المفقودون في اليمن: ندوب غائرة لصراعات متسلسلة

قضايا إنسانية

المفقودون في اليمن: ندوب غائرة لصراعات متسلسلة

لحظة مؤثرة للقاء أب بابنه في اليمن بفضل جهود برنامج إعادة الروابط العائلية في اللجنة الدولية. تصوير: وجدي المقطري

في اليمن، البلد المنكوب منذ عقود بدوامة صراعات متسلسلة، يعيش ذوو المخفيين قسرًا والمفقودين في اليمن، ما تبقى من حياتهم في حال انتظار، تحاصرهم الغصة وتفتك بأجسادهم ونفوسهم. وهم غالبا ما يواجهون عناء البحث عن إجابات وحدهم، دون إسناد حقيقي من المحيط أو المجتمع، الذي يشاركهم المأساة نظريًا ويخذلهم عمليًا. وفي كثير من الحالات، تعمق نظرات الشفقة جراحهم، بدل أن تخفف معاناتهم. ويصبح الألم مضاعفًا حين تترك قضيتهم في الظل، دون تحويلها إلى قضية رأي عام.

نصف قرن أسود

بالنسبة لجيلٍ كامل من اليمنيين، أولئك الذين وُلدوا في نهايات السبعينيات ومطلع الثمانينيات، لم تكن شهادات الميلاد وحدها هي ما تحدد لحظاتهم الأولى في الحياة، بل الحروب. ليس غريبًا أن تسمع أحدهم يقول إن ميلاده تزامن مع معركة ما، أو أن دخوله المدرسة حدث مع بداية جولة جديدة من القتال.

تبدأ الحكاية بما يعرف بـ«حرب الجبهة»، وهو اسم يختصر سنوات دامية من المعارك التي اندلعت في المنطقة الوسطى من اليمن. وقعت هذه الحرب خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. خاض النظام الحاكم آنذاك مواجهات عنيفة ضد تحالف من فصائل يسارية، مدعومة من دولة الجنوب حينها.

امتدت المواجهات إلى محافظات إب وذمار وتعز والبيضاء وريمة، تاركة أثرا عميقا في الجغرافيا والناس. في تلك السنوات، لم تكن الجبال شاهدة على القتال فحسب، بل على اختفاء العشرات ممن لم يُعثر عليهم بعد. انسحب المقاتلون، وأُغلقت ملفات الحرب السياسية، لكن مصير الكثيرين ظل معلقًا.

وبينما هدأ السلاح، استمرت التداعيات. فقد أعادت الدولة رسم بعض الخرائط السكانية، وفصلت بلدات، ونحتت أسماء جديدة على الجغرافيا، في محاولة لإعادة التوازن للمشهد المحلي بعد الحرب. واحدة من تلك الخطوات كانت إعادة تشكيل بعض نواحي منطقة «شرعب» لتصبح «شرعب السلام». لكن ما لم يتغير هو الألم الكامن في القرى التي فقدت أبناءها، دون وداع، ودون قبور.

ولم يكن الصراع في المنطقة الوسطى استثناءً. ففي الشمال، جاء «انقلاب 1978» ليخلّف هو الآخر قائمة جديدة من المفقودين. سُجنت قيادات ناصرية بارزة أو أُخفيت قسرًا، بعضهم غاب خلف أسوار لم يكشف عنها حتى اليوم. أما الجنوب، فلم يكن أكثر حظًا؛ فقد شهدت «أحداث كانون الثاني/يناير 1986» صراعًا داخليًا دامٍ بين رفاق الحزب الاشتراكي الحاكم. في تلك الأيام القصيرة، سقط المئات، وتلاشى كثيرون بلا أثر. ومن لم يُقتل، إما هاجر، أو فُقد، أو انقطعت أخباره في الشمال.

وعقب الوحدة اليمنية في العام 1990، ساد اعتقاد بأن صفحة جديدة قد فتحت في تاريخ البلاد. لكن حرب صيف 1994 سرعان ما أعادت ذلك الأمل إلى الظل، وأعادت معها شبح الفقد. تكررت الحكاية نفسها: مواجهات، ثم مفقودون، ثم صمت ثقيل. ومع دخول البلاد مرحلة حروب صعدة الست، بين القوات الحكومية وجماعة أنصار الله، تصاعدت الظاهرة بشكل لافت. في تلك المواجهات، تضاعفت أعداد المختفين، ولم ينجُ منها لا مدنيون ولا مقاتلون.

وجاءت الأعوام اللاحقة لتكرّس ما يشبه العادة. فمع احتجاجات الحراك الجنوبي في 2007، ثم اندلاع ثورة 2011، عاد منحنى الإخفاء القسري إلى التصاعد. وتحولت الظاهرة إلى مصدر قلق دائم، يكاد يطرق أبواب كل بيتٍ يمني. فقد وثّقت منظمة «مواطنة لحقوق الإنسان»، بالتعاون مع جامعة كولومبيا، ما لا يقل عن 1806 حالة اختفاء قسري في السنوات الأخيرة، وهي أرقام لا تعكس الحجم الكامل للكارثة.

ثم جاءت الحرب الأخيرة في العام 2015 لتضع البلاد في حالة تشظٍ غير مسبوق. تقاسمت الأطراف المسلحة الجغرافيا، وتقاسمت معها مصائر الآلاف من المدنيين والمقاتلين. هكذا، على مدار خمسة عقود، لم تكن الحرب في اليمن مجرّد بندقية وساحة. كانت ماكينة تُنتج الغياب، وتنسج حوله أسوارًا من النسيان. وفي ظل كل صراع، كانت هناك دائمًا قوائم غير معلنة من الأسماء التي غابت دون أثر، كأنها سقطت من الزمن، تاركة وراءها قلوبًا معلقة وأبوابًا مفتوحة على أملٍ تأخر.

المعرفة.. حق مفقود

تركت الحروب المتتالية ندوبا في نفوس اليمنيين جميعا، دون استثناء أو تمييز بين ناج ومصاب. فمن حالفه الحظ بالنجاة من القتل أو الإعاقة، وجد نفسه ضحية للتشرد والنزوح. وتُقدّر تقارير حقوقية، صادرة عن منظمات محلية ودولية، وجود أكثر من 3,000 مخفي قسرًا في اليمن خلال السنوات الأخيرة. فضلًا عن آلاف آخرين من المقاتلين والمدنيين الذين باتوا في عداد المفقودين بسبب الحرب المستمرة منذ العام 2015.

 فبالإضافة إلى المعاناة النفسية، يخلّف غياب المعيل -في كثير من الحالات- تحديات اقتصادية وقانونية تثقل كاهل الأسر. تقول بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن: «كل مفقود يترك خلفه عائلة لن تتوقف أبدًا عن البحث عنه والسعي لمعرفة مصيره. وتعاني عائلات المفقودين لسنوات من عدم اليقين وألم الفقد، علاوة على التحديات القانونية والمالية التي يفرضها غياب عائلها الأساسي».

بعد أكثر من عشر سنوات، يبرز النزاع في اليمن كأحد أكثر الحروب تعقيدًا واستعصاءً على التوثيق في العالم. فالأرقام المتداولة عن ضحايا الصراع، خاصة المفقودون في اليمن، تبقى مجرد تقديرات تقريبية، في ظل غياب توثيق شامل أو قاعدة بيانات وطنية موحدة. سواء تعلق الأمر بالضحايا المباشرين من قتلى وجرحى ومفقودين، أو بضحايا الأوبئة التي تسببت بها الحرب، فإن الأرقام لا تعكس حجم المأساة.

ومعرفة مصير المفقودين ضرورة إنسانية ملحّة وعنصر أساسي لأي عملية سلام حقيقية. إذ يمكن بناء سلام مستدام فوق قلوب معلّقة وأبواب مفتوحة تنتظر العائدين. ومن هذا المنطلق، فإن الاعتراف بجميع فئات المفقودين، مدنيين كانوا أم عسكريين، واحترام حق عائلاتهم في المعرفة، هو الخطوة الأولى على طريق الحل.

