بعين الطبيب النفسي الذي كانه طوال اثني عشر عامًا قبل أن يتوجه نحو الأدب والصحافة، لمح المحرر العلمي للمطبوعة الخليجية الشهيرة أن ساعي صالة التحرير البنغلاديشي «مُجيب»، يبدو على غير طبيعته المعتادة، حركته متثاقلة وكأنه يلملم أطرافه المدلاة إلى الأرض وملامحه السمراء تنضح بسمات حزن غامر، وجهه ازداد طولًا وجفناه وزاويتا فمه هبطت كلها إلى أسفل.
«إنه وجه الباكي، وجه المكتئب»ــ فكَّر الصحافي بعقل الطبيب النفسي، وسأل: «مُجيب مالك؟ ». وجاءت الإجابة تؤكد نبرتها ما تنفيه الكلمات: «لا شيء دكتور». لكن المحرر الذي ظلوا ينادونه بلقبه الطبي، والذي تدرب طويلًا على قراءة هيئات أجساد المرضى النفسيين وإيماءات وجوههم، تجاوز هذا الإنكار وعاد يكرر سؤاله، وأجاب البنغلاديشي بصوت يوشك على الاختناق بفعل ما يكبحه من بكاء مكتوم: «أهلي دكتور.. أهلي». «مالهم أهلك مجيب؟». ينبس مجيب: «الماء» . ثم يوضح عندما يجد تقطيبة الدكتور تتساءل عن معنى ذلك: «يعيشون في الماء.. إلى هنا دكتور.. إلى هنا»، ويرفع يده حتى ذقنه فيما يعجز عن الكلام فعليًّا، وتفر من عينيه دموع متتابعة، دموع الاكتئاب العميق التي تأخذ شكل قطرات كبيرة تتساقط مدرارة وكأنها من قطارة لا سيطرة عليها.
يتذكر الكاتب ذلك، وتتداعى إلى ذاكرته وجوه العمال البنغلاديشيين في البلد الخليجي الذي غادره منذ عقدين، في ذلك الفاصل الزمني الذي تسيطر خلاله أمائر الشعور بالاكتئاب والكرب على ملامحهم، ويقترن بوقت هطول الأمطار الموسمية في شبه القارة الهندية، وبمواكبة ذوبان الثلوج عند سفوح جبال الهيمالايا. تتدفق مياه الثلوج عند أقدام الجبال وتنهمر الأمطار على الأرض فتتدفق السيول مالئة أنهار الهند حتى فيضانها، ثم تنحدر إلى أراضي بنغلاديش المنخفضة فتغرقها، ويعيش سكانها ــ حرفيًّا ــ وكما وصفت إشارة مجيب: غرقى حتى ذقونهم. لكن الأمر الآن لم يعد يرتبط بمواسم الأمطار العابرة التي تفيض ثم تغيض، فثمة متغيرات تجعل الأمر غرقًا مقيمًا، غرقًا أليمًا، يدفع الغرقى إلى مغادرة أرضهم، في هجرات داخلية مزدوجة: هجرة نفسية تنطوي فيها النفس على ذاتها مكتئبة، وهجرة مكانية إلى أماكن في الوطن لم يغرقها الفيضان.
هجرات إلى الداخل
في تقرير عنوانه «الاستعداد للهجرات الداخلية بسبب تغير المناخ» صدر مؤخرًا عن مجموعة الباحثين المعنيين بتغير المناخ في البنك الدولي، بمشاركة باحثين من الشبكة الدولية لمعلومات علوم الأرض بجامعة كولومبيا، ومعهد البحوث الديموغرافية بجامعة مدينة نيويورك، ومعهد بوتسدام لبحوث آثار تغيرات المناخ. وقُدِّم التقرير بموجز من سطور قليلة تدق جرس إنذارٍ مدوِّيًا: «بحلول عام 2050 ــ في ثلاث مناطق فقط ــ قد تؤدي تغيرات المناخ إلى إجبار أكثر من 143 مليون شخص على الهجرة داخل بلدانهم، في أفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب آسيا شرق القارة الهندية، وبعض بلدان أميريكا اللاتينية».
وكانت هذه السطور على قلتها تكفي لجعل الخوف من تغيرات المناخ العالمي مُضاعفًا، لأن هناك المزيد من مناطق العالم التي باتت تغيرات المناخ تتحول على أرضها إلى كوارث فعلية، ليست وقفًا على الغرق في بعض الأماكن، فهناك الجفاف في أماكن أخرى، وتقلبات الطقس التي تخرب إيقاع الزراعة بأمطار تهطل في أوقات الحصاد وتنحبس عند الاحتياج إليها للري، ثم إن الغرق لم يعد غرقًا عابرًا يعلو ثم ينحسر في بنغلاديش، بل صار غرقًا مُقيمًا، وهو ما عبَّرت عنه صورة لفتاة بنغلاديشية مثقلة الملامح بالأسى والكرب اسمها «منوَّرة خاتون» عمرها 23 عامًا، تقول: «تقع الفيضانات كل عام، لكن الوضع الآن أكثر سوءًا. فجميع أفراد أسرتي يعيشون الآن في منزل أقارب بقرية بعيدة عن قريتنا بسبب الفيضانات. لا أريد العودة إلى قريتنا الغارقة، سأذهب إلى دكا (العاصمة) حيث يمكنني العمل والحصول على حياة جيدة وآمنة». فهل تصح تمنيات منورة التي تُذكِّر ملامحها الآن بملامح مجيب المختنقة بالبكاء المكتوم منذ عشرين عامًا؟
يُفكر الطبيب النفسي الذي تحول إلى الصحافة العلمية، وفي مركزها قضايا البيئة، أن هذا الحلم بجودة الحياة وأمانها بالهجرة داخل البلدان نفسها أو عبر الحدود، صار ظاهرة تجتاح الفئات البشرية الأضعف في عالمنا، خاصة في بلدان الجنوب والشرق. لكن هذا الحلم منذور لسرعة التحول إلى كابوس، فهذه الهجرات حتى لو وفرت قدرًا من الأمان الجسدي ببعض الطعام والمأوى، تصاحبها حتمًا هجرات نفسية داخلية نحو الاضطراب والجنوح النفسيين، وتُفجِّر صراعات بين المقيمين والوافدين على فرص العمل التي تتقلص، والموارد التي تتجه نحو النُدرة، والتي تقف وراءها تقلبات المناخ، ومن ثم تتفجَّر مظاهر العنف، بدعاوى عرقية أو دينية أو مناطقية أو حتى اختلاف لون البشرة. فالإنسان عندما يغادر جذوره في مواطن عيشه التي ألفها يفقد قدرًا كثيرًا من توازنه النفسي، ويصير قابلًا للاندفاع كجانٍ، أو الانكماش كضحية، وهذا التغيُّر يغدو عاصفًا أكثر مع الوقت، ويطرح ثمارًا بشرية مُرَّة تتناوب بين زيادة انتحار المكتئبين، وزيادة ضحايا العنف.
ليس العنف الداخلي فقط، بل العابر للحدود أيضًا، وثمة دراسات حديثة صارت تربط بين الجفاف في القرن الأفريقي وبين انتشار الأسلحة والصراع المسلح. ويُشار إلى نزوح اللاجئين الصوماليين إلى مخيم «داداب» للاجئين في كينيا كمِثال لما يخلفه الجفاف والمجاعة ويخلق الصراع، وليس العكس، فتغيُّر المناخ أدى إلى الجفاف والمجاعة ومن ثم تحتمت الهجرة، والهجرة أشعلت شرارات الصراع، لكن الذي لم يكن مطروحًا للاستقصاء هو الشق النفسي داخل هذه الهجرات البيئية.
الحزن البيئي
منذ عقود قليلة، لم يكن هناك تصور عن المعاناة النفسية التي يسببها التغير المناخي، اللهم إلا في حالات الكوارث التدميرية من عواصف وأعاصير وتسونامي، تُخلِّف وراءها الصدمات النفسية التي كان مصطلح «متلازمة ما بعد الصدمة» مقبولًا للإحاطة بمعظمها في التشخيص والعلاج النفسيين. أما التغيُّر البطيء نتيجة الاحترار وارتفاع مياه البحر واضطراب إيقاعات الطقس، فلم تكن عواقبها النفسية تسترعي الاهتمام بتصور أنها ظواهر معزولة ومحدودة الضرر، وموقوفة على مناطق البائسين في البلدان الفقيرة والمتخلفة.
لكن ما إن بدأت بوادر هذا التغيُّر في الظهور المتسارع في السنوات الأخيرة وشمول بلدان غنية ومتطورة ببعض كروبها، حتى بدأت تنال اهتمامًا متزايدًا من الأبحاث الطبية النفسية، بل تم صك مصطلح جديد يشير إلى العرَض القاعدي والجامع الذي تنمو عليه الاضطرابات النفسية والعقلية ( العُصابية والذُهانية) المتأتية عن هذه التغيرات ــ وفي القلب منها تغيرات المناخ ــ ففي 3 نيسان/أبريل 2018 تضمنت دورية «نيتشر للتغير المناخي» تقريرًا عنوانه «الحزن العميق كرد فعل نفسي لتغيرات البيئة»، وقدَّمَت مصطلح «الحزن البيئي» (Ecological grief)كإطار جامع مبعثه: «أن تغير المناخ بشكل متفاقم صار يؤثر على الصحة العقلية من خلال مسارات متعددة للمخاطر، بما في ذلك مشاعر الحزن الشديدة لأن الناس يعانون من خسائر متعلقة بتغيرات المناخ أطاحت بأنواع حية وأنظمة بيئية ومناظر طبيعية ألِفوها». وإذ كان هذا التقرير قد اختبر إحاطة مصطلح «الحزن البيئي» بنتائج البحث الذي كانت ساحته مناطق في بلدين متقدمين هما كندا وأستراليا، فإن الحزن يصير مُضاعَفًا وأقسى عندما تقع العواقب التدميرية لتغيرات المناخ على الفئات الأضعف في البلدان الفقيرة. وهو ما اختبره الكاتب ــ الطبيب النفسي السابق ــ معرفيًّا، وميدانيًّا.
بدافع الحنين إلى مهنته الأصلية ظل هذا الكاتب مواظبًا على تواصل علاقاته بزملائه القدامى في المهنة، في أماكن عملهم وخارجها، كما المواظبة على المتابعة المعرفية لمستجدات الطب النفسي، فتعرَّف على تغيرات عاصفة في طبيعة الأمراض النفسية التي صارت سائدة، وتغيرات مناسيب زيادتها الموسمية أو تراجعها، مما يربطها بتغيرات مختلفة أوضحها تغيرات المناخ. ففيما كان الشق الاكتئابي من الاضطرابات الوجدانية (العُصابية منها والذُهانية، أو النفسية منها والعقلية) نادر الظهور مع ارتفاع الحرارة وزيادة سطوع الضوء في فصل الصيف، بات الآن أكثر حضورًا حتى كاد أن يفوق حالات الهوس التي طالما ارتبط ظهورها بذروة فصل الصيف واشتداد حره.
وقد بُهت صاحبنا عندما عاين بنفسه كثافة لم تكن مألوفة أبدًا لظهور حالات اكتئاب عميق في شهر حزيران/يونيو الذي كان مرتبطًا بتدفق حالات الهياج الهوسي، حتى إن العامة زاوجوا بين انفجاراته التي اعتبروها عنوانًا على «الجنون»، وبين نضوج الباذنجان الذي تمتلئ ثماره بالبذور في هذا الوقت من اتقاد حر الصيف، فصارت كلمة «باذنجان» مرادفًا رمزيًّا للجنون. وقد تخلت حالة الباذنجان هذه عن موقعها الموسمي لنقيضها: الاكتئاب، وهو التمثيل المرضي للحزن العميق والمديد، مما يُحيل إلى استصواب اصطلاح «الحزن البيئي» كوعاء جامع لأكثر تأثيرات تغيرات المناخ عصفًا نفسيًّا بسكان المناطق المبتلاة بهذه التغيرات. كما عاين الطبيب حالة صارخة في هذا الإطار فجَّرتها ظاهرة ارتفاع مياه البحر نتيجة الاحترار المتزايد في كوكب الأرض، وفي منطقة مختلفة عن المناطق الثلاث التي أشار إليها تقرير «الاستعداد للهجرات الداخلية بسبب تغير المناخ»…
أرض قتلها البحر
منذ ربع قرن، اعتاد الحاج «س» من قرية «ص» القريبة من شاطئ البحر أن يظهر في العيادة الخارجية للأمراض النفسية بالمصح الحكومي، مصطحبًا ابنه الشاب الذي تداهمه نوبات هياج هوسي سنوي في منتصف الصيف، وكان الأب من الأشخاص المُحبَّبين لدى الطبيب، فقد كان الرجل يتقبل «جنون» ابنه بأريحية أبوية عميقة وتعاطف متماسك، ودون تأفف معتاد من مصاحبي المرْضى حاملي اضطراب ابنه الذي يعتبرونه وصمة وفضيحة. كان الأب متسمًا بتسامح جميل مع مصابه، وكان يأتي بصورة بهية في جلبابه الفلاحي الأبيض السكري ولاسته الحريرية ونعله الفلاحي كريمي اللون. كان رجلًا تُسبغ عليه النعمة الريفية ملامحها، فقد كان يمتلك عدة فدادين مزروعة بالنخيل في الأرض القريبة من البحر والمناسبة تمامًا لزراعة نخيل بلح السماني الأصفر والزغلول الأحمر الفاخرين، وفي المساحات الخالية بين جذوع أكثر من مائة نخلة يمتلكها كان يزرع الخضراوات، فلفل، نعناع، طماطم، خيار، وعند الأطراف كان يزرع البطيخ الفاخر الذي تجود به هذه الأرض ذات الطبيعة الخلابة المطلة على زرقة البحر والمغمورة بنسائمه. لكن ما بال ذلك الرغد والجمال الطبيعي لم يعد يمنح الرجل سمات روحه العالية ومظهره الجميل؟! فالرجل لم يَعُدْ باسمًا وضاءَ المُحيَّا كما كان، والأكثر إيلامًا أن هيئته كلها تغيرت، وجهه الريان المتورد انطفأ في رمادية منكمشة، والملامح الراضية سحبها الاكتئاب إلى هُمود، ثم إن ثيابه التي كانت أنيقة بالغة النظافة صارت بائسة ورثة، ماذا حدث، ومتى حدث ذلك كله؟
تجيب ابنته الشابة التي أتت بصحبته إلى العيادة النفسية، إن ذلك التدهور حدث بتسارع في السنوات القليلة الأخيرة، وبمواكبة ما حصل لأرضه، أرض النخيل والخضرة التي «ماتت» على حد تعبير الابنة. كيف ماتت الأرض؟ «زحف تحتها البحر» تقول، ويفهم الطبيب معنى ذلك مما قرأه في الفترة الأخيرة عن هذه الظاهرة المرتبطة بارتفاع منسوب مياه البحر. ارتفع المنسوب عدة سنتيمترات لا أكثر، لم تكن تكفي لغمر الأرض بالمياه المالحة، لكنها تسرَّبت إلى المياه الجوفية تحت هذه الأرض. زادت ملوحة هذه المياه بأكثر مما يحتمله النخل، فبدأ محصوله يتراجع وتقل جودته، ثم عَقُم، وسرعان ما مات النخل بتغريق الماء المالح لجذوره التي اختنقت وتحلَّلت.
كان الرجل تختنق نفسه بمواكبة ذلك، وخاصة أن ابنه كان يتحول من نوبات الهياج الهوسي الصيفي إلى فصام تخشُّبي يجعله تمثالًا من الشمع شبه ميت. مات النخل واقفًا ولحقه الابن بالموات في الحياة، فاكتأبت نفس الرجل. ثم جاء العوز الذي حتم بيع الأرض لمن حولوها إلى مزارع سمكية فأخذ الرجل أسرته وهاجر إلى المدينة، فتح دكانًا لبيع الخضار والفاكهة، ووجد نفسه يدخل في صراعات لم يألفها مع أصحاب دكاكين قديمة مماثلة وقريبة من دكانه. صار غريبًا في زحام متفاقم ومشحون بالتكالب على كل شيء، والتنازع في كل خطوة. وبدأ نزوحه النفسي إلى الداخل، صار حزنه ثقيلًا يتطابق مع ثقل مصطلح «الحزن البيئي»، ومن ثقل الحزن تولَّد الاكتئاب الأقصى، اكتئاب الشيخوخة المُعانِد لمضادات الاكتئاب الشائعة، ومتى صار اكتئابه يتجلَّى؟ في عز الصيف. صيف التغيرات المناخية الأليمة التي تدفع بضحاياها إلى هجرات مزدوجة أثقل إيلامًا، هجرات داخل الحدود، أو خارجها، وهجرات ــ في الحالتين ــ داخل كهوف النفوس الخانقة والمختنقة، والتي ينبعث منها أنين واهن الصوت برغم هول تحذيراته: البشرية في خطر، خطر زاحف لكنه أكيد، خطر جديد، خطرٌ وجودي، عميق وشامل، فهل نستعد للمواجهة؟
نُشر هذا الموضوع في العدد 65 من مجلة «الإنساني» الصادر في ربيع وصيف 2019،ضمن ملف حول تغير المناخ والنزاعات المسلحة. للاطلاع على محتويات العدد انقر هنا ولتصفح العدد إلكترونيا انقر هنا
كما نشرنا خلال السنوات الماضية عددًا من النصوص للأديب البارز محمد المخزنجي، انظر:
Comments