساعات عمل طويلة ومرهقة مترافقة مع قلق شخصي حول حياتهم ومن حولهم.

ولذلك، وعند سؤاله عن الجهات التي قدمت له الدعم أثناء قيامه بواجبه كطبيب، مهنية كانت أم مؤسساتية، يقول دكتور رزوق بأن الدعم الذي تلقاه كان اجتماعيًّا وعائليًّا فقط.

سنوات وسنوات من العمل الإغاثي

في الوقت الذي تبدو فيه حياة الناس أقرب للطبيعية، ينشغل المتطوعون في المبادرات المدنية بالاستعداد لموجة قادمة محتملة من الوباء، خاصةً أن الشهور القليلة الماضية أكسبتهم مزيدًا من الخبرة في فهم الاحتياجات المحلية وتنسيق العمل فيما بينهم.

ظهرت مبادرة «عقِّمها»، كما يقول مؤسسوها وليدة لحظة حرجة وجد فيها السوريون أنفسهم أمام عدو غير متوقَّع. يرى الدكتور قاسم عوَّاد، المسؤول الطبي ضمن المبادرة، بأن كورونا أول فيروس تزامن ظهوره مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما سهَّل الوصول الإعلامي للأخبار المتعلقة به ما عزز خوف الناس منه، لكنه يضيف مستدركًا: «مع ذلك، المرض ليس شائعة، هو مرضٌ موجود ونحن لامسنا عدد الأشخاص الذين أصيبوا به وعدد الأشخاص الذين فقدناهم بسببه، وهذا أثَّر علينا نفسيًّا حينما كنَّا نشعر بأننا نحاول جهدنا إنقاذ الآخرين لكن المرض أسرع منَّا». 

وفي حديثه عن الشهور المنصرمة، يضيف دكتور قاسم بأن الاحتياجات الأساسية تجلت بنقص المعدَّات الطبية، فوفق قوله: «عدد المنافس [أجهزة التنفس الصناعي] في دمشق كلها لم يكن يتجاوز 300 منفسة وهذا عددٌ قليلٌ جدًّا، فالمحظوظ فقط من استطاع تأمين واحدة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمولِّدات الأكسجين». ومن حيث ظروف عمل والصعوبات التي واجهوها، يضيف دكتور قاسم بأن المبادرة كانت «إغاثية» بكل معنى الكلمة، والمتطوعون تمتعوا بالمرونة ضمن ظرفٍ ضاغط، إذ كثيرًا ما كانوا يتنقلون على الدراجات النارية والهوائية لإيصال المعدات المطلوبة.

وبهذا المعنى، يرى د. عوَّاد بأن المبادرة لم تحصل على دعمٍ كافٍ من المنظمات الدولية أو أي جهات أخرى وكل ما حصلت عليه كان مصدره المجتمع الأهلي. 

وتعمل مبادرة «عقِّمها» الآن على عقد شراكات مع مبادرات أخرى استعدادًا لموجة محتملة من الوباء، خاصة أن الشهور الماضية أكسبت المتطوعين خبرة في التعامل معه ومعرفة مصادر الحصول على المعدات الضرورية، وضمان الشكل الأمثل لتوزيعها.

ملاحظة الدكتور عوَّاد الأخيرة تتكرر كثيرًا في حديث الجهات المدنية التي نشأت للاستجابة للوباء، فمصطلحات مثل «التشبيك» و«عقد الشراكات» كانت تتردد سابقًا على ألسنة العاملين في مجال المنظمات المدنية، لكنها مع الوباء اكتسبت أبعادًا جديدة وملموسة، وبات تنسيق العمل وتقسيمه حاجة مّلحة وضرورية بدلًا من كونه مجرد عبارة تردد لدواعي العمل.

في مدينة السويداء أيضًا، ظهر عدد من فرق الاستجابة كان أولها «نحنا قدَّها»، تلتها بعد أشهر مبادرة «لنعبر معًا».

اتخذ الفريقان اليوم قرارًا بالتعاون وتنسيق العمل. تعلِّق راوية حرب، إحدى مؤسسات فريق «نحنا قدَّها» على إيقاع عمل فريقها في الأشهر القادمة: «للأسف سيكون عملنا أصعب لأن أولويات الناس تغيَّرت، وبات الوضع الاقتصادي سيئًا جدًّا بحيث أصبح الاهتمام بالصحة الجسدية رفاهيةً أمام الجوع والعنف».

وتضيف راوية أيضًا بأن مواجهة الشائعات التي تروِّج وتزعم بعدم وجود الوباء تحدٍّ آخر يزيد عمل المتطوعين صعوبة. وعلى اعتبار أن للكثير من المتطوعين خبرة سابقة في العمل الإغاثي خلال سنوات الحرب السورية، يجد هؤلاء أن الوباء ولَّد عقبات جديدة أمامهم، فإلى جانب جهودهم في توفير الأدوية والخدمات الطبية هناك جهد إضافي يتم إيلاؤه لتزويد السلال الغذائية بمواد محددة مقوِّية للمناعة كالخضار والفواكه.

تعلِّق راوية على هذه التحديات: «آليات عملنا الآن باتت أكثر تعقيدًا؛ في السابق كان يتعاون أكثر من 30 متطوعًا ومتطوعة لتجهيز 200 سلة غذائية، لكن اليوم يقوم بهذه المهمة سبعة أشخاص فقط منعًا للازدحام، كما أننا اتجهنا لاعتماد الاستمارات الإلكترونية بدلًا من الورقية لسبر الاحتياجات المحلية». والحقيقة أن الوباء المستجد يفرض أيضًا تحديات تتعلق بحماية المتطوعين أنفسهم وضمان وصولهم الآمن للفئات الأشد ضعفًا.

وزارة الصحة وفخ الأرقام المثبتة في الموقع الرسمي لوزارة الصحة، تشير الأرقام وفق آخر التحديثات لعدد الحالات المسجلة والنشطة من المصابين بالوباء، التي بلغت (7797) حتى تاريخ إعداد هذا التقرير [أول كانون الأول/ ديسمبر]، في حين وصل عدد الوفيات المسجلة أيضًا إلى (413) حالة.

وتدلل إحصاءات الوزارة أيضًا على تحوُّل بؤرة الوباء إلى مدينة حلب بعد أن تركزت سابقًا في دمشق وريفها وحمص. لكن هذه الأرقام كثيرًا ما تفقد دلالتها كمؤشرات حقيقية لحجم انتشار الوباء والأعداد الجديدة من المصابين على اعتبار أنها ترصد فقط الأعداد التي أثبتت نتيجة الفحص إصابتها بفيروس كورونا المستجد (بي.سي.آر)، فيما يبقى هناك الكثير من الحالات التي لا تدخل حتى في سجلات الوزارة. 

صعوبة حصر عدد الإصابات، وقلة الاختبارات التي تُجرى من جهة أخرى، عزز شعور الناس بعبثية البحث عن معلومات إضافية حول ما يحصل حقًّا. بدلًا من ذلك، ولَّد التيار الشعبي في الشارع السوري سرديات تتناقل وتصدق على نطاق واسع، لأنها على ما يبدو تساعد على تخفيف التوتر.

فعند سؤال سائق التاكسي العمومي، العم أبو أحمد (60 عامًا)، ما إذا كان يأخذ ما يكفي من الاحتياطات لحماية نفسه، على اعتبار أن مهنته تتطلب احتكاكًا كبيرًا مع الناس، أجابنا: «كورونا مرض وهمي، وهو مرض ذات الرئة نفسه الذي نعرفه لكن الآن اختاروا له تسميةً جديدة» ثم استكمل حديثه الواثق: «في الغرب يمرض الناس أكثر لأنهم يأكلون الطعام الجاهز، أما نحن فأجسامنا أقوى لأننا نعتمد في غذائنا على الخضار». قد يكون من المستحيل التأكد إن كان العم أبو أحمد مُقتنعًا فعلًا بما يقوله، لكن كلامه يعكس رغبات وقناعات شريحة واسعة من المجتمع السوري التي تريد أن تصدِّق بأنها لسببٍ ما مصانة بحيث لا يمسَّها خطر الوباء.

أجسادٌ متعبة تحمي بعضها

بالعودة للتنقيب في تاريخ الإنفلونزا الإسبانية، لا لشيء سوى الفضول لاستكشاف الطريقة التي تعامل بها الناس مع ظرفٍ مشابه عبر التاريخ، قد يتوقف المرء عند عبارات تصف أجساد الجنود التي خرجت من الحرب العالمية الأولى متعبة وضعيفة المناعة بحيث تحولت إلى «حواضن تنقل المرض أينما تحركت». يشعر المرء بصورة أو أخرى أن أجساد السوريين اليوم لا تقل تعبًا أو انهاكًا، وأن التاريخ مشاهدٌ مكررة إلى ما لا نهاية.

ضمن هذا المناخ يبدو معظم الأشخاص الذي تمت مقابلتهم لغرض إعداد هذا التقرير من أطباء أو متطوعين فاقدي الأمل بجدوى النشاط التوعوي، كما لو أنهم يحاربون شبحًا لا يراه أحدٌ غيرهم، وهم وحدهم من يعُدِّون العدة للتصدي لموجة محتملة من الوباء. وهذا تحديدًا ما يجعل عملهم وتضحياتهم أكثر قيمة، كما لو أنهم يؤدون عملهم دون انتظار من يثني على جهودهم أو يجعل مهمتهم أكثر يسرًا.

من المؤثر حقًّا بعد سنوات طويلة من الحرب أن يكون التكافل بين الناس ما زال حاضرًا كقيمة اجتماعية، ففي سورية ما زال هناك من يتطوع لمساعدة الآخرين وإعانتهم ماديًّا وصحيًّا، كما لو أن اللاشعور الجمعي ينشد الخلاص من كل ما مر وما قد يأتي.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا