في هذا المقال، يستكشف الكاتبان جذور الحماية من الإعادة القسرية ونطاقها في ظل الشريعة الإسلامية. ويتفق المؤلفان في وجهة النظر القائلة بأن بوسع «إطار إسلامي للحماية يتسم بالأصالة ومستوعب للثقافات» أن يعزز ويتمِّم مبدأ عدم الإعادة القسرية المترسخ في القانون الدولي.
يمثل مبدأ عدم الإعادة القسرية «حجر الأساس» في مسألة حماية اللاجئين. فبموجب القانون الدولي للَّاجئين، لا يجوز لأية دولة أن «تطرد لاجئًا أو ترده بأية صورة من الصور إلى حدود الأقاليم التي تكون حياته أو حريته مهددتين فيها بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية» (المادة 33).
ويوجد هذا المبدأ أيضًا في صكوك حماية اللاجئين الإقليمية، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، ومعاهدات تسليم المجرمين، ويُعترف به – في جوهره – بوصفه قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي (انظر هنا). وهذا يعني أن المبدأ ينطبق على الدول كافة، بما فيها الدول التي تستضيف أعدادًا كبيرة من اللاجئين مع عدم كونها أطرافًا في الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951، أو بروتوكولها لعام 1967 (لمزيد من التحليل، انظر هنا).
ولا يستأثر القانون الدولي وحده بحظر إعادة شخص إلى بلد تكون حقوقه الأساسية فيه مهددة، فعلى سبيل المثال، وُجد هذا المبدأ في أطر قانونية أخرى وفي أعراف وثقافات وتقاليد سبقت تدوين القانون الدولي للَّاجئين في عام 1951 بزمن طويل، ومثَّل جزءًا لا يتجزأ منها، ومن هذه الأطر والقواعد الشريعة الإسلامية.
الشرعية ونطاق التطبيق
إن الإجارة وطلب اللجوء مسألة حاضرة في الضمير المسلم تاريخيًّا ووجدانيًّا. فكان طلب ومنح الأمان (حق اللجوء أو الحماية) شائعًا في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث تمثل القبيلة الوحدة السياسية ومصدر الانتماء والمَنَعة لأفرادها. وإذا ما طُرد أفراد من كنف قبيلتهم فعليهم التماس اللجوء لدى قبيلة أخرى ليستظلوا بحمايتها. ومن هنا يتضح أن منح الحماية لـ«اللاجئين» كان تقليدًا راسخًا في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ثم جاءت الشريعة الإسلامية ونظَّمت هذا الأمر.
تاريخ طويل من الحماية
كان تقديم الحماية للمستجير في الثقافة العربية قبل الإسلام يعني حماية الشخص طالب الحماية وأهله وماله، وكان رفض حماية المستجير يُعدُّ عملًا شائنًا يُذمُّ فاعله. وكان المُجير يتعهد بالدفاع عمَّن يطلب جواره كما يدفع عن نفسه وعن أهله وماله. بل ذهبت بعض قبائل العرب قبل الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ شيَّد بنو عبد المدان الحارثيون وبنو ملحم بن ذهل منازل خاصة للمستجيرين وطالبي اللجوء.
كما نظم شعراء عرب، مثل راشد بن شهاب اليشكري وميمون بن قيس الملقب بالأعشى (ت 625 ميلاديًّا)، أبياتًا تتيه فخرًا بالبنايات السامقة والقوية التي بُنيت لإيواء المستجيرين وطالبي اللجوء، وتغنَّت بما يتنعم به المستجير الذي فرَّ من دياره داخل جدرانها من إحساس بالعزة والأمن. وينبع الالتزام بحماية اللاجئين من قيم المروءة وحسن الضيافة والشهامة وواجب حماية الضعيف، التي تشكِّل جزءًا مما أسماه وليام مونتجومري وات «الإنسانية القبلية».
ولعلَّ من الأمثلة المبكرة في التاريخ الإسلامي لمنح الحماية، التي يمكن مقارنتها بمبدأ منع الإعادة القسرية في عصرنا الحالي: الهجرتين؛ عندما لجأ المسلمون الأوائل إلى الحبشة (إثيوبيا اليوم) ثم المدينة. ففي عام 615 ميلاديًّا، هاجر المسلمون إلى الحبشة إثر تعرضهم للإيذاء والاضطهاد على يد سادات قريش في مكة. وقد رفض النجاشي، ملك الحبشة المسيحي، طلب الوفد المكي بتسليم اللاجئين المسلمين. ولو كان النجاشي أجابهم إلى طلبهم وسلمهم المسلمين الذين لجأوا إلى بلاده لأصبحت حياتهم مهددة بسبب اعتناقهم ذلك الدين الجديد.
ثم لما بلغ الإيذاء والاضطهاد الذي تعرض له المجتمع المسلم الوليد حدًّا لا يمكن تحمله، هاجر معظم المسلمين الهجرة الثانية من مكة إلى المدينة في 16 تموز/يوليو عام 622 ميلاديًّا، وهو التاريخ الذي يبدأ عنده التقويم الإسلامي. وفي يثرب (المدينة المنورة اليوم، في المملكة العربية السعودية)، تعهد أهل المدينة – مُضيفوهم الجدد – بحمايتهم من بطش أهل مكة.
الأمان: مصدر حماية اللاجئين في الشريعة الإسلامية
ترتكز حماية اللاجئين في الشريعة الإسلامية على مفهوم الأمان، ومرادفها «الحماية» أو «السلامة». وتشير الكلمة، التي تنتمي إلى المصطلحات القانونية في الشريعة الإسلامية، إلى مفاهيم مختلفة، والأقرب منها للأغراض المذكورة في هذا النص ينطوي على منح حق اللجوء أو الحماية للناس الفارِّين من ديارهم بسبب تهديد يحدق بأرواحهم وحرياتهم.
وبموجب هذا المفهوم للأمان، تعالج مناقشات الفقهاء المسلمين الأوائل حالة منح الحماية للَّاجئين الأجانب غير المسلمين. ذلك لأن الأجانب المسلمين كانوا، في ذلك الوقت، يتمتعون بحق تلقائي في دخول و/أو العيش في الدولة الإسلامية. ولم يكونوا بحاجة إلى طلب الحماية، لأنها كانت تُمنح تلقائيًّا لجميع المسلمين في شتى بقاع الأرض قاطبة، وكذلك للذمِّيين (غير المسلمين المقيمون في ديار الإسلام).
ولأن مفهوم إعطاء الأمان يستلزم في جوهره حُرمة حياة وممتلكات الشخص المُستأمَن (اللاجئ أو طالب اللجوء) ووجوب حمايتهما، فإن الإعادة القسرية تمثل انتهاكًا للحماية الممنوحة في إطار عقد الأمان.
قواسم مشتركة
هذه مسألة لا يسعها مقال قصير، وإنما تحتاج للإلمام بأطرافها إلى مقالات عدة. غير أن ثمة قواسم مشتركة واختلافات مهمة بين مفهوم عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في القانون الدولي (استنادًا إلى المعاهدات وإلى القانون الدولي العرفي)، ومفهوم الأمان وفق الشريعة الإسلامية، وسنلقي الضوء في ما يلي على أوجه التشابه والاختلاف تلك.
أولًا: المستفيد: في حين أن لجميع المسلمين الحق في الإقامة على أراضي الدولة الإسلامية، التي تعرف تاريخيًّا بـ«الخلافة»، يُمنح الأمان للأجانب غير المسلمين بموجب الشريعة الإسلامية؛ وعلى هذا النحو يستحق المسلمون وغير المسلمين شكلًا من أشكال الحماية. وبموجب اتفاقية عام 1951، يحمي مبدأ عدم الإعادة القسرية اللاجئين الذين هم، بحكم تعريفهم، ليسوا رعايا للبلد محل اللجوء، ويُمنح هذا الوضع للَّاجئ بغض النظر عن دينه. ويحظر القانون الدولي لحقوق الإنسان الإعادة القسرية للَّاجئ بغض النظر عن جنسيته.
ثانيًا: الأسس التي يقوم عليها مبدأ عدم الإعادة القسرية: بعبارة أخرى، الأسباب التي تدفع الشخص إلى طلب الحماية. ذكر الفقهاء المسلمون القدامى أن الهدف من إعطاء الأمان هو حقن الدماء، وهو ما يكفل صون الحياة. ويتضمن الهدف أيضًا الحماية من الظلم والاضطهاد. ويحمي مبدأ عدم الإعادة القسرية، وفق اتفاقية عام 1951، الأشخاص من الإعادة القسرية إلى مكان تكون حياة اللاجئ أو حريته مهددتين فيه بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية. وجاء القانون الدولي لحقوق الإنسان ليوسِّع نطاق هذه الأسس بدرجة أكبر.
ثالثًا: السلطة المانحة للحماية وفق مبدأ عدم الإعادة القسرية: تمنح السلطات الإقليمية – الدول عادة – الحماية من الإعادة القسرية بموجب القانون الدولي. في المقابل، يحق لسلطات الدولة الإسلامية والأفراد المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية منح الأمان، على الترتيب: لمجموعة أو فئة بأسرها (أمان عام تمنحه السلطات) ولأفراد لاجئين (أمان خاص يمنحه الأفراد العاديون). ويشترط بعض فقهاء المالكية موافقة سلطات الدولة على منح الأفراد المسلمين الأمان لأي شخص، غير أن ذلك يظل مخالفًا لرأي الجمهور.
رابعًا: الاستثناءات: بموجب الشريعة الإسلامية، يتعين قبول طلب اللجوء ولا يمكن سحبه إلا في حالتين: إذا اشترك اللاجئ في أعمال عدائية أو ارتكب أعمال تجسس. وتقر اتفاقية عام 1951 كذلك باستثناءات معينة من وضع اللاجئ ومن مبدأ عدم الإعادة القسرية، على سبيل المثال: عندما يشكل اللاجئ خطرًا على أمن البلد الذي يوجد فيه أو لاعتباره يمثل، نظرًا لسبق صدور حكم نهائي عليه لارتكابه جرمًا استثنائي الخطورة، خطرًا على مجتمع ذلك البلد.
وحتى عندما يُسحب الأمان الممنوح أو بعد انتهاء مدته (في حالة الأمان المؤقت)، نجد في القرآن الكريم (الآية 6 من سورة التوبة)، أمرًا بمرافقة المُستأمَن إلى مكان يُضمن فيه سلامته. ومن هنا نستنتج أن الإسلام يحرِّم إعادة شخص قسريًّا إلى المكان الذي فرَّ منه، وحيث تكون حياته وحريته مهددتين.
ويمكن، إلى حدٍّ ما، مقارنة هذا بوجه التفاعل بين القانونين الدولي للَّاجئين والدولي لحقوق الإنسان. فمبدأ عدم الإعادة القسرية في ضوء القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يدع مجالًا للاستثناء من هذا الحق أو الانتقاص منه، وهو حق لكل فرد يوجد تحت ولاية الدولة بغض النظر عن وضعه القانوني. وعلى هذا النحو، فإن الشخص الذي تجوز إعادته وفق قانون اللاجئين قد يظل مستحقًّا للحماية من الإعادة القسرية بموجب قانون حقوق الإنسان.
خاتمة
من خلال هذه المناقشة الموجزة يظهر أن مبدأ عدم الإعادة القسرية كان قانونًا معمولًا به في الثقافة العربية قبل الإسلام وكذلك في ظل الشريعة الإسلامية لأكثر من 15 قرنًا. وعلى الرغم من وجود اختلافات جلية بين مفهوم الأمان وفق الشريعة الإسلامية ومبدأ عدم الإعادة القسرية حسب ما ورد في مصادر مختلفة في القانون الدولي، يظل وجه التشابه الأكثر أهمية هو وجود مفهوم عدم الإعادة القسرية الأساسي في مجاليِّ التشريع؛ الذي يقضي بعدم جواز تسليم شخص تكون حياته وحريته معرضتين للخطر إلى جلاده.
وفي ضوء العدد الحالي للَّاجئين في البلدان والسياقات المسلمة، قد يكون من المفيد الجمع بين استخدام الأطر القانونية والأخلاقية الإسلامية والثقافات المحلية والتقاليد لكفالة الحماية للَّاجئين، بالإضافة إلى العمل الدؤوب من أجل تحقيق احترام الإطار القانوني الدولي القائم. فالشريعة الإسلامية تقدِّم إطارًا قانونيًّا لحماية اللاجئين بوسعه نشر وتعزيز الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي حاليًّا لحماية اللاجئين في البلدان والسياقات المسلمة.
لا شك أن الأطر القانونية والأخلاقية الإسلامية تؤدي دورًا بارزًا في الحياة اليومية لمئات الملايين من المسلمين حول العالم، وإن غض الطرف عن أثر هذه الأطر الإسلامية قد يفضي إلى مفاقمة محنة اللاجئين. وبالنسبة إلى المنظمات الدولية وخبراء القانون الدولي الذين يغطي عملهم سياقات مسلمة ولكن تعوزهم الخبرة في الشريعة الإسلامية، فإن بلورة هذا الفهم واكتساب تلك الخبرة سيضيف فائدة ملموسة في سبيل كفالة قدر أفضل من الامتثال لقواعد القانون الدولي.
وتحقيقًا لهذا المسعى، من شأن الحوار وتبادل الخبرات بين المنظمات الدولية وخبراء الشريعة الإسلامية أن يؤتي ثماره بوضع أساليب محلية لتعزيز حماية ومساعدة اللاجئين وطالبي حق اللجوء في البلدان والسياقات المسلمة.
نُشر هذا المقال في الأصل في مدونة القانون الإنساني والسياسات. وقد نقل عمرو على النص إلى العربية.
تعليقات