المجلة الدولية للصليب الأحمر في عامها 150 .. ثوابت ومتغيرات

قانون الحرب

المجلة الدولية للصليب الأحمر في عامها 150 .. ثوابت ومتغيرات

في عام 1869 شهد العالم تغيرات عديدة بسرعة ملحوظة. آنذاك، وَضَع الكيميائي الروسي «ديمتري مندليف» الجدول الدوري للعناصر، واكتشف «فريدرك ميشر» الحامض النووي، وافتتحت قناة السويس للملاحة، وحصل جهاز عرض الصور المتحركة على براءة اختراع.

وفي أكتوبر 1869 أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) «النشرة الدولية لجمعيات إغاثة الجنود الجرحى»، التي تُعد إرهاصًا للمجلة الدولية للصليب الأحمر. بدأت المجلة كمنصة لحركة ناشئة من جمعيات الإغاثة التي صارت الآن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. تطورت المجلة على مدى تاريخها، وأصبحت لأول مرة المجلة الناطقة بلسان اللجنة الدولية، ثم صارت مجلةً قانونية متخصصة، وأصبحت الآن مجلة أكاديمية تُجاز مقالاتها بمراجعة الأقران. وهي منبر متعدد التخصصات للنقاش والجدل المتعلقين بالقانون الدولي الإنساني والسياسات الإنسانية والعمل الإنساني.

على مر كل هذه التغييرات، كما يمكن للقارئ أن يرى في إصدار الذكرى السنوية لتأسيس المجلة، «كان الدافع دومًا وراء المجلة هو الضرورة الإنسانية لمؤسسي الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. ولطالما دأبت الطبيعة المتغيرة للأزمات على تحدي المفكرين في مجال العمل الإنساني في التوصل إلى حلول عملية جديدة للمشكلات، سواء كانت ذات طبيعة سياسية أو قانونية. وتميزت المجلة طول تاريخها في دفعها هذا النقاش إلى الأمام، على جميع المستويات، من الممارسة إلى النظرية وإلى السياسات».

واليوم، يمكن قراءة التاريخ الغني للمجلة الدولية للصليب الأحمر على أكثر من 110 آلاف صفحة نشرتها حتى الآن، وأعدادها متاحة مجانًا على الموقع الإلكتروني الجديد للمجلة. واحتفالًا بذكرى مرور مائة وخمسين عامًا، أصدرت المجلة طبعة خاصة تستكشف فيها كيف تُبرِز المجلة تطور الحرب والعمل الإنساني خلال القرن ونصف القرن الماضي. في هذا العدد الذي يحمل عنوان «150 عامًا من التأمل في العمل الإنساني»، ينظر العديد من المؤلفين متأملين في الاتجاهات الأوسع نطاقًا في القانون الإنساني والسياسات الإنسانية والعمل الإنساني التي يمكن ملاحظتها من خلال عدسة المجلة.

تطور المجلة: تاريخ من 110 آلاف صفحة

افتتحت النسخة الأولى من النشرة بـ«تمهيد» يصف المجلة بأنها «دعاية propaganda» لصالح الصليب الأحمر. سُميت المجلة في ما بعد «النشرة الدولية لجمعيات الإغاثة Bulletin International des Sociétés de Secours»، وكانت في البداية منصة لجمعيات الإغاثة التي صارت في ما بعد جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر التي نعرفها اليوم. وكما يظهر في محتويات الإصدار الأول، نُشرت على صفحاتها تقارير أنشطة تلك الجمعيات وكذلك مقالات متعلقة بالتطورات في التقنيات الطبية واستعراض لأعمال أكاديمية متعلقة بالعمل الإنساني، واقتراحات من اللجنة الدولية للصليب الأحمر يمكن تطويرها لاحقًا، وتعزيز للقواعد التي تشمل المرضى والجرحى في ميدان المعركة بالحماية، والتحرك المتزايد لجمعيات الإغاثة التي تأسست لصالحهم.

ولأن جمعيات الإغاثة كانت مرتبطة بصورة كبيرة باتفاقية جنيف الأولى لعام 1864 – التي أقرت الالتزام بتوفير الإغاثة للجرحى والمرضى، وحياد الكوادر الطبية والمؤسسات والوحدات الطبية، والشارة المميزة – كان القانون الدولي أيضًا، لا سيما حسب تعلق الأمر بالجرحى والمرضى في ساحة المعركة، بطبيعة الحال موضوعًا هامًّا (كما يمكن أن نرى بالفعل في الإصدار الأول). كان هذا متسقًا مع اتجاه أوسع تَمثَّل في الاهتمام المتزايد بالأدبيات الأكاديمية المتعلقة بالقانون الدولي. وكما يلحظ الباحث القانوني «إجناسيو دي لا راسيلا ديل مورال» Ignacio de la Rasilla del Moral، ففي نفس الوقت تقريبًا بدأ ظهور مجلات القانون الدولي الأولى.

ومن وقت تأسيس المجلة، أسهمت عوامل سياسية في تشكيلها. كانت اللجنة الدولية مسؤولة عن تحريرها وإنتاجها، وسرعان ما بدأت اهتمامات المنظمة تظهر على صفحاتها. ويبحث دانييل بالميري Daniel Palmieri في السياسات التي شكلت المجلة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.

تناوب على رئاسة تحرير المجلة 16 رئيس تحرير منذ تأسيسها. يتأمل ثلاثة منهم تجربتهم في هذا المنصب على صفحات الإصدار الحالي. ويصف جاك مورانت Jacques Meurant، رئيس تحرير المجلة من 1986 إلى 1995، المجلة بأنها «الرسول الرئيسي لما أصبح دعوة إنسانية موجهة إلى الجيوش». في عام 1988، أكد جهاز الحكم الأعلى للجنة الدولية، أي الجمعية، أن المجلة هي المنصة الناطقة بلسان اللجنة الدولية «في خدمة الحركة الدولية بأكملها، فهي تبرز بدقة سياسات الحركة وتعد التقارير عن أنشطتها بغرض إعلام العالم الخارجي».

أما هانز بيتر جاسر Hans-Peter Gasser، رئيس تحرير المجلة من عام 1996 حتى عام 2001، فيقول إنه على الرغم من أن المجلة «قد تكيفت على مر السنين مع متطلبات العصر، فإنها ظلت في جوهرها متمسكة بروحها التأسيسية». بينما يرى توني بفانر Toni Pfanner، رئيس التحرير من عام 2002 إلى 2010 ، أن المجلة «خلال 150 عامًا شكلت تاريخها، فقد شهدت تطورات كبيرة وتكيفت باستمرار مع سياقات جديدة. وفي مواجهة عالم متغير، ظلت المجلة ملتزمة في خضم العديد من المآسي بدفع مُثُل الصليب الأحمر إلى الأمام».

واليوم، تتميز المجلة الدولية بأنها مجلة أكاديمية تُراجَع مقالاتها من قِبل الأقران وتصدرها اللجنة الدولية ودار نشر كمبريدج. وتوجه دفة المجلة لجنةُ تحرير متعددة التخصصات من جميع أنحاء العالم مؤلفة من خبراء من خارج اللجنة الدولية. ولم تعد المجلة بمثابة «المنصة الناطقة بلسان اللجنة الدولية» التي لا تعرض سوى مواقف اللجنة الدولية فقط، بل صارت منصة للمناقشة والجدل، وتنشر كل عام ثلاثة إصدارات يختص كل منها بموضوع معين من موضوعات متعلقة بالقانون الدولي الإنساني والسياسات والعمل الإنساني.

إلين بوليسينيسكي، مديرة تحرير المجلة الدولية للصليب الأحمر

من الممارسة إلى النظرية وإلى السياسات

تكشف صفحات المجلة عن اتجاهات تطوير القانون الدولي الإنساني واللجنة الدولية والحركة الدولية والعمل الإنساني بصورة أعم. ولا يزال بالإمكان رؤية استمرار تلك الاتجاهات التي يتتبعها المؤلفون في هذا الإصدار الخاص من تاريخ المجلة في المحتوى الحالي للمجلة. ويُستكمَل هذا بمجموعة تراث مكتبة اللجنة الدولية، التي جمعت منشورات تلقي الضوء على التطورات التي طرأت على تلك الاتجاهات.

ويبرِز تطورُ المجلة تطورَ اللجنة الدولية والعمل الإنساني ككل. ويتأمل ديفيد فورسيث David Forsythe الضوء الذي يمكن أن تسلطه المجلة على الدوافع والمواقف داخل اللجنة الدولية في أيامها الأولى، التي ربما تكون قد شكلت عملها. ومقال فاليري ماكنايت هاشمي Valérie McKnight Hashemi – في هذا الإصدار أيضًا – عن القواعد المنقَّحة الخاصة بالدخول إلى أرشيف اللجنة الدولية مثالٌ على كيفية استمرار هذا الاتجاه اليوم.

المبادئ الأساسية السبعة للحركة هي: الإنسانية، وعدم التحيز، والحياد، والاستقلالية، والخدمة التطوعية، والوحدة، والعالمية. وتبحث آنيت بيكر Annette Becker في ثنائية مَبدأَي الحياد وعدم التحيز، في مقابل الالتزامات الوطنية وأحيانًا القومية المتعصبة للجمعيات الوطنية زمن الحرب العالمية الأولى. وفي إصدار حديث بعنوان «المبادئ التي يسترشد بها العمل الإنساني»، دعت المجلة المؤلفين إلى التفكير في كيف تعمل المبادئ الأساسية للحركة في أثناء الممارسة العملية اليوم، وما هي السياسات التي تعتمدها الجهات الفاعلة الإنسانية بما يكفل دعمها لقيمها.

إن الاتجاهات الخاصة بكيفية تطور القانون الدولي الإنساني بمرور الوقت يمكن تتبعها من خلال المجلة. يستخدم بن هولمز Ben Holmes الإصدارات السابقة من المجلة لفحص كيف دعت اللجنة الدولية إلى حماية المدنيين في فترة الحرب. إن عملية التفاوض من أجل تقديم حماية قانونية أكبر للمدنيين في أثناء النزاع المسلح لم تثمر شيئًا، حتى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، لكن العمل التأسيسي كان قد وُضع بالفعل بعد الحرب العالمية الأولى. وما يزال إمعان النظر في كيف يمكن حماية المدنيين بصورة أفضل بموجب القانون الدولي الإنساني مستمرًّا في المجلة اليوم. وقد ظهر هذا في الآونة الأخيرة في مقال إيزابيل روبنسون Isabel Robinson وإيلين نويل Ellen Nohle، وهو يناقش كيف ينبغي للقادة أن يأخذوا في اعتبارهم التبعات المترتبة على الهجمات التي تشن في المناطق الحضرية. أما في المقال الذي كتبته الملازم «ناتالي دورهين Lt Col Natalie Durhin» فيمكن أن يطلع القراء على كيف يطبق أحد هؤلاء القادة الحماية القانونية التي تشمل المدنيين في ساحة المعركة بالمدن.

وهذه بالطبع ليست سوى مجموعة صغيرة من الموضوعات العديدة التي يمكن دراستها من خلال تاريخ المجلة العريض. وللراغبين في دراسة جميع أعداد المجلة منذ عام 1869، يمكنهم الآن الاطلاع عليها مجانًا عبر الإنترنت. تشمل المواضيع التي يمكن استكشافها في أعداد المجلة: القانون الدولي الإنساني، والابتكار في العمل الإنساني، وتطور اللجنة الدولية للصليب الأحمر والحركة الدولية. وفي الأرشيف المتاح حديثًا للمجلة يمكن للقراء العثور على إجابات بشأن كيف تطورت لغة العمل الإنساني بمرور الوقت، ودراسة بعض التحديات المعاصرة التي يواجهها القانون الإنساني والسياسات الإنسانية والعمل الإنساني، والسبل التي عولجت بها الأزمات المماثلة في الماضي.

لكن التأمل لا ينتهي بعد النشر. تستمر المناقشات في مدونة القانون الإنساني والسياسات الإنسانية، وفي المناسبات العامة ومن خلال المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي. تستمر هذه النقاشات الأكاديمية في إثراء العمل الإنساني بطرق مختلفة. وأحد الأمثلة الملموسة هو بحث القانون الدولي الإنساني في الواقع العملي IHL in action، الذي يهدف إلى تغيير السردية القائلة بأن القانون الإنساني الدولي لا ينجح، فيقدم هذا البحث أمثلة إيجابية عن احترام القانون في ساحة المعركة.

وفي هذا الإصدار أيضًا مقالات مختارة لا تتعلق بالمجلة نفسها، إنما تتعلق بمختلف قضايا القانون الإنساني والسياسات الإنسانية والعمل الإنساني. يمكنكم قراءة النسخة الكاملة عبر هذا الرابط.

نُشر هذا المقال بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات»، وقد نقل عاطف عثمان النص إلى اللغة العربية. للاطلاع على أصل المقال، انفر هنا.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا