يُسجل للجنة الدولية للصليب الأحمر اهتمامها بجوانب القانون الدولي الإنساني النظرية، وذلك منذ إنشائها في العام 1863، وشمل ذلك الاهتمام مختلف مراحل تدوين هذا الفرع من فروع القانون الدولي، سواء عندما كانت الحرب وسيلة مشروعة لفضّ المنازعات بين الدول، أو عندما أصبحت محظورة، من حيث المبدأ، بموجب أحكام القانون الدولي، كما شمل تقييم القواعد القانونية المتفق عليها دوليًا في ضوء ممارسات الدول أثناء الحروب.
وما من مرحلة من مراحل تدوين أحكام الحرب إلا وسبقتها أو تلتها دراسات وتقارير أُعدت من قِبَل اللجنة الدولية بمبادرة أو تشجيع منها. ولا عجب في ذلك، إذ أن تطور الأسلحة، والفتّاكة منها بالخصوص في قرن من الزمن تجاوز أضعافًا مضاعفة ما وصلت إليه البشرية من اختراعات في حقل وسائل القتال، عبر آلاف السنين، وهو تطور حمل في طياته قدرات تدمير متصاعدة، لا يمكن لمنظمة قامت على هدف حماية ضحايا الحروب الوقوف حيال آثارها موقف المتفرج.
واستكمالًا للعمل الميداني، الذي هو خاصية اللجنة الدولية منذ قيامها، ناشدت اللجنة جهود العلماء والخبراء، من القانونيين والعسكريين خاصة، للمشاركة في وضع أحكام دولية تتلاءم وواقع النزاعات المسلحة، وتواكب تطور وسائل القتال وتحدّ على الأقل من استخدامها أو تسعى إلى حظر بعضها. ومن هنا رسخ تقليد اجتماعات الخبراء التي تفضي إلى عرض نتائج أعمالها على المؤتمرات الدبلوماسية حيث لمندوبي الدول أن يتفاوضوا بشأنها ويقرروا مآلها.
فرغم التقدم الكبير الذي بلغته المعاهدات المتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة (وتُوّج بإبرام البروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف الأربع سنة 1977، وما تبعهما من مواثيق بشأن بعض أنواع الأسلحة أو ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية)، أفرزت الحروب الحديثة تحديات متكررة واسعة النطاق، لعل سمتيها البارزتين تجاهل الأحكام القانونية وتغليب المصالح السياسية والعسكرية على الاعتبارات الإنسانية، علمًا بأن قوانين الحرب وأعرافها تقوم على السعي إلى تحقيق الحد الأدنى من التوازن بين ضرورات الحرب ومقتضيات الإنسانية، وبدون ذلك لا مجال للحديث عن قانون يحدّ من شطط الحروب.
وإزاء شدة وطأة النزاعات المسلحة الحديثة على غير المقاتلين، وفي مقدمتهم السكان المدنيون، وعلى الممتلكات المدنية مَثَّلَ مؤتمر جنيف الدولي في العام 1993 حول “حماية ضحايا الحرب: صحوة الضمير الإنساني» ودعوة إلى الأطراف المتحاربة خصوصًا والمتعاقدة عمومًا، للالتزام بتلك الأحكام وفرض احترامها. وجاء المؤتمر الدولي السادس والعشرون لحركة الصليب الأحمر والهلال الأحمر (جنيف 1995) مؤكدًا لمضمون إعلان مؤتمر 1993 وداعيًا اللجنة الدولية إلى إعداد دراسة عن قواعد القانون الدولي الإنساني العرفية، ذلك أن حصرها أو تحديدها يسهم في تسهيل تطبيقها.
وتنفيذًا لقرار المؤتمر الدولي دعت اللجنة الدولية مجموعة من الخبراء الذين يمثلون مناطق العالم كافة للمشاركة في إعداد الدراسة، واختير أعضاء فرقاء البحوث الوطنية والدولية واللجنة التوجيهية والخبراء الجامعيون والحكوميون من أبرز الدول التي خاضت نزاعات مسلحة في العقود الماضية القريبة، إلى جانب الباحثين التابعين للجنة الدولية، وضمت قائمة الخبراء عددًا من فقهاء القانون الدولي المسلمين، من عرب وغيرهم.
استغرق إعداد الدراسة مدة طويلة بلغت ثماني سنين قبل أن تصدرها مطابع جامعة كمبريدج في آذار /مارس [من العام 2005]* في ثلاثة مجلدات ضخمة. إلا أن لطول المدة مبررات وجيهة منها تمكين اللجنة الدولية من إجراء المشاورات الأولية اللازمة وتمكين اللجنة التوجيهية من وضع أسس الدراسة ومناقشتها بتعمق تمهيدًا لتحقيق الإجماع المطلوب واختيار الخبراء المكلفين بإعداد التقارير عن الممارسات الوطنية المتعلقة بالقواعد موضوع الدراسة، ومنح الخبراء الوقت الكافي للبحث عن الوثائق وانتقاء الحالات التطبيقية التي تقتضيها التقارير قبل الشروع في تحريرها، ومراجعة التقارير وترجمتها وترجمة ملاحقها ومراجعة مسودة الكتاب كله.
ومن حيث المضمون، حددت الدراسة مائة وإحدى وستين قاعدة عرفية قُسمت إلى أربعة وأربعين فصلًا في ستة أجزاء تحت عناوين: مبدأ التفرقة؛ الأشخاص والأعيان المحميون على وجه الخصوص؛ وسائل قتال معينة؛ الأسلحة؛ معاملة المدنيين والأشخاص العاجزين عن القتال؛ ثم التنفيذ.
وقد رغب الكثير من واضعي أسس الدراسة في توضيح موقف القانون العرفي من الأسلحة والنووية، ومن أجل ذلك خُصص لها الفصل 22، إلا أن بدايات إعداد الدراسة تزامنت وعرض موضوع مشروعية استخدام الأسلحة النووية على محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي بشأنها، وأصدرت المحكمة رأيها الاستشاري في 8/7/1996 مؤكدة بالخصوص عدم وجود أي حظر عالمي شامل، لا في القانون الدولي التعاهدي ولا العرفي، للتهديد باستخدام الأسلحة النووية أو لاستخدامها. فتجنبت الدراسة الموضوع.
إن المعاهدة والعرف هما مصدرا القانون الدولي الأساسيان، وينسحب هذا على القانون الدولي الإنساني المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة بصفته فرعًا من فروع القانون الدولي العام. وإذا كانت أغلب أحكامه مدونة في اتفاقيات عقدتها الدول، وأهمها اتفاقيات جنيف، فإن أعرافه مستمدة من ممارسات الدول، سواء كان ذلك في إطار الكتيبات العسكرية أو التشريعات الوطنية أو البيانات الرسمية الصادرة عن ممثلي السلطات المختصة، أضف إلى ذلك قرارات المحاكم في إنشاء القاعدة العرفية. وتستند إلزامية القاعدة العرفية إلى كونها تعبيرًا عن ممارسة الدول على نطاق واسع وشامل لجميع مناطق العالم وعلى درجة من الاتساق مما يجعلها مقبولة بصفتها قانونًا.
تشمل إلزامية القاعدة العرفية جميع الدول دون اعتبار لموافقتها على المعاهدات ذات الصلة أو عدم موافقتها. وبالنظر إلى قانون النزاعات المسلحة، من المعلوم أنه لا يقتصر على اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949، التي حظيت بقبول عالمي لا يضاهى، من حيث عدد الدول المصادقة عليها، خلافًا لمعاهداته الأخرى مثل بروتوكولي 1977 الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف. وهنا تكمن قيمة القاعدة العرفية خاصة بالنسبة للنزاعات المسلحة الداخلية أو حروب التحالف (مجموعة دول ضد دولة أو دول) أو العمليات المسلحة التي تقوم بها منظمات دولية عالمية أو إقليمية.
باستعراضنا للقواعد التي تضمنتها الدراسة نلاحظ أنها متصلة اتصالًا وثيقًا بأهم أسس القانون الإنساني وهي الإنسانية والضرورة الحربية والتفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين والأهداف العسكرية والأعيان المدنية والتناسب. ونجد الأسس ذاتها في بطون مراجع الفقه الإسلامي، وإن اختلفت الألفاظ والمصطلحات.
أما القواعد التفصيلية فليس فيها ما يعارض جوهر الأحكام الشرعية ذات الصلة. وفي القواعد الكلية المستمدة من الفقه الإسلامي أن “المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا” وأن “العادة محكّمة”.
ومن أهم المبادئ الشرعية حرمة الدم والمال والعِرض، وهي تنطبق على جميع فئات غير المقاتلين، وفي هذا تطبيق لمبدأ الإنسانية. وفي الشريعة تقدر الضرورة بقدرها، وهي مقيدة كما هو الحال في القانون الدولي الإنساني، والتناسب يعني ضبط استخدام القوة المسلحة حتى لا تتجاوز آثارها المدمرة الحد المعقول وتعصف بمن لا صلة لهم بالمعارك، ونعرف تشدد الأحكام الشرعية في حظر الإفساد في الأرض بكل أشكاله. وتوضح الآية الكريمة “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا” (البقرة: 190) مبدأ التفرقة، وفي النهي عن التعدي دعم صريح لقاعدة التناسب.
وإذا كانت أحكام القانون الدولي الإنساني تقوم في أساسها على مبدأ المعاملة الإنسانية، فإن الشواهد المستمدة من الكتاب والسنة ومن ممارسات الخلفاء وأمراء الجيوش الإسلامية، والتي تأمر بتلك المعاملة أو تحث عليها، كثيرة كما هو معروف من كتب الفقه والتاريخ والسيرة. وإذا كانت هناك انتهاكات في الحروب التي عرفتها دول الإسلام المتعاقبة، في علاقاتها الداخلية أو في صراعها مع القوى الخارجية غير الإسلامية، وأي حرب تخلو من الانتهاكات؟، فلا يمكن نسبتها إلى الشريعة بأي حال.
إذا أمعنا النظر في عناوين فصول الدراسة، تبين لنا أن أيًا منها ومن القواعد المدرجة تحت كل فصل يمكن وضعها في ميزان الشرع الإسلامي وبحثها استنادًا إلى معاييره، ويستكشف الباحث أن الرصيد الفقهي يزخر بالمبادئ العامة وبالحلول العقلية والنقلية التي تتسع لاستيعاب قواعد القانون الإنساني العرفي. ومن ميزات هذه القواعد أنها تغني عن الكثير من الدقائق المستعصية على الفم أحيانًا، وتوجز أحكامًا كثيرة دون الإخلال بجوهرها ويمكن تدوينها في كتيبات تُحفظ بسهولة وهي من الوضوح بما لا يجوز معه التعلل بالغموض أو الجهل أو النسيان.
ولا يفوتنا التنويه باستبعاد مبدأ المعاملة بالمثل في الالتزام باحترام القانون الدولي الإنساني وضمان احترامه (القاعدة 140). واستثناءً من القانون الدولي الذي يكرس مبدأ المعاملة بالمثل ويلتقي في ذلك مع الشريعة الإسلامية، لا تقبل أحكام القانون الإنساني هذا المبدأ لخطورته على مصير الضحايا والممتلكات المدنية. وهبْ مثلًا أن طرفًا ما قتل الأسرى أو المعتقلين التابعين للخصم، فلا يجوز لهذا الأخير الرد بالمثل، بموجب القانون الإنساني، وقِسْ على ذلك. وفي الشريعة لا يُقبل بأي وجه من الوجوه ارتكاب المحرمات، حتى في أرض الحرب، ولا يبيح تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل أفعالًا مثل الاغتصاب أو التمثيل بالجثث.
إن الدراسة الجديدة تمثل حدثًا في تاريخ القانون الدولي الإنساني، وستتقفها الأيدي والأقلام ويتناولها الخبراء وفقهاء القانون الدولي بالتحليل والمناقشة، ونأمل أن تساهم القواعد التي طال انتظار صياغتها في تسهيل تنفيذ القانون الدولي الإنساني واحترامه وفرض احترامه في هذه الأيام التي تُنتهك فيها مبادئ الأحكام الإنسانية تحت ستار الحرب المزعومة على الإرهاب وحروب أخرى. ويتعرض فيها العمل الإنساني والقائمون به للتهديد وشتى أنواع المضايقات. وفي ذلك إضرار لا يخفى بحقوق الضحايا في الحماية والمساعدة.
ومع ذلك، لا مجال للتخلي عن تلك الحقوق، لأن كرامة من يحتاجون المساعدة زمن الحرب، وبعدها، تقتضي التمسك بمبادئ القانون الراسخة والمتفق عليها عالميًا. وما القواعد العرفية التي أوضحتها الدراسة الجديدة إلا دعم لقوة القانون أمام صلف قانون القوة وجبروته.
نُشر هذا النص في العدد 32 من «مجلة الإنساني» الصادر في صيف العام 2005. وقد شغل كاتب المقال الدكتور عامر الزمالي آنذاك منصب مستشار شؤون العالم الإسلامي باللجنة الدولية للصليب الأحمر.
*الكلمات الموضوعة بين القوسين المعقوفين [ ] من وضع المحرر.
نشرنا في السنوات الأخيرة مساهمات عدة حول قواعد الحرب في الإسلام. انظر أيضا:
أحمد الداودي، حماية المدنيين في قلب قانون الحرب في الإسلام
أحمد الداودي، التعامل مع الموتى من منظور الشريعة الإسلامية: اعتبارات الطب الشرعي في مجال العمل الإنساني
استهداف المدنيين وأوضاع النساء المقاتلات في قانون الحرب في الإسلام…حوار مع الدكتور أحمد الداودي
عمر مكي، في حروب اليوم، الأخلاق أيضًا تتصارع
الرجاء نشر رسالتى للدكتوراه
• المؤهل العلمى: دكتوراه فى الشريعة الإسلامية مع مرتبة الشرف الأولى ـ 1426ه ـــ 2005م ـ جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم ـ قسم الشريعة الإسلامية، وموضوع رسالة الدكتوراه: {ضوابط الإتلاف فى الحرب “دراسة فقهية مقارنة بالقانون الدولى”}إشراف: أ.د/ أحمد يوسف سليمان وإشراف: أ.د/ صلاح الدين عامر.