لعبة الحياة

العدد 68

لعبة الحياة

أطفال سوريون لاجئون. تصوير: أحمد عبد الفتاح

تجلسُ أملٌ لتحتَسِيَ الشَّايَ وتُمسِكَ بالورقِ والقلمِ علَّها تستطيعُ أن تكتبَ ما تشعرُ بهِ، وهي تسمعُ بين الحينِ والآخرِ إطلاقَ النارِ في الحَيِّ الذي تقطنُ فيه.

 

تغمضُ عينَيهَا محاولةً استرجاعَ شريطِ الذَّاكرةِ وأهمَّ الصُّورِ التي عَلِقتْ في مُخيلتِها. تتذكَّرُ كيفَ رأتْ ابنةَ جيرانِهم تجلسُ على حَصيرةٍ أمامَ منزلِهِم وسطَ البردِ القارسِ لتدرُسَ، إذ لا كَهرُباءَ في بيتِهم الذي يقعُ في الطابقِ السفلِي المُعتِمِ حتى في ضوءِ النَّهارِ. تَتذكَّرُ صُورةَ المرأةِ التي افترشتْ الشارعَ وهي تبيعُ أغراضَ بَيتِهَا.

تتذكَّرُ طبيبَ الحَي الذي أعلنَ عن استعدادِهِ لتعلِيمِ الطلابِ مادةَ الرياضياتِ في وقتِ فراغِهِ وكيفَ كانَ يعالجُ الناسَ على ضوءِ الشَّمعةِ، تتذكَّرُ دَعواتِ الحاجةِ أمِّ مُحمَّدٍ لها حينَ تراهَا ذاهبةً لِعملِها وتنادِيهَا بصوتٍ يشبهُ صوتَ أمِّها: انتَبهِي علَى حالِك يا بنتِي.

تلحُ عليهَا مشاهدُ ومواقفُ كثيرةٌ كأنَّها تشاهدُ فيلمًا تسجيليًّا. تنظرُ في البخارِ المُتصاعدِ من فنجانِ الشَّاي، تشعرُ أن البخارَ يصعدُ من القلمِ ومن الأوراقِ ومن داخِلِها أيضًا.

تمسكُ القلمَ باليدِ اليُمنَى فتَشعرُ أن يدَهَا ترتجفُ، ثم تمسكُ القلمَ باليدِ اليُسرَى، ولكنَّها أيضًا ترتجفُ. لقد درَّبتْ نفسَها على الكتابةِ باليدِ اليُسرَى، فمَن يعلمُ ماذا يمكنُ أن تفعلَ الحربُ! هناكَ أناسٌ فقدُوا أطرافَهم، كما أنَّ فكرةَ تنميةِ مهارةٍ كالكِتابةِ باليدِ اليُسرَى على الرَّغمِ من كلِّ هذا الألمِ الذي يحيطُ بهَا، إنَّما هي شيءٌ جميلٌ وتَحدٍّ بحدِّ ذاتِه.

«لنْ أيأسَ»، كانتْ العبارةَ التي كتبتْها باليدِ اليُمنَى وهي تكابرُ ألَّا ترتجفَ، ثمَّ أمسكتِ القلَمَ باليدِ اليُسرَى وأعادَتْ كِتابَتَها وكأنَّها أرادتْ أن تُؤكدَ لنفسِها أنَّها قادرةٌ على الكتابَةِ. لقد كانتِ الكِتابةُ فعلَ انتصارٍ داخلَها على الخوفِ واليأسِ، وقرارًا بالصمودِ في وَجهِ مَرارةِ المَشاهدِ التي عاشتْها؛ وحدَهُ القلمُ لمْ يَخذلْها، هكذا كانتْ تقولُ دائمًا لنفسِها.

راحتْ تكتبُ، وبينما هي تكتبُ سمعتْ أصواتَ أطفالِ الحَيِّ.

هلْ هم يتشاجَرُونَ؟ راحتْ تسألُ نفسَها.

أصغتْ السَّمعَ، فإذا بها تسمعُ الأطفالَ يُردِّدُونَ العباراتِ التي تقالُ حين يُشيَّع الميتُ.

أحدُ الأطفالِ كانَ يقولُ: تَرحَّمُوا عليه، ومن ثمَّ يقولُ لطفلٍ آخرَ: تظاهرْ أنَّك تحملُ تابوتًا.

يا إلَهِي ماذَا أسمعُ!

هلْ يمثِّلُونَ مشهدَ الجنازةِ؟

شعرتْ أنَّها لا تستطيعُ البقاءَ في الداخلِ تسترقُ السَّمعَ وتَصمتُ.

قررتْ أن تخرجَ وتفهمَ ماذا يدورُ في الخَارجِ. لقد كانَ أطفالُ الجيرانِ فعلًا يلعبُونَ لُعبةً يُسمُّونَها «لُعبةُ الموتِ». صُدمتْ أملٌ وشَعَرتْ لوَهلةٍ أنَّها عاجزةٌ عن أن تَفهمَ، ومِن ثمَّ دونَ أن تَشعُرَ سألتْ أحدَ الأطفالِ: هلْ تلعبُونَ لُعبةَ الميِّتِ والجِنازةِ؟ فأجابَ أحدُ الأطفالِ: نَعمْ. ومِن ثمَّ صاحَ طفلٌ آخرُ: هلْ تلعبِينَ معَنا يا خَالَةُ؟

شَعَرتْ أملٌ أنَّ كلَّ ما قرأتْهُ هو الآنَ علَى المَحكِّ، كلُّ ما تعلمتْهُ في علمِ النَّفسِ هو علَى المَحكِّ. لا بدَّ أنَّهُم اعتادُوا مَشهدَ الموتِ حتى تحوَّلَ إلى لُعبةٍ. لكنْ كيفَ يا تُرَى تَجعلُ هؤلاءِ يلعبُونَ لُعبةَ الحَياةِ بدلًا من لُعبةِ المَوتِ. عادَ الطفلُ وقالَ: هلْ تلعبِينَ معَنا يا خَالتُو؟

حسنًا سألعبُ معَكمْ، ولكنْ، لديَّ فكرةٌ عن لُعبةٍ أُخرَى، ما رأيكُمُ أن نُجرِّبَها؟ قالتْ وهي لا تعرفُ بالضَّبطِ ماذا تريدُ أن تفعلَ.

صاحَ أحدُ الأطفالِ: وما هي هذِه اللُّعبةُ؟

حسنًا؛ اسمُها لُعبةُ الحَياةِ، قالتْ أملٌ بصوتٍ جَهِدَتْ ألَّا يبدُو خائفًا.

لُعبةُ الحَياةِ، وكيفَ نَلعبُها؟ صاحَ الأطفالُ جَميعُهُم.

تعالَوا معِي، قالتْ وقد شَعَرتْ بقوَّةٍ غريبةٍ تتسربُ إلى داخلِها.

سنتخيلُ أنَّنا الآنَ في المدرسةِ، وجِدارُ المبنَى هذا هو الحائطُ الذي سنكتبُ عليه، وكلُّ واحدٍ منكُم سيكونُ أستاذًا.

مَن يريدُ أن يكونَ أستاذًا؟

صاحَ الأطفالُ: أنَا وأنَا.

أحضرتُ أملٌ بِضعَ كراساتٍ مِن البيتِ ودفاترَ وأقلامًا وقالتْ للأطفالِ هيَّا نلعبُ.

لكنْ ماذَا نفعلُ بهذِه الحفرةِ في الجِدارِ؟ سألَ أحدُ الأطفالِ.

نظرتْ أملٌ إلى الحفرةِ التي خلَّفتْها القذائفُ في الجِدارِ ثم أطلقتْ تنهيدةً وراحتْ ترسمُ حولَ الحفرةِ ما جَعلَ الحفرةَ تَبدُو كَفمِ ميكِي مَاوس كبيرٍ.

ضَحِكَ الأطفالُ وقالُوا: ميكِي مَاوس كبيرٌ يفتحُ فَمَهُ، لا بدَّ أنَّه جائعٌ. ضَحِكتْ أملٌ وأخفتْ دَمعةً وغُصةً وراحتْ تلعبُ معَ الأطفالِ لُعبةَ الأستاذِ والمَدرَسةِ، إذ شَعَرتْ أنَّ الحياةَ حقًّا هي أنْ نتعلَّمَ كيفَ نقاومُ الهزيمةَ النفسيَّةَ. مَرَّ ما يقربُ من ساعةٍ والأطفالُ يتناوبُونَ على أدوارِ أستاذِ التَّاريخِ وأستاذِ الرياضياتِ وأستاذِ العُلومِ وأستاذِ الرَّسمِ و و و، وكانتْ هي دائمًا تأخذُ دَورَ الطَّالِبةِ.

لقد شَعَرتْ بسعادةٍ أن تتعلَّمَ الحياةَ مِن هؤلاءِ الأطفالِ، ولو في مَشهدٍ تمثيلِيٍّ.

مَرَّ طبيبُ الحَي وجارُهمُ عاملُ النَّظافةِ وجارتُهمُ المُحاميةُ، رَأوا جميعًا المشهدَ وجَلسُوا بجانبِ أملٍ يَأخذُونَ دَورَ الطلابِ ويتعلَّمُونَ الحياةَ مِن هؤلاءِ الأطفالِ الأبرياءِ. انتهَى الدرسُ وكتبَ الجميعُ كِبارًا وصِغارًا أمنياتٍ على الورقِ ثُمَّ وَضعُوهَا في الحفرةِ – فَمِ الميكِي مَاوس، حتى استطاعُوا إغلاقَهَا.

نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 68 الصادر في ربيع/ صيف 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. لتصفح العدد كاملًا، انقر هنا

للحصول على نسخة ورقية من المجلة، يمكنكم التواصل مع بعثاتنا في المنطقة العربية، وهم سيزودكم بإذن الله بما تحتاجون إليه من أعداد المجلة الحالية أو السابقة. انقر هنا لمعرفة عناوين وبيانات الاتصال.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا