عشرون عامًا مرت منذ انطلاقة «الإنساني» الأولى. عشرون عامًا جرى فيها ما جرى من أحداث، وتقلص العالم مع التطور التكنولوجي إلى قرية صغيرة، ليغدو اليوم منزلًا كبيرًا يسكنه أكثر من ستة مليارات من البشر. وخلال الأعوام العشرين استمرت مجلة «الإنساني» بالصدور برسالتها الأساسية الأولى: نشر ثقافة القانون الدولي الإنساني واحترامه لدى القارئ العربي، وإعطاء الضحايا صوتًا على متن صفحاتها، علَّ قصصهم تصل إلى الفاعلين على الأرض والمسؤولين ممن في يدهم القرار.
وعلى مدى أكثر من عشر سنوات من عملي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر كمسؤولة عن مشروع «الإنساني»، في إدارة تحريرها أولًا ثم في رئاسة التحرير، لعل أكثر لحظة ما تزال تؤثر فيَّ اليوم هي اللحظة التي أمسك فيها العدد الجديد من المجلة وقد خرج من المطبعة، لأتصفحه للمرة الأولى. فأنا من ذلك الجيل الوسطي الذي عمل في الصحافة، وكتب مقالاته على ورق أصفر خفيف قبل أن يبدأ بطباعتها على جهاز الكمبيوتر. جيل قرأ الجريدة المطبوعة، تصفحها وانتشى برؤية اسمه مكتوبًا تحت مقالة فيها، ثم شهد بأم العين كيف بدأت تكنولوجيا المعلومات والإنترنت يؤثران على آليات عمله، ويفتحان أمامه أبوابًا جديدة من الاتصال والإبداع لم تكن متوفرة قبلًا.
لذا أدعي أنني من جيل يعرف جيدًا فضل تكنولوجيا المعلوماتية والإنترنت لأنه عاش ردحًا من الحياة من دونها، وناقش حسناتها وسيئاتها وحاول استشراف ما هو مقبل عليه والتأقلم معه بكثير من الانفتاح. لذا فالحديث عن الاحتفال بالعيد العشرين لمجلة مطبوعة، في عصرنا الرقمي هذا، قد يبدو أمرًا غريبًا للبعض وخارج السياق الذي يطغى عليه المحتوى الإلكتروني، لا سيما أننا نسمع يوميًّا عن إقفال أو تعثر مؤسسات صحافية كبرى شكلت على مر عقود الرأي العام العربي. لكنه ليس كذلك. فالمجلة بما تقدمه، وبالفئات التي تصل إليها، ما تزال تحمل ميزات تفاضلية عن غيرها من المطبوعات حتى في عصرنا الإلكتروني.
رسالة المجلة
وإذ لا تدعي «الإنساني» ولم تدعِ يومًا أنها تشكل رأيًا عامًّا، إلا أنها المجلة العربية الوحيدة التي تُعنى بقضايا القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان – بمعناها الواسع – في مناطق النزاعات. وهي بحدود اختصاصها وتوزيعها تحاول – وما تزال – أن تنشر المعرفة حول القانون الدولي الإنساني ومبدأ حماية المدنيين في الحرب. باختصار هدفنا أن تصل رسالة «الإنساني» واللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكل من تقع المجلة بين يديه، بأن المدنيين خط أحمر في أي نزاع، وأن لكل حرب حدودًا هي عدم إيذاء المدنيين وكل من لا يشارك في الأعمال العسكرية، حتى ولو كان السياق العام اليوم في كثير من النزاعات يستبيح لنفسه كل أشكال القتال وأصنافه، ضاربًا عرض الحائط بتلك الحدود التي وضعتها المواثيق الدولية، ومدعيًا زورًا أنها لا تنطبق على الصراعات التي يخوضها تحت مسميات كثيرة.
فهذه المجلة المطبوعة، التي بدأ إصدارها في العام 1998 للأهداف التي ذكرتها، تطورت بمحتواها شيئًا فشيئًا نحو الابتعاد عن المادة القانونية الجافة إلى التركيز على القصة الصحافية التي تناقش القضايا الإنسانية بمعناها الثقافي الواسع، وإن طُعمت بجانب قانوني لا بد منه. وهي فتحت المجال أمام الفئات المهمشة والضحايا، لرفع صوتهم من خلال صفحاتها ونقل الكلام عنهم من خانة الأرقام إلى خانة بشر من لحم ودم ومشاعر وأحلام، من خلال القصص الإنسانية التي تعتمد لغة صحافية تحاكي القارئ غير المتخصص إلى جانب المتخصصين، بأسلوب يحاول دائمًا أن يعتمد التوازن في التعاطي مع تلك القضايا.
كما أنها اعتمدت منذ البداية على الرسائل البصرية لتدعيم النص مع استيحاء الكثير منها من الثقافة العربية عمومًا، حيث طُعمت المجلة برسوم وتصاميم لعديد من الفنانين على امتداد الوطن العربي. ولم يكن هذا الأمر اعتباطًا، وإنما إيمانًا من جميع من ساهموا وعملوا في المجلة منذ بدايتها، بضرورة أن يكون المحتوى الذي تقدمه نابعًا من الجذور الثقافية لقرائها ويعبر عنها. لذا فقد اجتذبت المجلة على مر السنوات كُتَّابًا عربًا مرموقين ساهموا في إغنائها بإبداعاتهم وآرائهم التي قد تختلف مع رأي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإن كانت لا تتناقض مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها اللجنة الدولية للصليب الأحمر والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لا سيما مبدأي الإنسانية وعدم التحيز.
فئات مستهدفة
ومنذ عشرين عامًا وإلى اليوم، تُموَّل «الإنساني» بشكل كامل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتُوزع مجانًا عن طريق بعثات اللجنة الدولية في المنطقة، على فئات واسعة من القراء، منها الصحافيون والأكاديميون والمسؤولون الحكوميون وجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الوطنية، وخلال نشاطات البعثات المختلفة في الدول العربية وبعض الدول الأفريقية.
لكن تبقى فئة معينة تصلها المجلة نحرص دائمًا على وضعها في الحسبان، وهي فئة المحتجزين ممن تزورهم اللجنة الدولية في مراكز احتجاز عدة على امتداد المنطقة العربية، لا سيما في الدول التي تشهد نزاعات. فقد تكون «الإنساني» لهؤلاء في بعض الأحيان، المطبوعة الوحيدة التي تصلهم. وقد رأيت بنفسي محتجزين في أحد السجون في اليمن يجمعون أعداد المجلة بالقرب من فرشهم في مكتبة بدائية أنشأوها من المطبوعات التي تدخل إليهم. وخلال فترة ما بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر كانت «الإنساني» واحدة من المطبوعات القليلة التي سمح بدخولها إلى معتقل غوانتانامو.
لذا، وبالرغم من التغيير الذي شهده العالم منذ عشرين عامًا وحتى اليوم إلا أن بعض الأمور لا تتغير بالنسبة للجنة الدولية كما بالنسبة للفئات المستضعفة التي تعمل معها. وما احتفالنا بالعيد العشرين للمجلة إلا تأكيدًا منا على أهمية الدور الذي تؤديه تجاه تلك الفئات.
ومع ذلك، نعي جيدًا الاختلاف الذي طرأ على القارئ بشكل عام وعلى آليات تقديم المحتوى اليوم في ظل النقلة التكنولوجية التي حدثت والتي جعلت الكثيرين يعزفون عن كل ما هو مطبوع وينهلون معلوماتهم من الشاشات. وإن كان ذلك يبدو تحديًا تواجهه المجلة المطبوعة إلا أنه يفتح أمامنا أبوابًا أوسع للوصول إلى فئات أكبر من القراء، وربما أجيال أكثر شبابًا ممن يعيشون اليوم ظروف نزاعات صعبة جدًّا في منطقتنا، ويعتمدون على التكنولوجيا النقالة في إيصال أصواتهم إلى العالم. وهو ما دفعنا قبل عام من اليوم إلى إطلاق مدونة الإنساني الإلكترونية منطلقين من جذور ومبادئ المجلة نفسها نحو آفاق أكثر رحابة.
تحية طيبة وبعد .
اليوم وقد بلغ عمر مجلة الانسانية ٢٥ سنة …اي ربع قرن من العطاء الدائم المستمر … اتمنى ايجاد نسخ بشكل مجلدات سنوية تطبع وتوزع بهذا المناسبة /ربع قرن /
بشكل فني جميع …وتضع بشكل خاص على هؤلاء المحتجزين.لانها تكون النافذة الوحيدة على العالم الخارجي ….
وكذلك توزيع هذه النسخة بشكل دوري…على الجامعات التي تدرس مادة القانون في جميع دول العالم ….لانها مجلة متخصصة بالقانون الانساني
المحامي احمد السراج