الحرب عندما تتحول مادةً للنكات: أخلاقياتنا وصور النساء في زمن الحرب

العدد 70

الحرب عندما تتحول مادةً للنكات: أخلاقياتنا وصور النساء في زمن الحرب

الصورة من وكالة الأنباء الفرنسية

الحرب قد تعني أشياء كارثية عديدة للنساء المتضررات: قتلٌ وإصاباتٌ وإعاقاتٌ دائمة، وندوبٌ نفسية، ونزوحٌ وانفصالٌ عن الأحبة والأسرة، وفقدُ بعض أفراد العائلة بلا قدرة على استجلاء مصيرهم أو حتى معرفة مكان رفاتهم، وذكرياتٌ أليمة عما حدث، وتذكاراتٌ وممتلكاتٌ مادية سحقتها آلات عسكرية، وخططٌ وآمالٌ وأحلامٌ عصفت بها ريح القتال بين ليلة وضحاها.

مع تغلغل تكنولوجيا الاتصالات في حياتنا صارت أخبار الحرب البعيدة في متناول أيدينا لحظة بلحظة، لا على مستوى التلقي فحسب، بل أيضًا على مستوى التعليق على «صور الحرب» والمشاركة في إنتاجها وإعادة إنتاجها وحتى تحويرها، لا في الفضاء العام عبر منصات فيسبوك وتويتر فحسب، بل أيضًا من خلال المحادثات الخاصة عبر تطبيقات مثل «واتساب». وصارت الحرب تعني للبعض مادةً للنكات والفكاهة إشباعًا لفانتازيا جنسية أو عنصرية!

والأزمة الأخيرة في أوكرانيا تشهد على ذلك. إذ ما كادت طبول الحرب تدق حتى سارعت بعض الصحف وبعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وكثيرون في محادثاتهم الشخصية عبر واتساب إلى التعبير عن فانتازيا جنسية عنصرية صريحة كانت الأوكرانيات موضوعها!

 

صحيفة نشرت على صفحتها بفيسبوك: «بيتنا مفتوح ليكوا.. خفة دم المصريين تتحدى الحرب بانتظار الفتيات الأوكرانيات (صور). نصيحة.. لا تتسرع في الزواج سيكون هناك نازحات ولاجئات أوكرانيات قريبًا»!

صحيفة أخرى نشرت صورة فاضحة لفتاة شقراء تحمل العلامة المميزة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين مصحوبة بعبارة «عمل إنساني.. تبنوا أوكرانية لحمايتها من الاحتلال الروسي». نطاق التنكيت اتسع باشتراك بعض المستخدمين العرب لموقعي فيسبوك وتويتر للتعبير عن الأمنيات ذاتها. عشرات الحسابات على فيسبوك في دول عربية عدة شاركت نفس المحتوى الجنسي العنصري الساخر بمنشورات حصدت عشرات الآلاف من تأشيرات الإعجاب والاستحسان، فضلًا عن التعليقات المتفقة مع محتواها.

وعلى الجانب الآخر من العالم، تحدثت وسائل إعلام محلية بالبرازيل عن نائب ببرلمان البلاد قال في تسريب صوتي: «عبرت للتو الحدود سيرًا على الأقدام بين أوكرانيا وسلوفاكيا.. أقسم لك يا أخي لم أرَ أبدًا في حياتي فتيات جميلات وفاتنات مثل هؤلاء.. شيء لا يصدق».

إعلام تقليدي وآخر حديث

من اللافت للنظر أن تحتل الحرب في أوكرانيا هذه المساحة من الصور والمقالات والمنشورات التي تتحدث عن «الأوكرانيات» بينما قليلًا ما نرى حضورًا لنسوة أخريات في صور الحرب وتغطيتها. ومؤخرًا اشتعلت نزاعات دامية في إثيوبيا والكونغو وميانمار، لكن نصيب صور النساء في الظهور كان قليلًا أو معدومًا، ما يجعل المتابع يتساءل: هل «جمال» الأوكرانيات هو جواز مرورٍ لمعاناتهن وصمودهن، ومن ثم استحقاق التغطية الإعلامية والشعبية؟

إذ تتكرر في الإعلام التقليدي عناوين مثل: «حسناوات أوكرانيا يتدربن على القتال» و«كيف قضت جميلات أوكرانيا أول أيام الحرب؟» و«الكعب العالي الأوكراني في مواجهة مقاتلات روسيا» و«فيديو يغزو التواصل لطفلة أوكرانية تغني بملجأ تحت الأرض». يبدو أن التفاصيل التي تستحق الحكي عن أوكرانيا كثيرة، سواء النزوح أو التدرب على حمل السلاح، أو وداع الأحبة في محطات القطار.

وبعض التعليقات والمنشورات الساخرة كانت تقارن بين جمال المقاتلات الروسيات والأوكرانيات، ويعبر كاتبها عن حيرته مع أي فريق يقف في هذا النزاع الدموي! وبعض المنشورات قارنتْ جمال الأوكرانيات بالنساء العربيات. وللمتابع أن يقول أيضًا إن جمال الأوكرانيات كان المحرض على التمنيات القلبية بنجاتهن من أهوال الحرب، فضلًا عن حصولهن على تغطية إعلامية تقليدية وشعبية – سواء بصفتهن مقاتِلات جميلات يحملن السلاح، أو مدنيات مستضعفات لهن الحق في الإيواء وعروض الزواج!

والنزوح القسري حدث متكرر في أفريقيا أيضًا. لكن أين الأخبار وصور النازحات صاحبات البشرة السمراء؟ وما مدى تصدرها الأخبار وتكرارها في المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي أو الجرائد؟ هل يتحيز صانعو الأخبار في منطقتنا للبيضاوات؟ هل هم على وعي باستجابة القراء لهذه السياقات فيخاطبون تحيزات مماثلة؟ إذ لا يبدو أن النازحات واللاجئات الأفريقيات يحظين بترحيب- بل لا أبالغ إن قلت إنهن غير مرئيات من الأصل. لا بد أن يكون الحدث ضخمًا ومروعًا بقدر الاغتصاب الجماعي حتى تستحق السمراوات الذكر في الإعلام التقليدي كما الحال في أزمة تيغراي مثلًا!

والواضح أن الوقت الذي يُصرف للتفكير قبل أن يقرر بعض مستخدمي وسائل التواصل الضغط على زر المشاركة وإعادة النشر والإعجاب محدودٌ للغاية، بل ربما يكون منعدمًا. أما صانع النكتة والكوميكس والمنشور الأصلي فهو مَن لديه وقت أطول. إذ تأتيه الفكرة ثم يبلورها ويبدأ بالتنفيذ بصياغة المنشور وفبركة صورة، وحتمًا تراوده في أثناء ذلك بعض الأفكار عن جمهوره: كيف سيستقبل هذه «النكتة» ويتفاعل معها، وهل سيعجبه المنشور فيستحسنه ويعيد نشره، كل ذلك بينما هو في حالة انفصال جغرافي ونفسي تام عن واقع النساء المتضررات.

ويبدو أن الإدراك الحالي هو أن وسائل التواصل الحديثة مسرحٌ دائم يصلح لإظهار كل العلل والتوجهات غير السوية، بما فيها التهكم على معاناة ملايين الأشخاص في الحرب، ما يجعلها تترسخ أكثر بحكم تطبيعها بوقاحة مفرطة عبر بوابة الفكاهة. لكنه إدراكٌ يمكن – ويجب – تغييره.

عمل إنساني!

والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تمثل المبادئ الأساسية للعمل الإنساني بوصلةً «إنسانية» للإعلاميين ومستخدمي وسائل التواصل؟ عمل الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر – الذي تحكمه سبعة «مبادئ أساسية» هي: الإنسانية، الحياد، عدم التحيز، الاستقلالية، العالمية، الوحدة، العمل الطوعي – استجابةٌ رحيمة لصور المعاناة الناجمة عن العنف، ومحورُه حفظ الأرواح وصون الكرامة الإنسانية. وفي عام 1965 اتفقت جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على تلك المبادئ، ومنذ أواخر الثمانينيات، اهتدت بالمبادئ نفسها أو بعضها هيئات الأمم المتحدة ومنظمات حكومية دولية وإقليمية.

ويمكن – بل ينبغي – أن يستلهم الإعلاميون ومستخدمو وسائل التواصل بوجه عام مبدأين محوريين من المبادئ الأساسية للعمل الإنساني، هما: الإنسانية وعدم التحيز، بالإضافة إلى واجب «كف الأذى»، لتعزيز حقوق الإنسان وصون كرامته. فما محور هذين المبدأين وكيف يمكن إدماجهما في العمل الإعلامي واستخدامنا لوسائل التواصل؟
يجسد مبدأ الإنسانية جوهرَ العمل الإنساني، وهدفُه الحيلولة دون معاناة المتضررين من الأزمات وتخفيفها متى وقعت، وحماية الأرواح وصون الكرامة، وتشجيع التفاهم المتبادل بين جميع الشعوب. ويتضمن مبدأ الإنسانية مفهوم الإيمان بالمساواة بين البشر ومن ثم فكرة عدم التمييز. والعمل الإنساني يشمل كلًّا من المساعدة والحماية، والحماية بدورها تتضمن الالتزام بواجب كف الأذى (do no harm imperative) وهو مبدأ إنساني أيضًا.

فكيف يمكننا تقديم الحماية «الإعلامية» للنازحات واللاجئات من خلال مبدأ «الإنسانية»؟

• إعلان رفضك المحتوى المسيء للنساء المستضعفات، ومكافحته بوسائل الإبلاغ والاعتراض المتاحة.

• الكف عن ترويج الصور المفبركة، والمهينة، والتعليقات المسيئة للمستضعفات.

• عدم تسويغ استغلال المستضعفات بأي صورة كانت، لا سيما الاستغلال الجنسي.

• تجنب تعريض الضحايا لمزيد من الأذى بسبب أنشطتك الإعلامية.

• تجنب تعريض الجمهور لتصورات مشوهة وصور نمطية عن الآخر، بهدف تشجيع الاحترام بين الشعوب.

ويرتبط بعدم التحيز مفهوم عدم التمييز، إذ يجب تقديم المساعدة والحماية بغض النظر عن العرق والجنسية والدين والولاء السياسي والنوع. عدم التمييز هدفٌ أخلاقي بحد ذاته، وهو نتيجة طبيعية لمبدأ الإنسانية. معنى ذلك أن يستبعد الشخص التفضيلات الشخصية فينتصر للإنسانية والكرامة دون نظر إلى انتماءات البشر.

وعدم التحيز يتضمن بدوره الالتزام بواجب كف الأذى (do no harm imperative). فترويج مثل هذه الصور المسيئة لا يجرد المتضررات فحسب من إنسانيتهن، بل يجرد أيضًا صانعيها ومروجيها من إنسانيتهم.

فكيف يمكننا تقديم الحماية «الإعلامية» للنازحات واللاجئات من خلال مبدأ «عدم التحيز»؟

• عدم الانجراف وراء تعليقات جنسية أو عنصرية عن النساء المنتميات لعرق معين، لا مدحًا ولا ذمًّا، بسبب سماتهن الجسدية المستحسنة أو المستقبحة.

• تجنب التمييز على أساس اللون والانتماء الاثني، والحرص على عرض معاناة المتضررات كافةً بما يثير التعاطف معهن جميعًا.

• الحساسية تجاه اللغة المستخدمة والصور المصاحبة للأخبار والمقالات والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام لغة «إنسانية» وقصص تظهر فاعلية النساء. فالمرأة ليست ضحية أو مقاتِلة فحسب، إنما أيضًا مشارِكة في العمل الإنساني والرعاية الطبية والاجتماعية وغير ذلك.

في ظل هذا الطوفان الهائل من الصور والأخبار الحقيقية والمفبركة عن الحرب، نشكِّل جميعًا أخلاقَنا واستجاباتِنا للواقع بأيدينا ونوعز للآخرين أيضًا بأفكار ومواقف وتوجهات على مدار الساعة.

وما من شك في أن اتساع نطاق الإعلام والتكنولوجيا الرقمية المتاحة أمام أعداد هائلة من الناس الآن يمثل أحد تجليات اتساع مجال أخلاقياتنا العملية بوصفنا بشرًا. وتكمن في مبادئ العمل الإنساني إمكانية كبيرة لتطوير أخلاقيات مجال الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي سياق الحرب تقتضي إنسانيتنا المشتركة الالتزام بواجب كف الأذى والإحجام عن إيقاع مزيد من الضرر بضحايا النزاعات المسلحة.

نُشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة «الإنساني» ضمن ملف العدد عن «أنسنة الإعلام». للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا