يتفق الجميع على دور الحرب في ظهور أعمال أدبية مهمة غير أن تأثير الحرب على الأدب لا يتوقف عند هذا الحد إذ يمكن في أحيان كثيرة أن تحول الحرب الأدب إلى بوق دعائي لمصلحتها
الأدب والحرب كلاهما نشاط وعمل ينجزه الإنسان سواء كان بشكل فردي أو جماعي، وهو لا يقوم بذلك عشوائيا أو من غير هدف، ولأن الانسان كائن عاقل ومفكر، لذا نرى أن إنجازه لهذه الأعمال سيكون، إما للتعبير عن ذاته وحاجاته وأحاسيسه، وإما للدفاع عن نفسه وممتلكاته ووجوده. وبالنظر للتجربة الإنسانية عبر التأريخ حتى الآن نرى أن كلاً من هذين النشاطين يؤثران في الإنسان وفي طريقة عيشه مثل ما يؤثران على بعضهما. فالأدب تأثر بالحرب بحيث ظهرت أنواع وطرق جديدة للتعبير الأدبي مما يعرف بأدب الحرب، وفي المقابل أثرت الأعمال الأدبية في الحرب من خلال تأثيرها في الإنسان وتحريك مشاعره وتحريضه وإلهاب حماسته للمشاركة في المعارك، مما أدى إلى إطالة أمد الحروب وإبقاء ويلاتها وبطولاتها في ذاكرة الفرد والشعوب.
وتأتى العلاقة بين الأدب والحرب من كونهما مرتبطين بالإنسان ومحاولاته للبقاء والتعبير عن نفسه والحفاظ على مايملك. وهذه كلها أمور مرتبطة بأنانية الإنسان، والعلاقة بين هذين المفهومين تتمثل في عدد من المواضيع والنقاط.
الأدب والحرب المجتمع
هناك ارتباط شديد بين الأدب والمجتمع الذي يخرج منه هذا الأدب، والأدب كنشاط إنساني، يتأثر بما يؤثر في الإنسان والمجتمع خصوصاً الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك لأن الأديب هو إنسان وكائن اجتماعي تتحكم فيه الظروف السياسية الاقتصادية والاجتماعية، أما الأحداث التاريخية في مجتمعه والعالم فتكون مصادر إلهام له لاستخراج إبداعاته.
والأدب بكل أشكاله من الشعر والنثر والقصص، هو تعبير عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية بطريقة أو بأخرى. يعكس الأدب إلى حد معين واقع المجتمع وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يبين حاجات المجتمع والفرد وأفراحه ومآسيه وآماله وتطلعاته المستقبلية.
الحرب هي استمرار للعملية السياسية بطرق أخرى، بمعنى آخر هي إدارة للسياسة بطرق غير الطرق الدبلوماسية أو المدنية غير العنيفة، بل بإدارة تعتمد الطرق الأكثر عنفاً مثل المعارك والحروب، واستعمال الآلات الفتاكة والأسلحة المدمرة واحتلال الأراضي والبلدان وصولاً إلى قتل الإنسان وتدميرما بناه من حضارة.
فالحرب هي سمة الإنسانية منذ نشوء التاريخ، كانت الحروب والصراعات بين الشعوب، وما زالت، تندلع وتدار لأسباب وادعاءات مثل الحصول على حياة أفضل أواسترجاع الحقوق و ….إلخ. ويكاد عمرالحرب يناهز عمر الانسان على الأرض، فمنذ قابيل وهابيل إلى الحربين العالمية الاولى والثانية والحروب الدولية والاقليمية التي تلتها وحتى الحرب على ما يسمى “الإرهاب” والعمليات الإرهابية، كل هذه الحروب التي لم تسلم منها الغالبية في الكرة الأرضية دفعت الإنسان الى الإبداع في الصناعة والفنون والأدب من أجل تحقيق الانتصار وبث روح المقاومة في الشعب وأفراده في الصراع ضد القوى الأخرى التي تهدد كيانه وتعرضه للخطر والزوال.
فالحروب والصراعات تؤثر على الإنسان والمجتمع بسبب ما يخلفه من دمار وخراب عمراني واقتصادي والأذى الذي يصيب الإنسان من فقدانه لأحبابه وأعزائه وخصوصاً المعيل كالأب والأم ليصل الأذى الى فكروأخلاقيات الفرد والمجتمع ومن ثم فنه وأدبه و …إلخ.
تناول الأدب للحرب عبر التاريخ
منذ بداية المسيرة الإنسانية إلى اليوم، قلّما نرى عملاً أدبياً أو فنياً يخلو من موضوع الحرب والصراعات البشرية، لكن المتغير هو دور الأدب أو طريقته في تناول الحرب. ففي عصر الإنسان الذي عاش في الكهوف بدأ الأدب في ذكر وتصوير البطولات خصوصاً من خلال صراع الانسان مع قوى الطبيعة وطريقة ومراحل هذا الصراع. ثم جاء عصر الحضارات الأولى ليبدأ دور الأدب وطريقة تعامله مع الحرب ولكن بشكل تدريجي، بدأ بالتصوير والقصص الشفاهية التي تتحدث عن الحروب والمعارك الطاحنة بين الجيوش، ولم يكن الهدف من ذلك تصوير بطولة وقوة الإنسان المقاتل، بل إبراز دور القائد والزعيم وتمجيده وتعظيمه لدرجة كبيرة. وحرصت الأساطير الأدبية القديمة على رفع شأن القائد والملك وجعله في مصاف الآلهة، وبدا هذا واضحاً في الصور والنقوش التي تركها الأسلاف على جدران القصور والمعابد أو الحجر والفخار …الخ.
ومع العصر الإسلامي، أخذ الأدب منحىً آخر، فمع التذكير والتمجيد والتعظيم لدور الفارس ومبارزاته وقوة سيفه، راح الأدب يمارس دور المحرض ورافع المعنويات، إذ بدأ المسلمون يجندون الكلمة لتقوية الجيوش ورفع عزيمة وهمة المقاتلين ونصرة الدين.
ومنذ بداية انتشار الدين الإسلامي وانطلاق الفتوحات الأولى، ظهرالأدب الحربي، وكان تأثيره جلياً في سيرالمعارك والحروب. وازدهر الأدب الحربي بنحو كبير وأصبح الادب داعماً وناصرا لجيوش المسلمين. في إحدى الروايات يذكر أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) دعا الشعراء للوقوف جنباً الى جنب مع المقاتلين في معركة الإيمان لنصرة الدين، فالتفت إلى شعراء الأنصار قائلا: “ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم؟”.
وبدأ الشعراء المسلمون يستخدمون الكلمة لنصرة الدين من خلال بث الهمة في المسلمين، وإلهاب مشاعر المقاتلين منهم خصوصاً لاستنهاض روح الجهاد والشهادة وعزة الإسلام فيهم. وراح أدب الحرب (أدب الجهاد) يواكب قضايا الإسلام ومعاركه وفتوحاته ويسجل مايدورخلالها.
أما في العصر الحديث، خصوصاً فترة الحربين العالميتين الأولى الثانية، برز وبنحو جلي دور آخر للأدب يمكن وصفه على أنه دورمناهض للحرب، إذ أخذ الأدب يصور الحرب ليس على أنها مجرد بطولات وانتصارت وتمجيد لدور المقاتل والقائد أو الهدف السامي للحرب ومبرراته ومجريات الحرب، بل أخذ يصورالهزيمة أيضاً وأحاسيس المقاتلين وخوفهم واضطراباتهم وانكسارهم ويصور الفرح والحزن في نفس الإنسان المقاتل في ساحة المعركة وبعدها، وأثناء الانتصار، وبعد الهزيمة، وساعة فقدان صديق أو عزيز، كما يصف بنحو دقيق تساؤلات الإنسان عن جدوى الحروب ونظرته إليها، وعن الصراع بين الشعوب والطبقات والثمن الذي يدفعه الإنسان في الحروب سواء كان منتصرا أو مهزوماً.
إدراك حقيقة أن الجميع خاسر في الحرب، كانت مهمة الادب في نهاية الأمر للتعبير عن هول التجربة الحربية ذاتها، لأن النفس البشرية تشكلت على حب الحياة.
أثر الحرب في الأدب
الحرب كحدث، أو كارثة، تترك أثراً على الإنسان والمجتمع والشعوب، وحتى الطبيعة والبيئة لا تسلمان من أثرها. وبالرغم من الإجماع على أن الحروب والصراعات سواء بين الشعوب والجيوش، أوبين الجماعات مهما اختلفت أحجامها وعدد أفرادها، تترك آثارا سلبية وضارة بشريا وماديا ومعنويا، إلا أنها في الوقت نفسه تترك آثاراً أدبية وفنية مؤثرة ورائعة خاصة، حينما تلتقط أحداثها مخيلة روائي بارع أو عاطفة شاعر مبدع ومرهف الحس وصادق المشاعر أو ريشة فنان او عدسة سينمائي موهوب. المفارقة أن تترك الحرب أثراً يخلق أعمالا أدبية وفنية غاية في الجمال عبر التاريخ يظهر في صورة ملاحم وروايات ورسوم وأشعار وأفلام رائعة.
ولكن ثمة وجها آخر للتأثيرات السلبية التي تتركها الحرب على الأدب، وهو أنها بدورها تحد من الإبداع، لأنها تتقيد بفكرة او آيديولوجيا معينة وتجبر المبدع على أن يكون منحازا لطرف بعينه خلال الحرب، كما أنها تحول الأدب إلى جزء من الماكينة الإعلامية التي تديرها السلطة.
ولنا أمثلة على ذلك من الحرب بين العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي، وكذلك النظام الدعائي النازي في الحرب العالمية الثانية، وهذا يقيد مخيلة الأديب ويسجنه داخل أسوار السياسة والسياسيين وقادة الحروب وبذلك نجد هنا أن حيادية الأدب في مأزق.
وأخيراً نرى أن الأدب والحرب تجمعهما علاقة تفاعلية، لأنهما يرتبطان بالإنسان شكلاً ومضموناً. وفي رأيي أن الأدب الحقيقي هو الذي يرفع من قيمة الإنسان وشأنه ويرتقي بالقيم العليا ويدافع عن الحياة. والذي يتأمل في الأدب الحربي يجد أن أجود الأعمال الادبية هي تلك التي دافعت عن حياة الإنسان وناهضت الحرب.
نُشر هذا الموضوع في العدد 54 من مجلة الإنساني الصادر في ربيع/ صيف 2012، ضمن محور العدد «عزيزي الأديب: إنها الحرب.»
*نشرنا في السنوات الأخيرة عددًا لا بأس به من المواضيع التي تتناول العلاقة بين الحرب والأدب (أوالفنون عموما). هنا بعض المقالات:
شيرين أبو النجا، الرواية في مواجهة كابوس الحرب
سحر مندور، حضور المدن في صور دمارها
يوسف بزي، بيروت السلم شعرية، بيروت الدمار روائية: خراب المكان كما تسرده الرواية اللبنانية
فيروز كراوية، «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي»…مدن القناة المصرية وتجربة مقاومة الحرب بالغناء
سيد ضيف الله، الجماعة الشعبية وصياغة قواعد أخلاقية لحروب السيرة الهلالية
Comments