هناك في صحراء الطوارق حيث يوجد أقدم الآثار والأحافير، التي يعود بعضها إلى أكثر من 500 مليون عام، يستلهم الطوارق تراثهم من وحي الطبيعة التي ولدوا تحت شجرها وفوق رملها، حيث تغطيهم النجوم ليلا ويجذبهم الترحال نهارا. هناك تتحول نساء الطوارق إلى مدرسة حية لتعليم الأجيال الجديدة روح الصحراء، في محاولة للصمود أمام زحف الحداثة.

في بيتها ذي الطراز الحديث، استقبلتنا الطارقية زمزم. كانت زمزم تقيم في منطقة “أنكوف” الشعبية، وهي أحد أحياء ولاية تمنراست التي تبعد عن الجزائر العاصمة بحوالي2000 كيلو مترا في الجنوب الشرقي. وتبلغ مساحة تمنراست 558ألف كيلو متر مربع، على ارتفاع 1400 متر عن سطح البحر، ما يجعل مناخها معتدلا. وتوجد فيها أعلى قمة جبلية في الجزائر، هي قمة الأتاكور البالغ ارتفاعها3003 أمتار. وعندما شيدت الحكومة بيوتا حديثة في إطار برامج تنمية الجنوب الكبير للجزائر، انتقلت زمزم مع زوجها وأولادها إلى الأحياء الجديدة، أملا في تحسين ظروف معيشتها وأسرتها، تاركة خلفها عائلتها الكبيرة.

ولم تكن زمزم تتوقع ما حدث لها. فالمدينة سلبت منها رحابة الصحراء التي احتضنتها، وأصبحت الثقافة التي اعتادتها منحصرة في ما تسمعه من موسيقى وأغان. وحتى هذه تأثرت بالمدينة، وبدأت تسكنها شوائب وتهجنها، فضيقت فرصها في الانتشار والانتقال إلى الأجيال الجديدة، حتى بدأت هذه الأجيال تنسلخ عن عاداتها شيئا فشيئا، بفعل زحف الحداثة.

تتذكر زمزم صورة أمها لالا خديجة، إحدى العازفات القدامى لـ”الإمزاد”، تفترش الأرض، يغطيها رداؤها البنفسجي الداكن المسمى” التسغنس”، والمصبوغ بمادة النيلة التي تستورد من الحدود الجنوبية المجاورة. لساعات تظل لا لا خديجة غارقة في العزف على آلة الإمزاد، وهي تردد كلمات تعلو وتنخفض في استرسال حزين يحمله صدى الصحراء مترامية الأطراف، إذ تحتل تمنراست ربع مساحة الجزائر تقريبا. وتجلس الفرق النسائية، إلى اليوم، على شكل نصف دائرة تحت خيمة أو تحت زرقة السماء، تتوسطهن العجوز الكبيرة تعزف الإمزاد، وهن يرددن خلفها ويصفقن ثم يطلقن زغاريد حادة.

والإمزاد آلة جميلة جدا، تشبه في شكلها تماما آلة العود العربية، وتصلح تحفة تزيينية. وهي تصنع محليا من الكوسى ”تزنوت”، يثبت عليها جلد الماعز المدبوغ جيدا وقضيب من الخشب تلف حوله الأوتار المصنوعة من شعر الخيل ”إمزدن نيس” ، وتصدر صوتا شجيا يساعد على الإسترخاء والتأمل.

كانت لالا خديجة تحكي في أغانيها أساطير الطوارق التي تصف كبرياءهم وحبهم للمغامرة وارتباطهم المشيمي بالطبيعة من ماء وكلأ وشجر. ويعيش الطوارق الجزائريون في ولايتي تمنراست وإليزي الواقعتين في أقصى الجنوب الشرقي الجزائري، على الحدود مع مالي والنيجر وشمال جبال التاسلي. وتسمى قبائل الطوارق في هذه الجهة “الأزقر” ، كما يوجد بعض الطوارق في الجنوب الغربي في منطقة توات بالصحراء الجزائرية، على بعد 1500كلم جنوب غربي الجزائر العاصمة.

وتعتبر المرأة الطارقية أهم حارس وحافظ لتراث قبائل الطوارق، الذي يتميز بالشفوية المتوارثة عبر الذاكرة الجماعية، وهي ثقافة تحتاج للتدوين والتوثيق أكثر من ذي قبل لحمايتها من السرقة والاندثار. وفي هذا السياق يأمل الكثيرون في الدور المنوط بـ”دار الإمزاد” التي تقرر بناؤها خلال الملتقى الدولي الثاني حول الإمزاد هذه السنة، في منطقة الأسكرام ذات الشهرة السياحية العالمية، بحيث تستدرك النقص الكبير الذي تعاني منه عملية توثيق الموروث الثقافي للمنطقة، خصوصا ما يتعلق منه بالفن النسائي الذي يتأرجح بين مقومات الأصالة ومتطلبات الحداثة.

في هذه الأرض فقط؛ التي يصفها الروائي الليبي إبراهيم الكوني بأنها مهد الإنسانية الأولى، ينبت شجر الفستق التاسلي والأكاسيا وتعيش حيوانات مثل الفهد والجمل والغزال وحتى الأيل، بالإضافة إلى أصناف كثيرة من الزواحف والأفاعي، وهي أنواع مهددةب الانقراض.

وعلى هذه الأرض يوجد أقدم الآثار التي عثر عليها إلى اليوم، وهي تعود إلى أكثر من ثلاثة مليارات عام. يقول مدير الحظيرة(المحمية) الوطنية للتاسلي والمحافظ الرئيسي على التراث الثقافي صالح أمقران: “حظيرة التاسلي مساحتها 80 ألف كيلو متر مربع، وهي بالنسبة لزائريها متحف مفتوح. صنفتها منظمة اليونيسكو تراثا عالميا مشتركا منذ عام 1982، وهي الوحيدة عربيا على قائمة عالمية تضم 24 موقعا بالتصنيف نفسه الذي يخضع لمقاييس صارمة، تشرف عليه مؤسسات عالمية مختصة في التراث الطبيعي والثقافي، تدرس بعناية كل ملفات الترشيح، ثم تمنح الموافقة إذا توافرت القيمة العالمية المضافة للموقع”.

في تكامل وتداخل بين التراث الطبيعي والتراث الثقافي، تصنع حياة الطوارق وسط هذه المحميات تميّزاً عالميا، ما يستقطب إليها أعدادا كبيرة من السائحين، لا سيّما من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية وكندا، وحتى دول الخليج. فهم يأتون لمشاهدة لوحة إلهية تعج بالحياة والسحر،تغزلها تكوينات جيولوجية، ورسوبية، ورملية، وحيوانات نادرة، ونباتات محلية كالسرو التاسلي. كما يسمح لهم المكان بالسفر عبر مختلف مراحل نشأة الحياة وتطورها بدءاً من مرحلة ما قبل التاريخ، ثم نشأة الفن الصخري، وصولا إلى العصر الحديث.

ويقول مدير الديوان الوطني لحظيرة(محمية) الأهقار الوطنية، المختص في علم الآثار، والمشرف على التنوع البيئي في المحمية إغيل فريد إحريز: ” تصنيف هذه المناطق ضمن التراث العالمي بشقيه المادي واللامادي يساعد على حماية حياة الطوارق وتحسين ظروف معيشتهم.”

وحدهم فقط العارفون بلغة “التيفيناغ ” هم القادرون على الغوص في ثقافة هؤلاء البدو الذين سادوا الصحراء وما زالوا يصارعون من أجل ذلك. وتتكون أبجدية التيفناغ من 22 حرفا يشكل لغة الطوارق المسماة التهاشاق، وهي في نظر باحثين” أبجدية لم يطلها التغيير، يرجع وجودها إلى ثلاث آلاف عام قبل الميلاد”.

ولعل وجود متحف تابع للمحمية الثقافية في ولاية تمنراست هو بمثابة شاهد على حضارة وجامع لعناصرها، وهو أيضا مقدمة تلخص للزائر أهم ما يوجد في المنطقة من ثروات وتراث ثقافي وطبيعي. بين أرجاء المتحف تتعرف على آثار التذبذبات البركانية التي شهدتها المنطقة قبل حوالي 500 مليون عام، كما تشاهد أحافير لحيتان وبقايا حيوانات ضخمةربما لم يكشف العلم عن أنواع بعضها إلى اليوم. وهناك أيضا فك لفرس البحريشهد على أن زمنا مضى كانت فيه المحيطات تغطي هذه الصحارى.

يروي لنا الباحث الطارقي في أبجدية لغة التيفيناغ محمد حمزة كيف أن تراث الطوارق مرتبط ارتباطا وثيقا بالبيئة الصحراوية، “وهو قراءة في ملامحها وسرد لواقعها منذ القدم. و تعكس مفردات هذاالتراث حكمة الطوارق في التعامل مع الطبيعة بكل مواردها بما فيها النبات والحيوان. وهذه الثقافة هي نسيج بين الواقعي والأسطوري، لكنها تصب في غاية واحدة ،هي الرفق بالبيئة المحيطة والاعتزاز بقيم السلم والكرم”، حسب قوله.

ويعزو دارسون لتطور هذا النوع من المجتمعات المحلية التدهور الحاصل في الوسط الطبيعي إلى” اختفاء بعض الأساطير التي كانت تشكل الإطار الضابط والحارس الأمين للصحراء، وكذلك انحصار المهارات المحلية والمعارف في الجيل الماضي الآخذ في التناقص دون انتقالها إلى الجيل الجديد”. وفي الإطار نفسه لا يخفي الشاب الطارقي علي كرزيكا، الحاصل على الليسانس في علم الآثار، قلقه مما يصفه بـ” تهدم البنية الإجتماعية لقبائل الصحراء الكبرى بسبب الضغوطات الإقتصادية والمناخية”.

على أنغام “الإمزاد” تعود زمزم إلى الغناء، مستعيدة أساطير روتها جدتها لالا خديجة. أنغام وكلمات وأساطير توجز روح الصحراء، وتحفر التراث الطارقي في أرواح أجيال جديدة يحاول زحف الحداثة أن ينتزعها من جذورها. لكن عزف وغناء زمزم، وغيرها من الطارقيات، يجعل هذا التراث أحفورة جديدة تتحدى الزمن. فالمرأة الطارقية ليست فقط الأكثر إلماما بلغة التيفيناغ، مقارنة بالرجل، لكنها أيضا من يعلم الصغار، بنين وبنات، الشعر والقراءة والعزف على “الإمزاد”.