يثقل التغير المناخي كاهل المدنيين الرازحين تحت نير الحروب، ذلك لأن النزاع المسلح يحد من قدراتهم على مواجهة التغيرات المناخية. ويُعزى هذا جزئيًّا إلى كون النزاعات، ولا سيما طويلة الأمد منها، تفرض على المجتمعات تحديات جمَّة، فهي تقوض البنية التحتية وتسبب أضرارًا جسيمة للمؤسسات ورأس المال الاجتماعي وسبل العيش، ما يجعل من عملية التكيف مع تغير المناخ أمرًا عسيرًا.
قبل عقدين من الزمان، وفي محفل دولي كبير في مجال العمل الإنساني، أبدى مشاركون في هذا المحفل استغرابهم من أن يتناول «المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر»، قضية تغير المناخ. إذ كان الانطباع آنذاك أن التغير المناخي موضوع علمي بحت، ويخص قضايا بيئية سنلمس آثارها بعد أمد بعيد. لكن، وخلال بضع سنوات، أصبحت قضية التغير المناخي إحدى أهم القضايا على الأجندة الدولية. فقد راقب العاملون في المجال الإنساني من كثب، التأثيرات السلبية التي يحدثها التغير المناخي على السكان المدنيين ضحايا النزاعات المسلحة وأشكال العنف الأخرى، أو المتضررين من الكوارث الطبيعية. صار تغير المناخ أمرًا ملموسًا وله أثر واضح في تفاقم المخاطر الاجتماعية والاقتصادية القائمة.
مفاقمة المعاناة
للعلاقة بين التغير المناخي والنزاعات المسلحة وجهان. فمن ناحية أولى، يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى اندلاع نزاعات مسلحة أو أعمال عنف، وهو ما تظهره دراسات عدة بحثت عن العلاقة بين تقلب المناخ وبين العنف، وبينت أن زيادة هطول الأمطار أو نقصانها في الاقتصادات المعتمدة اعتمادًا كليًّا على الموارد الطبيعية يعزز من مخاطر العنف المحلي، لا سيما في المجتمعات الرعوية الأفريقية. ففي منطقة الساحل الأفريقي مثلا، رأينا كيف ألحقت التغيرات المناخية أضرارًا بالغة بالمجتمعات المحلية، ما دفع بعضها إلى الانخراط في أعمال عنف ونزاعات مسلحة. كما أن ارتفاع درجة الحرارة وعدم انتظام هطول الأمطار وما رافق ذلك من تصحر للأراضي وتقلص في المساحات القابلة للاستغلال أدى إلى تفاقم الصراعات وخير مثال على ذلك منطقة بحيرة تشاد.
من ناحية أخرى، فدور التغير المناخي أكثر وضوحًا في مفاقمة معاناة السكان المدنيين الذين يثقل النزاع المسلح كاهلهم. يقدم مؤشر جامعة نوتردام العالمي للتكيف مع التغيرات المناخية صورة ذات دلالة للدور السلبي الذي يؤديه التغير المناخي في إطالة أمد النزاعات المسلحة. يحدد هذا المؤشر، وفقًا لعوامل فرعية عدة، مدى قدرة الدول على التعاطي مع التحولات التي ترافق تغير المناخ. ويخلص المؤشر إلى تحديد ثلاثين بلدًا هي الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية لتغير المناخ. وليس غريبًا أن تكون معظم تلك البلدان دولاً ترزح بالفعل تحت نير النزاعات المسلحة كالصومال وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية والنيجر وتشاد ومالي، وكذلك اليمن وميانمار.
إذ تفتقر هذه البلدان إلى القدرة على تحمل آثار تغير المناخ. وبفعل تراكم آثار النزاع، يتضرر الفقراء والأطفال وكبار السن أكثر من غيرهم، وتستمر معاناتهم من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية والفقر وفقد فرص كسب العيش والوقوع فريسة للأمراض. وتقول «منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة» (الفاو) إن السبب الرئيس في ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي يكمن في ثلاثة عوامل (قد تتداخل أحيانًا) وهي: النزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية والتغيرات المناخية العميقة، لاسيما موجات الجفاف الطويلة في بعض المناطق في القارة الأفريقية كشرقي القارة أو حول بحيرة تشاد. وتظهر تقديرات “الفاو” أن عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية ارتفع لأول مرة منذ عقد من الزمان، إذ إن العدد يتراوح الآن حول 815 مليون شخص يوميًّا عالميا. فيما تظهر تقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن تقلب المناخ ربما يرفع من خطر الجوع وسوء التغذية بنسبة 20 في المائة بحلول 2050.
نماذج صارخة
تمثل الصومال نموذجًا كلاسيكيًّا للدائرة المفرغة التي تربط ما بين النزاع وتغير المناخ. فقد هوت البلاد في أوائل تسعينيات القرن الماضي في جحيم نزاع مسلح ممتد لا يرحم تسبب في إضعاف مؤسسات الدولة، وإجبار ملايين السكان على النزوح أو الهجرة، وإثقال كاهلهم، لاسيما أولئك الذين يعتمدون على الزراعة والرعي.ومر هؤلاء بتجارب مؤلمة من الجفاف الكارثي بسبب انخفاض معدلات الأمطار في موسم هطول الأمطار، وهو المعروف محليًّا باسم «غو» (يمتد من نيسان/ أبريل إلى أيار/ مايو)، قبيل موسم الحصاد السنوي في تموز/ يوليو. وتتوقع منظمات أممية أن يتسبب الجفاف الكارثي الذي ضرب البلاد خلال العام الجاري (2019) في معاناة أكثر من مليوني شخص من الجوع الحاد، هم يمثلون نحو خمس عدد سكان البلد الفقير. وتقول دراسات إنه يمكن التغلب على بعض هذه المشاكل من خلال توزيع أكثر كفاءة للمياه، واستنبات سلالات نباتية تقاوم الجفاف، لكن ضعف مؤسسات الدولة، والنزاع المسلح، يجعل من هذه الحلول حلمًا بعيد المنال.
يقدم جنوب السودان مثالًا آخر لدور تغير المناخ في مفاقمة معاناة السكان المدنيين. شهدت هذه الدولة الفقيرة في السنوات الأخيرة تذبذبا في هطول الأمطار الموسمية ما أدى إلى تكرر مواسم الجفاف في البلاد. هذا التقلب المناخي معطوفًا على اضطراب اقتصادي كبير، وآثار سنوات طويلة من النزاع المسلح المستمر حتى الآن، أفضى إلى تعطيل الحياة الاقتصادية تقريبًا وسبل العيش ورفع من مستويات انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتوقعت منظمات أممية في حزيران/ يونيو الماضي أن يرتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون نقصًا كارثيًّا في الغذاء إلى سبعة ملايين، أي أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم نحو 13 مليونًا.
تقدم منطقة الساحل الأفريقي مثالًا دالًّا آخر على الكيفية التي تفاقمت فيها الصراعات بفعل الآثار الناجمة عن تغير المناخ. تشمل منطقة الساحل حزامًا جغرافيًّا متراميًا في الغرب الأفريقي، يشمل موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد. وخلال العقود الماضية، انحسرت الأراضي القابلة للاستغلال مع تقلب مستويات هطول الأمطار وتقلص المواسم المطيرة علاوة على العجز عن التنبؤ بتوفر موارد المياه. وأظهرت الأمم المتحدة أن درجات الحرارة ما برحت ترتفع في منطقة الساحل بمعدل أسرع مرة ونصفًا عن متوسط ارتفاع درجات الحرارة عالميًّا. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى تدهور ما يقرب من 80 في المئة من الأراضي الزراعية بينما يتنافس في الوقت ذاته حوالي 50 مليون شخص على الأراضي في منطقة الساحل الأفريقي والذين يعتمدون في معيشتهم على تربية الماشية.
ومنذ أواخر العام 2018، يُصنف ما يُقدر بنحو 33 مليون شخص في منطقة الساحل بأنهم يفتقرون إلى الأمن الغذائي. ورصدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر كفاح هذه المجتمعات المحلية الفقيرة من أجل الحصول على خدمات رعاية صحية آمنة أو إيجاد مدارس لأطفالهم أو تأمين دخل أساسي. ولا تجد تلك المجتمعات أمامها بُدًّا من خياراتٍ صعبة في البحث عن سبل لإعالة أسرهم، من بينها الهجرة عبر طرقٍ محفوفة بالمخاطر أو الانضمام إلى جماعات مسلحة.
ويتخذ العنف مسارًا مثيرًا للقلق الشديد. وكشفت مجموعة البحث لمشروع بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة “ACLED” أن عدد الوفيات المسجلة في مالي بلغ 1,686 شخصًا في العام 2018 مقارنةً بـ 949 في العام 2017 و320 في العام 2016. كذلك تتسع رقعة المناطق الساخنة من شمال مالي إلى وسطها وعلى طول الحدود بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
ضحية صامتة
في كثير من الأحيان تكون البيئة الطبيعية ضحية صامتة للنزاع المسلح. وعلى حين يحظر القانون الدولي الإنساني استخدام البيئة باعتبارها سلاحًا، أي يحظر تدمير الموارد الطبيعية، لكن تلجأ الأطراف المتحاربة كثيرًا إلى الإفراط في استخدام استراتيجيات عسكرية تشكل تهديدًا بيئيًّا. فعلى سبيل المثال، يؤدي إشْعال النار في حقول النفط (أو تدمير المنشآت الصناعية الكبيرة) إلى إطلاق كميات كبيرة من الغازات الدفيئة والتلوث المحمول في الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى عواقب مدمرة. وما يزيد الطين بلَّة، إسهام ذلك أيضًا في تغير المناخ، إذ قد تزداد انبعاثات كميات كبيرة من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي. كما يمكن أن يكون لتدمير مساحات شاسعة من الغابات عواقب وخيمة مترتبة على تغير المناخ. وتقول تقديرات إن النزاعات المسلحة تُعد أهم المؤشرات على انخفاض عدد الكائنات الحية في الحياة البرية في الفترة من العام 1946 وحتى العام 2010.
والحرب الأهلية في موزمبيق مثال كاشف على دور النزاع في تهديد التنوع البيولوجي على الأرض. فخلال الحرب الأهلية التي دامت 15 عامًا في موزمبيق، فقدت حديقة جورونغوسا الوطنية أكثر من 90 في المئة من حيواناتها، إذ انخفضت أعداد الجاموس الأفريقي من 14000 إلى 100، وفرس النهر من 3500 إلى 100. فيما انخفض عدد الأفيال من 2000 إلى 200، وذلك لأن لحومها كانت تُقدم طعامًا للجنود، فيما كان يُباع عاجها لتمويل شراء الأسلحة والذخيرة والإمدادات.
استراتيجية اللجنة الدولية
يتوقع أن تتزايد الاحتياجات الإنسانية بشكل كبير بسبب تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري. ولا تستطيع المنظمات الإنسانية وحدها التصدي للاحتياجات الإنسانية القائمة. وقد وطنت اللجنة الدولية نفسها كي تستوعب تأثير تغير المناخ على التدهور البيئي واستنفاد الموارد (مثل التصحر، انخفاض خصوبة التربة، تدهور إمدادات المياه العذبة) وأثر ذلك كله في المجتمعات المتضررة من النزاعات المسلحة. والنقطة المركزية هنا هي دعم محاولات السكان المدنيين في التأقلم والتكيف مع البيئات المتدهورة والمخاطر المتزايدة لحدوث فيضانات وجفاف وتعرضهم للحرارة المفرطة والفقر من خلال البحث عن استراتيجيات جديدة تتيح سبل كسب الرزق.
وربما تتطلب هذه الاستراتيجيات تغييرات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية من أجل تمكين الناس من التكيف مع آثار التغير المناخي، والتخفيف من وطأة آثاره السلبية. ومن أمثلة ذلك، ما تؤديه وحدات الأمن الاقتصادي والمياه والإسكان في اللجنة الدولية من تنفيذ مشاريع تدعم السكان المدنيين وتساعدهم على التكيف مع تأثير تغير المناخ، كمساعدة المزارعين على التحول إلى المحاصيل التي تتحمل الجفاف أو مساعدة المجتمعات على إيجاد سبل لتحسين استخدام الموارد المائية.
وفي هذا السياق، بلورت اللجنة الدولية في استراتيجيتها المؤسسية للأعوام من 2019 حتى العام 2022، هدف الحد من الآثار السلبية للتغير المناخي في دول النزاعات المسلحة، وتعزيز قدرة المجتمعات المتضررة على استيعاب الآثار المجتمعية للنزاع أو العنف والصدمات المناخية، وبناء تأثير إنساني أكثر استدامة.
وتعمل اللجنة الدولية على دعم المجتمعات المتضررة من النزاعات كي تتمكن من مواجهة الضغوط التي قد تنشأ في المستقبل نتيجة الآثار المتراكمة للنزاعات وتغيُّر المناخ. كما تعمل اللجنة الدولية على إعادة تخطيط برامجها لتضمن منع تدهور البيئة التي يعتمد عليها السكان المتضررون في كسب عيشهم، علاوة على تحسين السياسات البيئية للجنة الدولية عبر تعزيز فعالية استخدامها للطاقة وخفض اعتمادها على الوقود الأحفوري وخفض النفايات الخطرة في الميدان.
نُشر هذا الموضوع في العدد 65 من مجلة «الإنساني» الصادر في ربيع وصيف 2019، ضمن ملف حول تغير المناخ والنزاعات المسلحة. للاطلاع على محتويات العدد انقر هنا ولتصفح العدد إلكترونيا انقر هنا
Comments