ملف معقد

وفي مواجهة الغموض الذي يلف مصير آلاف المفقودون في اليمن، تواصل اللجنة الدولية للصليب الأحمر عملها في هذا الملف المعقد. وبالرغم من التحديات، تبقى واحدة من الجهات الإنسانية القليلة التي تتحرك بثبات، وإن بشق الأنفاس. فعلى امتداد سنوات الحرب، لم تتخلّ اللجنة عن مهمتها الأساسية: الاستماع إلى نداءات العائلات، ومحاولة إعادة الروابط التي مزقتها النزاعات.

تقول بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن «أن قضية المفقودين ليست مجرد ملف إنساني معقّد، بل هي من بين أولويات التفويض القانوني والإنساني للجنة الدولية للصليب الأحمر. وتتعامل اللجنة الدولية مع هذا الملف من منظور إنساني شامل، يبدأ بتوثيق طلبات البحث التي تتقدم بها العائلات. ثم تسعى، حيثما أمكن، إلى تحديد أماكن وجود الأشخاص المفقودين، أو معرفة ما حدث لهم».

وحين تسمح الظروف، لا تكتفي اللجنة بمهمة البحث عن المفقودين فقط. بل تسعى أيضا إلى إعادة ربط الأواصر المنقطعة بين المحتجزين وعائلاتهم. وتيسر ذلك عبر تبادل الرسائل أو مكالمات الفيديو، أو تنظيم اللقاءات الميدانية في حال الإفراج. وقد شهد اليمن بالفعل عشرات اللحظات المؤثرة، تمكنت فيها اللجنة من تسليم رسائل أو صور من المحتجزين لعائلاتهم. كما استطاعت إيصال أخبار ساعدت في تخفيف القلق الذي يلازم أسر المفقودين لأشهر وسنوات. ورغم أهمية هذه الجهود، يظل الطريق نحو حل الملف محفوفًا بالعقبات الميدانية والسياسية. تقول بعثة اللجنة الدولية: «تكمن أولى التحديات في صعوبة الوصول إلى جميع المعتقلين، بسبب تشظي الجغرافيا اليمنية وتعدد أطراف النزاع».

وتضيف البعثة أن «غياب الاهتمام الكافي من بعض السلطات المحلية يُعد من أبرز معوّقات التعامل مع ملف المفقودين. ويضاف إلى ذلك ضعف وعي المجتمع بوجود خدمات إنسانية متاحة من اللجنة الدولية في هذا السياق. فأغلب العائلات تنقصها المعرفة حول ظروف فقدان أحد أفرادها، وتعيش في عزلة قانونية ونفسية طويلة الأمد، وتجهل كثير منها سبل الوصول إلى الدعم الدولي التي تقدمه اللجنة الدولية أو غيرها، ما يجعلها تواجه معركتها في البحث وحيدة».

وتشير اللجنة إلى أن ما يُعقّد الوضع أكثر «هو تعدد سلطات الاحتجاز وتضارب أنظمتها. وهو واقع يفرض على اللجنة الدولية تنسيقا دقيقا مع الأطراف المختلفة، لضمان الحياد والسرّية واحترام خصوصية العائلات». إذ تُصر اللجنة من ضمن آليات عملها على أن أي تحرّك بشأن مفقود لا يتم إلا بموافقة أفراد عائلته، وبالنيابة عنهم، وهو ما تعزيه اللجنة الدولية إلى ضرورة احترام كراماتهم وحقهم في تقرير مصير من ينوب عنهم في هذه الرحلة الصعبة.

إن أكثر ما ينهك الإنسان ليس الفقد، بل عدم اليقين. أن تعيش معلقًا بين افتراض الوفاة وأمل العودة، أن تتنفس كل يوم برئة نصفها على الأرض ونصفها في المجهول. عزاء من بقوا –إن جاز لنا أن نتحدث عن عزاء – هو أن هناك من لا يزال يبحث، ولا يرضى بأن يُطوى الغياب في أوراق منسية.

Share this article

تعليقات

There is no comments for now.

Leave a comment