جريمة العدوان.. وإلماحة إلى ما استجد بشأن جرائم الحرب

قانون الحرب

جريمة العدوان.. وإلماحة إلى ما استجد بشأن جرائم الحرب

REUTERS/Piroschka van de Wouw

دراسة كتبها الفقيه القانون الدولي الراحل محمد أمين المهدي (1936-2019) ونعيد نشرها هنا إلكترونيا بهدف إتاحتها لأكبر قطاع ممكن من القراء والباحثين القانونيين.

من أهم الأمور التي كانت في بؤرة الجهود الرامية إلى إنشاء محكمة جنائية دولية، هو أمر تعيين الجرائم التي تختص بها المحكمة وتعريفها وتحديد أركانها.

وقد تضمن ميثاق المحكمة [الجنائية الدولية] قاعدتين مهمتين تمثلان ركيزة الاختصاص المقرر للمحكمة؛ أولاها أن يكون اختصاص المحكمة مقتصرًا على “أكثر الجرائم خطورة التي هي محل اهتمام المجتمع الدولي عامة، وثانيتهما التأكد على أن اختصاص المحكمة هو اختصاص تكميلي للاختصاص الجنائي الوطني، بمعنى أن يُفعل اختصاص المحكمة فقط في حالة تخلي القضاء الوطني عن ممارسة اختصاصه، سواء كان مرد ذلك إلى عدم القدرة أو عدم الرغبة. (وهو ما يُعرف بمبدأ التكامل Principle of complementary).

أما عن مبدأ تحديد الجرائم التي تختص بها المحكمة بأن تكون مقتصرة فقط على أكثر الجرائم خطورة التي هي محل اهتمام المجتمع الدولي فإن من دواعي تقرير هذا المبدأ ضمان تحقيق أكبر قدر من القبول للانضمام لنظام المحكمة وفي الوقت ذاته التخفيف من العبء الذي يمكن أن تنوء المحكمة بالاضطلاع به.

القاضي الدولي المستشار محمد أمين المهدي في القاهرة في آب/ أغسطس 2015. تصوير: أحمد عبد الفتاح

1- جريمة العدوان “Crime of Aggression”

وقد كان إدراج هذه الجريمة ضمن قائمة الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة محل جدل بين مؤيد ومعارض. وكان جانب من الجدل يدور حول التوصل إلى تعريف لجريمة العدوان. وقام الرأي القائل بإدراج هذه الجريمة على أساس الجسامة القصوى لهذه الجريمة والآثار الدولية الفادحة المترتبة عليها، بينما قام الرأي المعارض على أساس عدم التوصل إلى تعريف دقيق لهذه الجريمة. ومن ناحية أخرى فقد امتد النقاش إلى دور مجلس الأمن في هذا الشأن. بيان ذلك أن المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أن مجلس الأمن يختص بتقرير قيام حالة “العدوان” “act of aggression”، بما مفاده أن تحديد قيام هذه الحالة يتصل مباشرة بدور مجلس الأمن في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وقد كان من بالغ الدقة الوصول إلى حل متوازن يحفظ لمجلس الأمن اختصاصه المقرر بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، في الوقت ذاته الذي يحافظ فيه ويضمن الاستقلال القضائي الواجب تقريره للمحكمة.

وقد يكون من الملائم الإشارة إلى أن محكمة نورمبرج أدانت الحروب العدوانية بأبلغ وأقسى التعبيرات، حيث انتهت إلى أن شن الحرب العدوانية ليس وحسب جريمة دولية، بل هو أكثر الجرائم الدولية فحشًا؛ حيث إن هذه الجريمة تتضمن في ذاتها كافة الشرور الناتجة عن جرائم الحرب الأخرى وما يرتبط بها.

“It is the supreme international crime differing only from other war crimes in that it contains within itself the accumulated evil of the whole”

وكان أن أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادئ المستخلصة من ميثاق محكمة نورمبرج والمبادئ التي تضمنتها الأحكام الصادرة عنها (القرار رقم 95/1 لسنة 1946). وقد قامت لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة، بناء على تكليف من الجمعية العامة، بتقنين تلك المبادئ حيث أوردت تحت المبدأ السابع بيان الجرائم المعاقب عليها في إطار أحكام القانون الدولي حيث ورد تحت البند (أ) الجرائم ضد السلم وتتحصل في مسلكين،

أولًا: التخطيط والتحضير وإشعال أو شن الحرب العدوانية أو الحرب التي تنتهك المعاهدات والتأكيدات الدولية، وثانيًا الاشتراك في تخطيط أو التآمر على إتيان أيٍّ من الأفعال المشار إليها أولًا.(1)

وقد سبق أن أوردت معاهدة فرساي لسنة 1919 نصًا يفيد المسؤولية الجنائية الفردية عما سمَّته الجريمة ضد “الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات

The supreme offence against international morality and the sanctity of treaties”.

حيث نصت المادة (227) من معاهدة فرساي المشار إليها، على توجيه دول الحلفاء الاتهام علنًا لإمبراطور ألمانيا السابق عن ارتكابه الجريمة الأكثر فُحشًا ضد الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات،( 2) مع التأكيد على أن المحكمة الخاصة التي ستشكل لهذا الغرض ستكون محكومة بأعلى اعتبارات السياسة الدولية من أجل الدفاع وصيانة مصداقية الالتزامات الدولية وتأكيد احترام قواعد الأخلاق الدولية.

وبيانًا لدقة الأمر بشأن تعريف العدوان، وبالتالي تحديد أركان الأفعال المكونة له مما يعتبر جريمة دولية، نشير إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة سبق أن أصدرت القرار رقم 3314 لسنة 1974 بشأن تعريف العدوان، وإن كانت قد حرصت في ديباجة القرار على التأكيد بأن تقرير توافر حالة العدوان يتوقف على ظروف الحال، تأسيسًا على أنه من المستحسن تحديد مبادئ عامة يمكن أن تكون حيادية لتكييف واقع الأحوال. كما لم يفت الجمعية العامة تقرير أن إصدار القرار بتعريف العدوان من شأنه تدعيم السلام والأمن الدوليين، كما أن من شأنه صرف من قد تسول له نفسه بارتكاب هذا الفعل عن فعله، فضلًا عن تيسير التعرف على توافر العدوان في حال ارتكابه.( 3)

لعله مما يؤكد مدى الدقة والصعوبة التي تحيط بتعريف العدوان، أن المقرر الخاص بلجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة كان قد قرر سنة 1950 بأن العدوان، بالنظر إلى طبيعته الذاتية، يستعصي على التعريف
“by its very essence, is not susceptible of definition”.

ولما كان ذلك، فإنه من الجدير الإشارة إلى أن مجلس الأمن نادرًا ما استعان بما ورد من تعريف للعدوان في قرار الجمعية العامة المشار إليه،(4 ) إلا أن جريمة العدوان قد عادت ثانية إلى بؤرة الاهتمام بالنظر إلى اعتبارها جريمة دولية ترتب المسؤولية الفردية على مرتكبها، وتدخل بهذه المثابة في دائرة الاختصاص المقرر للمحكمة الجنائية الدولية وإن كان تفعيل هذا الاختصاص معلقًا على الوصول إلى تعريف للجريمة واتباع الإجراءات المبينة بالمادتين (121) و(123) من النظام الأساسي للمحكمة،(5 ) مع مراعاة اتفاق التعريف بالأحكام ذات الصلة التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة.

مبنى المحكمة الجنائية الدولية الجديد في لاهاي

ويبدو الفقه منقسمًا حول مدى إمكان استعارة تعريف العدوان على النحو الوارد بقرار اللجنة العامة للأمم المتحدة لسنة 1974 لترتيب المسؤولية الجنائية الفردية. أساس ذلك أن قرار الجمعية العامة في شأن تعريف العدوان يفرق بين مسؤولية الدولة والمسؤولية الجنائية الفردية، فلا ينص على تقرير هذه المسؤولية الأخيرة إلا عن ارتكاب “جريمة الحرب العدوانية” “War of aggression” على نحو ما تنص عليه صراحة المادة (5/2) من القرار من أن “الحرب العدوانية هي جريمة ضد السلم الدولي”.

ويؤكد هذا النظر ما أوردته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة في تعليقها على مشروع نظام محكمة جنائية دولية لسنة 1994 من أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 لسنة 1974 إنما يتناول العدوان المنسوب إلى الدول وليس إلى الجرائم التي يمكن أن يكون الأفراد قد ارتكبوها، وأن الغاية التي يبتغيها إنما هي أن تكون أحكامه هادية لمجلس الأمن وليس لتطبيقها في ذاتها في المجال القانوني لترتيب مسؤولية جنائية فردية، وإن كان من الحكمة الاسترشاد بها في هذا المجال الأخير، وعلى أية حال فإن ما تضمنه قرار الجمعية العامة المشار إليه من أحكام هي حاليًا محل اهتمام خاص بمناسبة التقرير الذي يعده رئيس مجموعة العمل الخاصة عن جريمة العدوان لصالح المحكمة الجنائية الدولية.(6)

ومن المعلوم أن جمعية الدول الأعضاء بالمحكمة كانت قد قررت في سبتمبر سنة 2002 تشكيل مجموعة عمل، يُتاح الانضمام إليها لمن يشاء من الدول، لإعداد الدراسات والمقترحات بشأن جريمة العدوان.

وبمناسبة الإعداد لمؤتمر المراجعة المشار إليه بالمادة (123) من النظام الأساسي للمحكمة “The review conference” والذي يختص بالنظر في أية تعديلات على النظام بما في ذلك قائمة الجرائم المنصوص عليها بالمادة (5)، والذي يُعقد طبقًا لحكم المادة (123) المشار إليها بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ النظام الأساسي، فقد تقرر بالفعل انعقاد هذا المؤتمر بمدينة كامبالا بأوغندا خلال شهري مايو ويونيه سنة 2010.

ومن المسائل المطروحة على المؤتمر تعريف العدوان، حيث قدمت مجموعة العمل المشكلة لهذا الغرض اقتراحًا في يونيه سنة 2009 ضمنته ما تراه في شأن أركان جريمة العدوان ويمكن تلخيص ما تقترحه في هذا الشأن فيما يلي: 1- أن جريمة العدوان تعني التخطيط والتحضير والبدء باستخدام أو استخدام القوة المسلحة، 2- أن الجريمة يتعين أن يكون مرتكبها في مركز يتيح له توجيه تصرفات الدولة السياسية والعسكرية، 3- أن تكون الجريمة موجهة إلى دولة أخرى ذات سيادة.(7 )

وعلى العموم فإن المقترحات المقدمة في شأن تعريف جريمة العدوان تقابلها إشكاليتان، أولاهما فيما إذا كان يلزم لإعمال التعديل موافقة الدولة المنضمة لنظام المحكمة أم يكفي أن يوافق على التعديل سبعة أثمان الدول الأعضاء. (المادة 121/5) على ألا يسري التعديل إلا بالنسبة للدول التي تصدق عليه، وثانيتهما تتعلق بمدى التزام المحكمة بأخذ رأي مجلس الأمن قبل ممارسة الاتهام والمحاكمة عن جريمة العدوان، مراعاة لأحكام المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنيط بمجلس الأمن أن يقرر “ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملًا من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقًا لأحكام المادتين (41) و(42) لحفظ السلم أو الأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”.

وقد يكون مما له مجال ذكر الإشارة إلى مقترحات التعديلات المقدمة، ففضلًا عن عرض أمر حكم المادة (124) من ميثاق المحكمة على المؤتمر، حيث يتعين على المؤتمر التعرض لحكم المادة المشار إليها بمقتضى صريح عبارتها، والمادة المشار إليها تُجيز للدول المنضمة إعلان عدم قبولها الخضوع لأحكام جرائم الحرب المنصوص عليها في المادة (8) لمدة سبع سنوات.

وقد كان أن أعلنت كل من فرنسا وكولومبيا استعمال هذه الرخصة إلا أن فرنسا تنازلت عن إعلانها سنة 2008، كما تقدمت كل من بلجيكا والمكسيك بمقترحات محددة لتعديل ميثاق المحكمة، فأما التعديل المكسيكي فيهدف إلى تأثيم استعمال الأسلحة النووية وترتيب المسؤولية الجنائية الفردية عن ارتكاب ذلك باعتبار ذلك جريمة حرب، تأسيسًا على ما ينتج عنها من آثار واسعة الانتشار تسبب أضرارًا ومعاناة لا تراعي مبدأ التمييز. وأما التعديل البلجيكي فيهدف إلى تأثيم استعمال بعض أنواع الأسلحة التي تسبب أضرارًا ومعاناة جسيمة في النزاعات المسلحة غير الدولية، أسوة بتجريمها في النزاعات الدولية ومن ذلك استخدام السموم بأنواعها والمقذوفات التي تتمدد أو تنتشر في الجسم البشري، وكذلك الأسلحة البيولوجية والألغام الأرضية.

ولعل هذه المقترحات التي تحاول أن تمد الحماية المقررة للاعتبارات الإنسانية في إطار النزاعات المسلحة الدولية، إلى النزاعات المسلحة غير الدولية تعتبر تمهيدًا مناسبًا لاستعراض أحكام جرائم الحرب على نحو ما هو منصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة.

2- جرائم الحرب:

ولعل أمر جرائم الحرب، مما يشغل تفكير الساحة العربية، خاصة في ضوء ما صدر من مذكرة اعتقال في 4 من مارس 2009 بحق رئيس دولة السودان لاتهامه، ضمن اتهامات أخرى تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بمسؤوليته عن ارتكاب جرائم حرب،( 7) تتحصل في “نهب الممتلكات” و”توجيه هجمات ضد مدنيين”، وهي من الأفعال المؤثمة بموجب المادة (8/2/هـ) من النظام الأساسي للمحكمة.

وإنه ولئن كان الرئيس السوداني قد نفى علنًا أن يكون شيئًا من ذلك قد وقع أثناء النزاع المسلح القائم بإقليم دارفور، فإن تساؤلًا قانونيًا يثور حول مدى التزام دولة السودان، بل وغيرها من الدول سواء التي انضمت أو لم تنضم إلى نظام المحكمة، بتنفيذ مذكرة الاعتقال المشار إليها باعتبار أن قرار مجلس الأمن، الصادر في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، رقم 1593 لسنة 2005 يتضمن التزام حكومة السودان وكافة أطراف النزاع في دارفور بالتعاون مع المحكمة، كما أن القرارات الصادرة من مجلس الأمن في إطار الفصل السابع من الميثاق تتمتع بقوة الإلزام. (علمًا بأن قرار مجلس الأمن صدر بموافقة أحد عشر عضوًا وامتناع أربعة أعضاء عن التصويت من بينهم الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت بلسان مندوبتها بمجلس الأمن، أن بلادها كانت تفضل إحالة الحالة إلى محكمة خاصة مختلطة “hybrid”. ومع ذلك فلم تعترض على القرار آخذة في الاعتبار أهمية ظهور المجتمع الدولي موحدًا تجاه الانتهاكات الجسيمة التي توافرت الأنباء عنها بإقليم دارفور”.

3- وأخيرًا فلعله من الملائم في هذا المقام الإشارة إلى مؤتمر “إعادة النظر في نظام المحكمة” الذي نصت عليه المادة (123) من النظام الأساسي والذي انعقد بمدينة كمبالا الأوغندية في المدة من 31 من مايو وحتى 11 من يونيه سنة 2010. وقد تمخض المؤتمر عن قرارين اتخذا دون تصويت “by consensus” أولهما بشأن تعريف جريمة العدوان وتنظيم الآلية التي تنظم كيفية ممارسة المحكمة لاختصاصها في شأن تلك الجريمة. وثانيهما بشأن امتداد تأثيم استعمال بعض أنواع الأسلحة والقذائف المنصوص عليه في المواد من 8 (2)(ب)”17″ إلى 8 (2)(ب)”19″ بشأن المنازعات المسلحة الدولية، بحيث يسري على ما يُرتكب من ذلك على المنازعات غير الدولية أيضًا.

ويمكن إيجاز ما تحقق في مؤتمر كمبالا فيما يأتي:

أ- بالنسبة لجريمة العدوان؛ فإنه ولئن تحقق تقدم في المؤتمر بشأن تعريف هذه الجريمة وتحديد أركانها وتنظيم الآلية التي من خلالها تمارس المحكمة اختصاصها بشأنها، إلا أنه يلاحظ أن ما تحقق إنما هو تقدم رمزي، ذلك أنه بموجب ما صدر عن المؤتمر، فيلزم لممارسة اختصاص المحكمة بالنسبة لجريمة العدوان أن يصدر بذلك قرار آخر بعد الأول من يناير سنة 2017 بالأغلبية المتطلبة لتعديل النظام الأساسي للمحكمة.

وفضلًا عن ذلك يمكن ملاحظة أن تعريف جريمة العدوان يبنى على أحكام قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 الصادر في 14 من ديسمبر سنة 1974 السابق الإشارة إليه، كما أن المؤتمر أبدى حرصًا على التنسيق بين الاختصاصات المقررة لمجلس الأمن في شأن تقرير وقوع لمجلس الأمن أن يحيل إلى المحكمة نظر حالة يشتبه في ارتكاب جريمة العدوان بصددها، استنادًا إلى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولعله لا يخفى أن ممارسة المحكمة لاختصاصها بالنسبة لجريمة العدوان يستلزم دراسات جادة بشأن توفيق أوضاع اختصاص المحكمة بنظر هذه الجريمة على الأصل الذي يقوم عليه النظام الأساسي من كون اختصاص المحكمة هو اختصاص مكمل للاختصاص الوطني.

ب- أما بالنسبة لمد الحظر المقرر، في إطار المنازعات المسلحة الدولية، لاستعمال بعض الأسلحة وبالأخص الغازات السامة وبعض أنواع القذائف وبالأخص تلك التي تتمدد بالجسم (من المادة 8-2-ب-17) (إلى المادة 8-2-ب-19) على المنازعات المسلحة غير الدولية،( ) فإنه يعتبر تقدمًا ملموسًا في أحكام النظام الأساسي للمحكمة، بما يقربه من الأحكام الدولية العرفية على نحو ما كشفت عنه المحاكم الجنائية الدولية وعلى الأخص المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، التي تتطور باتجاه إزالة الفوارق بين الأحكام التي تنظم المنازعات المسلحة دولية كانت أو غير دولية.

وقد تجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) تعتبر أن حظر استعمال الذخائر التي تتمدد أو تتسطح في جسم الإنسان “expand or flatten” يسري على كافة المنازعات المسلحة، دولية كانت أو غير دولية بمقتضى الأحكام الدولية العرفية،( ) إلا إن بعض الدول لا ترى ذلك، بل تستعمل هذا النوع من الذخائر في عمليات تنفيذ القانون “Law enforcement” متى اقتضت طبيعة التدخل الأمني ذلك، علمًا بأن عمليات التدخل الأمني تخرج عن مفهوم النزاع المسلح الذي تنظمه أحكام القانون الدولي الإنساني.( )

وعلى كل فإن انحسار تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني، عن الحالات التي لا يتحقق بشأنها قيام حالة النزاع المسلح غير الدولي، لا يعني مطلقًا أن تكون يد الدولة المعنية مطلقة في التصرف تحت أي ستار، سواء كان بمقولة تنفيذ حكم القانون أو لغير ذلك من أسباب، إذ إن تصرفات الدولة تكون في هذه الحالة خاضعة لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان. فقد أصبح الإنسان محميًا، من منظور القانون الدولي، في جميع أحوال استعمال القوة، سواء تم ذلك في إطار نزاع مسلح أو كان ممارسة أمنية تقوم بها الدولة المعنية.

هوامش

1- وقد ثار التساؤل داخل اللجنة حول ما إذا كان عليها تقرير مدى اعتبار هذه المبادئ من مبادئ القانون الدولي، وقد تغلب الرأي القائل بأنه متى كانت الجمعية العامة سبق لها أن قررت اعتماد المبادئ التي يتضمنها ميثاق محكمة نورمبرج والأحكام الصادرة عنها، فإنه لا يكون للجنة أن تعاود تقييم هذه المبادئ من حيث مدى اعتبارها من مبادئ القانون الدولي، وإنما يقتصر عملها على مجرد صياغة هذه المبادئ. (قرار اللجنة سنة 1950- الكتاب السنوي للجنة لعام 1950- المجلد الثاني- الصفحات من 374-378).

2- “The allied and associated powers publicly arraign William II of Hohenzollern, formerly German Emperor, for a supreme offence against international morality and the sanctity treaties”. (Art. 227/1).

3- وقد حددت المادة (3) من القرار الأفعال التي تعد عدوانًا ومع ذلك أوردت المادة (4) أن الأفعال المشار إليها بالمادة (3) لا ترد على سبيل الحصر، وإنما يكون لمجلس الأمن أن يقرر اعتبار أفعال أخرى عدوانًا.

4- وإن كانت محكمة العدل الدولية قد استندت إلى ما أورده القرار من صور لأعمال العدوان، وهي الصورة المشار إليها في المادة (3) فقرة (g) وتتعلق بإرسال دولة بذاتها أو نيابة عنها، لجماعات أو عصابات أو أفراد أو مرتزقة للقيام بأعمال حربية ضد دولة أخرى متى بلغ ذلك الحد المبين بصور العدوان الأخرى التي تشير إليها المادة (3). (الحكم الصادر من المحكمة في النزاع بين نيكاراجوا والولايات المتحدة الصادر سنة 1986، حيث أوردت المحكمة أن الحكم الوارد بالبند (g) من المادة (3) يعكس قاعدة عرفية مستقرة، وإن كان أمر مدى اعتبار القرار انعكاسًا للقواعد العرفية محل جدال.

 

5- وتنظم أحكام المادتين (121) و(123) من النظام الأساسي للمحكمة طريقة تعديل النظام الأساسي وإعادة النظر في النظام الأساسي، بمراعاة مضي سبع سنوات على دخول النظام حيز التنفيذ، الأمر الذي تحقق في أول يوليه سنة 2002.

6- ومن الجدير الإشارة إلى الحكم الصادر من المحكمة الإدارية الفيدرالية الألمانية بتاريخ 21 من يونيه سنة 2005 الذي انتهت فيه إلى عدم إدانة ضابط بالجيش الألماني رفض الانصياع للأمر الصادر له بالاشتراك في الحرب ضد العراق سنة 2003. وإنه لئن كانت المحكمة لم تدن صراحة الحرب على العراق إلا أنها قد أوردت في حيثيات الحكم أن الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية دون مقتضى، الأمر الذي يخالف الحظر الوارد على استخدام القوة بالتطبيق لحكم المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، ترتكب في الوقت ذاته عملًا من أعمال العدوان العسكرية “Military aggression”، الأمر الذي يتسع له التعريف الواسع للعدوان على النحو الوارد بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 لسنة 1974. يُراجع: Nikolans Schultz, Was the war in Iraq illegal? The German law journal, No.1 (January 2006).

7-A “crime of aggression” means the planning, preparation, initiation or execution of the use of armed force”.

*The crime must be conducted by a person in a position to direct the actions of a sovereign State’s political or military branches.

*The crime must be targeted another sovereign nation”.

8-وقد نسب إلى المحكمة، بمناسبة مذكرة الاعتقال، أنها تمارس معايير مختلفة. ومن أكثر ما وجه إلى المحكمة من نقد ما ورد بأقوال منسوب صدورها إلى بعض القادة الأفارقة من أن المحكمة تمارس نوعًا جديدًا من الاستعمار، الأمر الذي قد يكون سندًا إلى القرار الذي اتخذته قمة الاتحاد الأفريقي في اجتماع “سرت” في يوليه سنة 2009 بعدم تعاون الدول الأفريقية مع المحكمة في شأن تنفيذ مذكرة الاعتقال. ومما هو جدير بالإشارة أن الولايات المتحدة الأمريكية فضلًا عن عدولها بتاريخ 6 من مايو سنة 2002 عن توقيعها على ميثاق المحكمة في 31 من ديسمبر 2000 “unign the treaty”، فقد أصدرت قانونًا في أغسطس سنة 2002 يمنع الدول الأعضاء في نظام المحكمة والتي لم تبرم اتفاقات مع الولايات المتحدة استنادًا إلى المادة (98) من الميثاق بشأن عدم تسليم الرعايا الأمريكيين إلى المحكمة، من الاستفادة من المعونات، ويرمز إلى القانون بالرمز الآتي: “ASM” أي: “American Service Members Act”.

9- وطبقًا للتعديل فإن الدولة التي تصادق على التعديل تلتزم بمراعاة أحكامه اعتبارًا من فوات سنة على التصديق، في حين أن الدولة التي لا تصادق على التعديل لا تلتزم بمقتضاه. ويلاحظ أن اقتراحًا بذات المعنى كان معروضًا على مؤتمر روما سنة 1998 إلا أنه استبعد من مشروع الاتفاق رغم اعتراض بعض الدول على هذا الاستبعاد.

 

10-تراجع الدراسة التي أعدتها اللجنة الدولية عن مبادئ القانون الدولي العرفي (القاعدتان 70 و77). ويشمل التعديل المقترح للنظام الأساسي للمحكمة صور جرائم الحرب المنصوص عليها في المادة (8-2-ب-17) بشأن استخدام السموم أو الأسلحة المسممة، والمادة (8-2-ب-18) بشأن استخدام الغازات السامة وما في حكمها والمادة (8-2-ب-19) بشأن استخدام الرصاصات التي تتمدد أو تتسطح في جسم الإنسان.

11- وقد درجت دول على استعمال بعض أنواع الغازات، المحرم استعمالها في النزاعات المسلحة، لتفرقة متظاهرين أو خارجين على القانون. والأمر في مدى شرعية هذا المسلك يكون في ضوء أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يسري في الحالات التي لا تبلغ حد النزاع المسلح على النحو المشار إليه مثلًا في أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة (8).

النص في الأساس يعتمد على محاضرات ألقاها الفقيه القانوني الراحل أمين المهدي في الدورات التدريبية التي نظمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لرجال القانون العرب حول القانون الدولي الإنساني. وقد نُشر بعض هذه المحاضرات في كتاب «المدخل لدراسة القانون الدولي الجنائي»، القاهرة: دار النهضة العربية، 2011. وقد نشرنا هذا النص في مدونة «الإنساني» بعد إذن خاص من السادة ورثة المرحوم المستشار أمين المهدي.

انظر أيضا:

كلاوس كريس،حول تفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على جريمة العدوان

 

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا