حصدت مدينة حلب السورية من الأرواح، ما جعل الموت نمط حياة مأساويًّا اعتاده سكان المدينة. فهكذا ودون سابق إنذارٍ، قد تمطر السماء بالقذائف والصواريخ، وبمجرد أن يتوقف القصف، تكتظّ الشوارع بالمارة، ويعود الحلبيون إلى نشاطهم وكأن شيئًا لم يكن.
في ساعة متأخرة من الليل، ينشغل المراسل الحربي سومر حاتم، المقيم في فندق بولمان الشهباء بمدينة حلب، بإعداد تقاريره الخبرية. تصل إلى مسمعه أصوات موسيقى قريبة. يطل من نافذة غرفته ليشاهد عرسًا على سطح أحد المنازل القريبة. مدهشة هي حلب، توقظك في الصباح على صوت المعارك، وتزعجك في الظهيرة بصوت سيارات الإسعاف التي تجوب المدينة بعد يوم دامٍ مثلًا سقطت فيه عشرات قذائف الهاون على المدنيين، لتعود وتطربك في الليل بأصوات الغناء والموسيقى.
يشرح حاتم، وهو أصلًا من اللاذقية: «في كل مرة أزور فيها حلب يغالبني الفضول لأعرف كيف تنعكس التطورات العسكرية والأمنية على حياة المدنيين في المدينة. لديَّ رغبة كبيرة في تصوير يومياتهم لأنقلها إلى خارج المدينة. هذا جزء من عملي الصحافي. هل تصدقون مثلًا أن أسعار بعض المواد هنا كالألبسة أقل عن مثيلاتها في باقي المدن، بالرغم من كل الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها؟ هل تصدقون أن هناك حفلات وأعراسًا ومقاهي ومطاعم في حلب؟ أحلى ما في حلب هو إصرار أبنائها على المقاومة برغم كل جراحهم، هنا في حلب مدرسة لتعلم ثقافة الحياة».
حضارة حلب في مهب الريح
تقع مدينة حلب شمال غربي سورية على بعد 310 كم من العاصمة دمشق، وتعد إحدى أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، فهي مأهولة منذ ما لا يقل عن أربعة آلاف عامٍ. ونظرًا للأهمية التاريخية والعمرانية التي تتمتع بها المدينة، اعتبرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، مدينة تاريخية لاحتوائها على تراثٍ إنساني عظيم يجب حمايته. فحلب موطن أكثر من 150 أثرًا مهمًّا، تمثل مختلف الحضارات الإنسانية والعصور. لكن دخلت حلب على خط المواجهات العسكرية وتحديدًا في نهاية شهر تموز/ يوليو من العام 2012. واشتدت حدة المعارك المسلحة في قلب المدينة القديمة، ووصلت إلى أسوار المدينة القديمة. وفي أيلول/ سبتمبر 2012، أدت الاشتباكات إلى اندلاع حريق كبير دمر سوق المدينة القديم بالكامل وفي نيسان/ أبريل 2013، هُدمت مئذنة الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
ذكريات سكان غائبين
اليوم، هناك عدد قليل من السكان في حلب القديمة الذين رفضوا مغادرة منازلهم. فالمنطقة تعتبر خط تماس بين حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة وبين حلب الغربية التي تسيطر عليها الحكومة السورية. احذر، وأنت تمشي بين محلاتها المغلقة وبيوتها العتيقة، أن تتعثر بذكريات سكانها الغائبين. يبدو المكان وكأنَّ الزمان قد توقف هنا منذ سنوات ولم يتبقَّ منه سوى بقايا البضائع والأقمشة في ورشات الحياكة ومحلات الملابس والستائر التي اشتهرت بها حلب. سترى مثلًا بعض الملابس المعلقة على الحبال، إذ لم يتسنَّ لأصحابها جمعها قبل أن يهجروا مساكنهم أو يقضوا نحبهم في المعارك.
في حارة بحسيتا بمنطقة حلب القديمة، رفض الخياط زكريا موصلي (45 عامًا) هجر منزله الذي يقطنه مع عائلته. فقد أصرَّ على الاستمرار في عمله بالرغم من خطورة التنقل من وإلى داخل الحي بسبب القذائف أو رصاص القناصة الذي يمكن أن يصيبه وهو يمر بين المناطق والنقاط العسكرية لإحضار القماش وأدوات الخياطة. يتحدث موصلي وهو منكبٌّ على آلته يخيط القماش: «أنا الخياط الوحيد في حلب القديمة»، ويضيف: «لديَّ زبائن أوفياء يأتون من داخل حلب، بالإضافة لجنود ولضباط الثكنات القريبة من هنا». يتخذُ زكريَّا من غرفة في بيت مهجور- يملؤها الغبار وبقايا الأقمشة وبكرات الخيطان- ورشةً صغيرة يواصل فيها عمله: «هنا منزلي، وهنا عملي، وهنا كل ذكرياتي. لم أخرج بالرغم من خطورة المكان، ولست نادمًا على قراري».
يعاني الحلبيون ككل السوريين من الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الحرب، إلا أنهم يحاولون التكيُّف مع هذا الوضع القاسي. ففي حديقة السبيل الواقعة شمال مركز المدينة على سبيل المثال، تفترش عشرات العائلات المهجَّرة العشب متخذةً من الخيام والأثاث البسيط المقدم كمساعدات من منظمات الإغاثة مساكن لهم، إلى جانب العديد من الزوار الذين يجدون في الحديقة بعض التسلية التي قد تنسيهم بعض همومهم. تحكي حنان (30 عامًا)، وهي من سكان حي السبيل وزوَّار الحديقة: «مرَّت علينا أيام صعبة جدًّا هنا في حلب، أحيانًا يسقط الكثير من القذائف بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية، لكنني أخرج للتنزه هنا مع أبنائي هربًا من الكهرباء المقطوعة وبحثًا عن بعض الترفيه».
تشكل هذه الحديقة، التي يعرفها ويقصدها معظم سكان المنطقة، متنفسًا لهم، كما أنها مورد رزق لبعضهم الآخر، خاصة الوافدين من مناطق أخرى، إذ ينتشر الباعة والأطفال في أركان الحديقة إلى جانب بعض أصحاب المهن البسيطة. عمل محمود علبة (47 عامًا)، حلاقًا لمدة 27 عامًا، إلا أن الحرب أجبرته على هجر بيته في منطقة مساكن هنانو بريف حلب الشمالي. بانتظار الزبائن يقف أبو أحمد، كما يحب أن ينادوه، إلى جانب مقعد في الحديقة بالقرب من صندوقه الأسود الذي يحمل فيه أدواته البسيطة والفقيرة. «عندما هربت من مساكن هنانو، جئت إلى حلب، وكان عليَّ أن أجد عملًا أعيش منه أنا وعائلتي، لكنني لا أعرف سوى المهنة التي عملت بها طوال حياتي وهي الحلاقة». لم يكن الأمر سهلًا على الرجل أن يمارس مهنته هكذا في فضاء مفتوح، بعد أن كان يمارس مهنته في دكانه: «كان الأمر صعبًا في البداية ومحرجًا جدًّا. لكن اليوم اعتدت الأمر وصار لديَّ زبائني الذين يعرفونني ويقصدونني، لا أطمع بالكسب الكثير ويكفيني ما أستطيع سد رمق أطفالي به».
حلب أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث
في آب/ أغسطس الماضي، وصف بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، النزاع في حلب بأنه «بلا أدنى شك، أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث». لقد احتدم القتال في النصف الثاني من العام 2016، مخلفًا مئات القتلى وعددًا لا يحصى من الجرحى، فضلًا عن تعطل جميع الخدمات العامة تقريبًا، وكذلك الحصار المضروب على عشرات الآلاف من السكان. وأدى القصف النيراني المستمر إلى تدمير منازل ومدارس ومستشفيات، وأجبر عشرات الآلاف من السكان على الفرار من ديارهم، واضطرت كثرة غيرهم إلى مغادرة الملاجئ المؤقتة التي كانوا يعيشون فيها. ولحقت أضرار هائلة بالبنية التحتية للمدينة. ومع قطع الإمداد بالمياه والكهرباء أو خفضه بشدة، يصبح السكان مهددين بالخطر من استخدام مياه غير معالجة وغير آمنة. يعيش السكان في حالة فزع. ويعاني الأطفال من الصدمة. وحجم المعاناة رهيب. لقد ظل سكان حلب يعانون الأمرين لمدة أربع سنوات بسبب هذه الحرب الضروس، ولا يزداد الأمر إلا سوءًا.
أزمة اقتصادية
مطلع العام 2016، قال البنك الدولي إن التكلفة الاقتصادية للحرب في سورية وانعكاساتها على دول المنطقة بلغت نحو 35 مليار دولار، وأن مدينة حلب السورية، هي الأكثر تضررًا جراء الحرب من بين 6 مدن أخرى، إذ بلغت نسبة التدمير فيها نحو 40 بالمائة. وبحسب رئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابيِّ فإن «ألف معمل في منطقة الليرمون الصناعية منهوبة بالكامل، بلا أي آلات أو خطوط إنتاج»، مقدرًا الخسائر الاقتصادية في المنطقة بـ 10 ملايين دولار للمعمل الواحد تقريبًا. كما ذكر أنَّ عدد العمال في كل معمل يصل إلى نحو 100 عامل، أضحوا بلا عمل منذ تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2012، بعد توقف معظم معامل الريف الشمالي.
حجم الدمار الكبير جعل من العسير منح تعويضات مناسبة للمتضررين، لكن العديد من تجار وصناع حلب نقلوا بعض الآلات الصغيرة واستثمروها في ورش صغيرة للصناعات النسيجية. بالطبع لا يمكن لتلك الورش أن تعوضهم عما خسروه لكنها على الأقل تؤمن حاجة أسواق المدينة. بعد ست سنوات من القتال تنتظر حلب انتهاء هذه الحرب بفارغ الصبر لتنفض غبار ركامها وترمم ما تبقى من حضارتها النازفة، لعلَّ الروح التي رفضت الاحتراق والموت طيلة تلك السنوات تعود إلى الحياة يومًا ما ليس بالبعيد كما يأمل أهلها الباقون.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».
يشرح حاتم، وهو أصلًا من اللاذقية: «في كل مرة أزور فيها حلب يغالبني الفضول لأعرف كيف تنعكس التطورات العسكرية والأمنية على حياة المدنيين في المدينة. لديَّ رغبة كبيرة في تصوير يومياتهم لأنقلها إلى خارج المدينة. هذا جزء من عملي الصحافي. هل تصدقون مثلًا أن أسعار بعض المواد هنا كالألبسة أقل عن مثيلاتها في باقي المدن، بالرغم من كل الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها؟ هل تصدقون أن هناك حفلات وأعراسًا ومقاهي ومطاعم في حلب؟ أحلى ما في حلب هو إصرار أبنائها على المقاومة برغم كل جراحهم، هنا في حلب مدرسة لتعلم ثقافة الحياة».
حضارة حلب في مهب الريح
تقع مدينة حلب شمال غربي سورية على بعد 310 كم من العاصمة دمشق، وتعد إحدى أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، فهي مأهولة منذ ما لا يقل عن أربعة آلاف عامٍ. ونظرًا للأهمية التاريخية والعمرانية التي تتمتع بها المدينة، اعتبرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، مدينة تاريخية لاحتوائها على تراثٍ إنساني عظيم يجب حمايته. فحلب موطن أكثر من 150 أثرًا مهمًّا، تمثل مختلف الحضارات الإنسانية والعصور. لكن دخلت حلب على خط المواجهات العسكرية وتحديدًا في نهاية شهر تموز/ يوليو من العام 2012. واشتدت حدة المعارك المسلحة في قلب المدينة القديمة، ووصلت إلى أسوار المدينة القديمة. وفي أيلول/ سبتمبر 2012، أدت الاشتباكات إلى اندلاع حريق كبير دمر سوق المدينة القديم بالكامل وفي نيسان/ أبريل 2013، هُدمت مئذنة الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
ذكريات سكان غائبين
اليوم، هناك عدد قليل من السكان في حلب القديمة الذين رفضوا مغادرة منازلهم. فالمنطقة تعتبر خط تماس بين حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة وبين حلب الغربية التي تسيطر عليها الحكومة السورية. احذر، وأنت تمشي بين محلاتها المغلقة وبيوتها العتيقة، أن تتعثر بذكريات سكانها الغائبين. يبدو المكان وكأنَّ الزمان قد توقف هنا منذ سنوات ولم يتبقَّ منه سوى بقايا البضائع والأقمشة في ورشات الحياكة ومحلات الملابس والستائر التي اشتهرت بها حلب. سترى مثلًا بعض الملابس المعلقة على الحبال، إذ لم يتسنَّ لأصحابها جمعها قبل أن يهجروا مساكنهم أو يقضوا نحبهم في المعارك.
في حارة بحسيتا بمنطقة حلب القديمة، رفض الخياط زكريا موصلي (45 عامًا) هجر منزله الذي يقطنه مع عائلته. فقد أصرَّ على الاستمرار في عمله بالرغم من خطورة التنقل من وإلى داخل الحي بسبب القذائف أو رصاص القناصة الذي يمكن أن يصيبه وهو يمر بين المناطق والنقاط العسكرية لإحضار القماش وأدوات الخياطة. يتحدث موصلي وهو منكبٌّ على آلته يخيط القماش: «أنا الخياط الوحيد في حلب القديمة»، ويضيف: «لديَّ زبائن أوفياء يأتون من داخل حلب، بالإضافة لجنود ولضباط الثكنات القريبة من هنا». يتخذُ زكريَّا من غرفة في بيت مهجور- يملؤها الغبار وبقايا الأقمشة وبكرات الخيطان- ورشةً صغيرة يواصل فيها عمله: «هنا منزلي، وهنا عملي، وهنا كل ذكرياتي. لم أخرج بالرغم من خطورة المكان، ولست نادمًا على قراري».
يعاني الحلبيون ككل السوريين من الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الحرب، إلا أنهم يحاولون التكيُّف مع هذا الوضع القاسي. ففي حديقة السبيل الواقعة شمال مركز المدينة على سبيل المثال، تفترش عشرات العائلات المهجَّرة العشب متخذةً من الخيام والأثاث البسيط المقدم كمساعدات من منظمات الإغاثة مساكن لهم، إلى جانب العديد من الزوار الذين يجدون في الحديقة بعض التسلية التي قد تنسيهم بعض همومهم. تحكي حنان (30 عامًا)، وهي من سكان حي السبيل وزوَّار الحديقة: «مرَّت علينا أيام صعبة جدًّا هنا في حلب، أحيانًا يسقط الكثير من القذائف بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية، لكنني أخرج للتنزه هنا مع أبنائي هربًا من الكهرباء المقطوعة وبحثًا عن بعض الترفيه».
تشكل هذه الحديقة، التي يعرفها ويقصدها معظم سكان المنطقة، متنفسًا لهم، كما أنها مورد رزق لبعضهم الآخر، خاصة الوافدين من مناطق أخرى، إذ ينتشر الباعة والأطفال في أركان الحديقة إلى جانب بعض أصحاب المهن البسيطة. عمل محمود علبة (47 عامًا)، حلاقًا لمدة 27 عامًا، إلا أن الحرب أجبرته على هجر بيته في منطقة مساكن هنانو بريف حلب الشمالي. بانتظار الزبائن يقف أبو أحمد، كما يحب أن ينادوه، إلى جانب مقعد في الحديقة بالقرب من صندوقه الأسود الذي يحمل فيه أدواته البسيطة والفقيرة. «عندما هربت من مساكن هنانو، جئت إلى حلب، وكان عليَّ أن أجد عملًا أعيش منه أنا وعائلتي، لكنني لا أعرف سوى المهنة التي عملت بها طوال حياتي وهي الحلاقة». لم يكن الأمر سهلًا على الرجل أن يمارس مهنته هكذا في فضاء مفتوح، بعد أن كان يمارس مهنته في دكانه: «كان الأمر صعبًا في البداية ومحرجًا جدًّا. لكن اليوم اعتدت الأمر وصار لديَّ زبائني الذين يعرفونني ويقصدونني، لا أطمع بالكسب الكثير ويكفيني ما أستطيع سد رمق أطفالي به».
حلب أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث
في آب/ أغسطس الماضي، وصف بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، النزاع في حلب بأنه «بلا أدنى شك، أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث». لقد احتدم القتال في النصف الثاني من العام 2016، مخلفًا مئات القتلى وعددًا لا يحصى من الجرحى، فضلًا عن تعطل جميع الخدمات العامة تقريبًا، وكذلك الحصار المضروب على عشرات الآلاف من السكان. وأدى القصف النيراني المستمر إلى تدمير منازل ومدارس ومستشفيات، وأجبر عشرات الآلاف من السكان على الفرار من ديارهم، واضطرت كثرة غيرهم إلى مغادرة الملاجئ المؤقتة التي كانوا يعيشون فيها. ولحقت أضرار هائلة بالبنية التحتية للمدينة. ومع قطع الإمداد بالمياه والكهرباء أو خفضه بشدة، يصبح السكان مهددين بالخطر من استخدام مياه غير معالجة وغير آمنة. يعيش السكان في حالة فزع. ويعاني الأطفال من الصدمة. وحجم المعاناة رهيب. لقد ظل سكان حلب يعانون الأمرين لمدة أربع سنوات بسبب هذه الحرب الضروس، ولا يزداد الأمر إلا سوءًا.
أزمة اقتصادية
مطلع العام 2016، قال البنك الدولي إن التكلفة الاقتصادية للحرب في سورية وانعكاساتها على دول المنطقة بلغت نحو 35 مليار دولار، وأن مدينة حلب السورية، هي الأكثر تضررًا جراء الحرب من بين 6 مدن أخرى، إذ بلغت نسبة التدمير فيها نحو 40 بالمائة. وبحسب رئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابيِّ فإن «ألف معمل في منطقة الليرمون الصناعية منهوبة بالكامل، بلا أي آلات أو خطوط إنتاج»، مقدرًا الخسائر الاقتصادية في المنطقة بـ 10 ملايين دولار للمعمل الواحد تقريبًا. كما ذكر أنَّ عدد العمال في كل معمل يصل إلى نحو 100 عامل، أضحوا بلا عمل منذ تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2012، بعد توقف معظم معامل الريف الشمالي.
حجم الدمار الكبير جعل من العسير منح تعويضات مناسبة للمتضررين، لكن العديد من تجار وصناع حلب نقلوا بعض الآلات الصغيرة واستثمروها في ورش صغيرة للصناعات النسيجية. بالطبع لا يمكن لتلك الورش أن تعوضهم عما خسروه لكنها على الأقل تؤمن حاجة أسواق المدينة. بعد ست سنوات من القتال تنتظر حلب انتهاء هذه الحرب بفارغ الصبر لتنفض غبار ركامها وترمم ما تبقى من حضارتها النازفة، لعلَّ الروح التي رفضت الاحتراق والموت طيلة تلك السنوات تعود إلى الحياة يومًا ما ليس بالبعيد كما يأمل أهلها الباقون.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».
حضارة حلب في مهب الريح
تقع مدينة حلب شمال غربي سورية على بعد 310 كم من العاصمة دمشق، وتعد إحدى أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، فهي مأهولة منذ ما لا يقل عن أربعة آلاف عامٍ. ونظرًا للأهمية التاريخية والعمرانية التي تتمتع بها المدينة، اعتبرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، مدينة تاريخية لاحتوائها على تراثٍ إنساني عظيم يجب حمايته. فحلب موطن أكثر من 150 أثرًا مهمًّا، تمثل مختلف الحضارات الإنسانية والعصور. لكن دخلت حلب على خط المواجهات العسكرية وتحديدًا في نهاية شهر تموز/ يوليو من العام 2012. واشتدت حدة المعارك المسلحة في قلب المدينة القديمة، ووصلت إلى أسوار المدينة القديمة. وفي أيلول/ سبتمبر 2012، أدت الاشتباكات إلى اندلاع حريق كبير دمر سوق المدينة القديم بالكامل وفي نيسان/ أبريل 2013، هُدمت مئذنة الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
اليوم، هناك عدد قليل من السكان في حلب القديمة الذين رفضوا مغادرة منازلهم. فالمنطقة تعتبر خط تماس بين حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة وبين حلب الغربية التي تسيطر عليها الحكومة السورية. احذر، وأنت تمشي بين محلاتها المغلقة وبيوتها العتيقة، أن تتعثر بذكريات سكانها الغائبين. يبدو المكان وكأنَّ الزمان قد توقف هنا منذ سنوات ولم يتبقَّ منه سوى بقايا البضائع والأقمشة في ورشات الحياكة ومحلات الملابس والستائر التي اشتهرت بها حلب. سترى مثلًا بعض الملابس المعلقة على الحبال، إذ لم يتسنَّ لأصحابها جمعها قبل أن يهجروا مساكنهم أو يقضوا نحبهم في المعارك.
في حارة بحسيتا بمنطقة حلب القديمة، رفض الخياط زكريا موصلي (45 عامًا) هجر منزله الذي يقطنه مع عائلته. فقد أصرَّ على الاستمرار في عمله بالرغم من خطورة التنقل من وإلى داخل الحي بسبب القذائف أو رصاص القناصة الذي يمكن أن يصيبه وهو يمر بين المناطق والنقاط العسكرية لإحضار القماش وأدوات الخياطة. يتحدث موصلي وهو منكبٌّ على آلته يخيط القماش: «أنا الخياط الوحيد في حلب القديمة»، ويضيف: «لديَّ زبائن أوفياء يأتون من داخل حلب، بالإضافة لجنود ولضباط الثكنات القريبة من هنا». يتخذُ زكريَّا من غرفة في بيت مهجور- يملؤها الغبار وبقايا الأقمشة وبكرات الخيطان- ورشةً صغيرة يواصل فيها عمله: «هنا منزلي، وهنا عملي، وهنا كل ذكرياتي. لم أخرج بالرغم من خطورة المكان، ولست نادمًا على قراري».
يعاني الحلبيون ككل السوريين من الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الحرب، إلا أنهم يحاولون التكيُّف مع هذا الوضع القاسي. ففي حديقة السبيل الواقعة شمال مركز المدينة على سبيل المثال، تفترش عشرات العائلات المهجَّرة العشب متخذةً من الخيام والأثاث البسيط المقدم كمساعدات من منظمات الإغاثة مساكن لهم، إلى جانب العديد من الزوار الذين يجدون في الحديقة بعض التسلية التي قد تنسيهم بعض همومهم. تحكي حنان (30 عامًا)، وهي من سكان حي السبيل وزوَّار الحديقة: «مرَّت علينا أيام صعبة جدًّا هنا في حلب، أحيانًا يسقط الكثير من القذائف بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية، لكنني أخرج للتنزه هنا مع أبنائي هربًا من الكهرباء المقطوعة وبحثًا عن بعض الترفيه».
تشكل هذه الحديقة، التي يعرفها ويقصدها معظم سكان المنطقة، متنفسًا لهم، كما أنها مورد رزق لبعضهم الآخر، خاصة الوافدين من مناطق أخرى، إذ ينتشر الباعة والأطفال في أركان الحديقة إلى جانب بعض أصحاب المهن البسيطة. عمل محمود علبة (47 عامًا)، حلاقًا لمدة 27 عامًا، إلا أن الحرب أجبرته على هجر بيته في منطقة مساكن هنانو بريف حلب الشمالي. بانتظار الزبائن يقف أبو أحمد، كما يحب أن ينادوه، إلى جانب مقعد في الحديقة بالقرب من صندوقه الأسود الذي يحمل فيه أدواته البسيطة والفقيرة. «عندما هربت من مساكن هنانو، جئت إلى حلب، وكان عليَّ أن أجد عملًا أعيش منه أنا وعائلتي، لكنني لا أعرف سوى المهنة التي عملت بها طوال حياتي وهي الحلاقة». لم يكن الأمر سهلًا على الرجل أن يمارس مهنته هكذا في فضاء مفتوح، بعد أن كان يمارس مهنته في دكانه: «كان الأمر صعبًا في البداية ومحرجًا جدًّا. لكن اليوم اعتدت الأمر وصار لديَّ زبائني الذين يعرفونني ويقصدونني، لا أطمع بالكسب الكثير ويكفيني ما أستطيع سد رمق أطفالي به».
حلب أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث
في آب/ أغسطس الماضي، وصف بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، النزاع في حلب بأنه «بلا أدنى شك، أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث». لقد احتدم القتال في النصف الثاني من العام 2016، مخلفًا مئات القتلى وعددًا لا يحصى من الجرحى، فضلًا عن تعطل جميع الخدمات العامة تقريبًا، وكذلك الحصار المضروب على عشرات الآلاف من السكان. وأدى القصف النيراني المستمر إلى تدمير منازل ومدارس ومستشفيات، وأجبر عشرات الآلاف من السكان على الفرار من ديارهم، واضطرت كثرة غيرهم إلى مغادرة الملاجئ المؤقتة التي كانوا يعيشون فيها. ولحقت أضرار هائلة بالبنية التحتية للمدينة. ومع قطع الإمداد بالمياه والكهرباء أو خفضه بشدة، يصبح السكان مهددين بالخطر من استخدام مياه غير معالجة وغير آمنة. يعيش السكان في حالة فزع. ويعاني الأطفال من الصدمة. وحجم المعاناة رهيب. لقد ظل سكان حلب يعانون الأمرين لمدة أربع سنوات بسبب هذه الحرب الضروس، ولا يزداد الأمر إلا سوءًا.
أزمة اقتصادية
مطلع العام 2016، قال البنك الدولي إن التكلفة الاقتصادية للحرب في سورية وانعكاساتها على دول المنطقة بلغت نحو 35 مليار دولار، وأن مدينة حلب السورية، هي الأكثر تضررًا جراء الحرب من بين 6 مدن أخرى، إذ بلغت نسبة التدمير فيها نحو 40 بالمائة. وبحسب رئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابيِّ فإن «ألف معمل في منطقة الليرمون الصناعية منهوبة بالكامل، بلا أي آلات أو خطوط إنتاج»، مقدرًا الخسائر الاقتصادية في المنطقة بـ 10 ملايين دولار للمعمل الواحد تقريبًا. كما ذكر أنَّ عدد العمال في كل معمل يصل إلى نحو 100 عامل، أضحوا بلا عمل منذ تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2012، بعد توقف معظم معامل الريف الشمالي.
حجم الدمار الكبير جعل من العسير منح تعويضات مناسبة للمتضررين، لكن العديد من تجار وصناع حلب نقلوا بعض الآلات الصغيرة واستثمروها في ورش صغيرة للصناعات النسيجية. بالطبع لا يمكن لتلك الورش أن تعوضهم عما خسروه لكنها على الأقل تؤمن حاجة أسواق المدينة. بعد ست سنوات من القتال تنتظر حلب انتهاء هذه الحرب بفارغ الصبر لتنفض غبار ركامها وترمم ما تبقى من حضارتها النازفة، لعلَّ الروح التي رفضت الاحتراق والموت طيلة تلك السنوات تعود إلى الحياة يومًا ما ليس بالبعيد كما يأمل أهلها الباقون.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».
يعاني الحلبيون ككل السوريين من الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الحرب، إلا أنهم يحاولون التكيُّف مع هذا الوضع القاسي. ففي حديقة السبيل الواقعة شمال مركز المدينة على سبيل المثال، تفترش عشرات العائلات المهجَّرة العشب متخذةً من الخيام والأثاث البسيط المقدم كمساعدات من منظمات الإغاثة مساكن لهم، إلى جانب العديد من الزوار الذين يجدون في الحديقة بعض التسلية التي قد تنسيهم بعض همومهم. تحكي حنان (30 عامًا)، وهي من سكان حي السبيل وزوَّار الحديقة: «مرَّت علينا أيام صعبة جدًّا هنا في حلب، أحيانًا يسقط الكثير من القذائف بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية، لكنني أخرج للتنزه هنا مع أبنائي هربًا من الكهرباء المقطوعة وبحثًا عن بعض الترفيه».
تشكل هذه الحديقة، التي يعرفها ويقصدها معظم سكان المنطقة، متنفسًا لهم، كما أنها مورد رزق لبعضهم الآخر، خاصة الوافدين من مناطق أخرى، إذ ينتشر الباعة والأطفال في أركان الحديقة إلى جانب بعض أصحاب المهن البسيطة. عمل محمود علبة (47 عامًا)، حلاقًا لمدة 27 عامًا، إلا أن الحرب أجبرته على هجر بيته في منطقة مساكن هنانو بريف حلب الشمالي. بانتظار الزبائن يقف أبو أحمد، كما يحب أن ينادوه، إلى جانب مقعد في الحديقة بالقرب من صندوقه الأسود الذي يحمل فيه أدواته البسيطة والفقيرة. «عندما هربت من مساكن هنانو، جئت إلى حلب، وكان عليَّ أن أجد عملًا أعيش منه أنا وعائلتي، لكنني لا أعرف سوى المهنة التي عملت بها طوال حياتي وهي الحلاقة». لم يكن الأمر سهلًا على الرجل أن يمارس مهنته هكذا في فضاء مفتوح، بعد أن كان يمارس مهنته في دكانه: «كان الأمر صعبًا في البداية ومحرجًا جدًّا. لكن اليوم اعتدت الأمر وصار لديَّ زبائني الذين يعرفونني ويقصدونني، لا أطمع بالكسب الكثير ويكفيني ما أستطيع سد رمق أطفالي به».
حلب أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث
في آب/ أغسطس الماضي، وصف بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، النزاع في حلب بأنه «بلا أدنى شك، أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث». لقد احتدم القتال في النصف الثاني من العام 2016، مخلفًا مئات القتلى وعددًا لا يحصى من الجرحى، فضلًا عن تعطل جميع الخدمات العامة تقريبًا، وكذلك الحصار المضروب على عشرات الآلاف من السكان. وأدى القصف النيراني المستمر إلى تدمير منازل ومدارس ومستشفيات، وأجبر عشرات الآلاف من السكان على الفرار من ديارهم، واضطرت كثرة غيرهم إلى مغادرة الملاجئ المؤقتة التي كانوا يعيشون فيها. ولحقت أضرار هائلة بالبنية التحتية للمدينة. ومع قطع الإمداد بالمياه والكهرباء أو خفضه بشدة، يصبح السكان مهددين بالخطر من استخدام مياه غير معالجة وغير آمنة. يعيش السكان في حالة فزع. ويعاني الأطفال من الصدمة. وحجم المعاناة رهيب. لقد ظل سكان حلب يعانون الأمرين لمدة أربع سنوات بسبب هذه الحرب الضروس، ولا يزداد الأمر إلا سوءًا.
أزمة اقتصادية
مطلع العام 2016، قال البنك الدولي إن التكلفة الاقتصادية للحرب في سورية وانعكاساتها على دول المنطقة بلغت نحو 35 مليار دولار، وأن مدينة حلب السورية، هي الأكثر تضررًا جراء الحرب من بين 6 مدن أخرى، إذ بلغت نسبة التدمير فيها نحو 40 بالمائة. وبحسب رئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابيِّ فإن «ألف معمل في منطقة الليرمون الصناعية منهوبة بالكامل، بلا أي آلات أو خطوط إنتاج»، مقدرًا الخسائر الاقتصادية في المنطقة بـ 10 ملايين دولار للمعمل الواحد تقريبًا. كما ذكر أنَّ عدد العمال في كل معمل يصل إلى نحو 100 عامل، أضحوا بلا عمل منذ تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2012، بعد توقف معظم معامل الريف الشمالي.
حجم الدمار الكبير جعل من العسير منح تعويضات مناسبة للمتضررين، لكن العديد من تجار وصناع حلب نقلوا بعض الآلات الصغيرة واستثمروها في ورش صغيرة للصناعات النسيجية. بالطبع لا يمكن لتلك الورش أن تعوضهم عما خسروه لكنها على الأقل تؤمن حاجة أسواق المدينة. بعد ست سنوات من القتال تنتظر حلب انتهاء هذه الحرب بفارغ الصبر لتنفض غبار ركامها وترمم ما تبقى من حضارتها النازفة، لعلَّ الروح التي رفضت الاحتراق والموت طيلة تلك السنوات تعود إلى الحياة يومًا ما ليس بالبعيد كما يأمل أهلها الباقون.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».
حلب أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث
في آب/ أغسطس الماضي، وصف بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، النزاع في حلب بأنه «بلا أدنى شك، أشد النزاعات الحضرية تدميرًا في العصر الحديث». لقد احتدم القتال في النصف الثاني من العام 2016، مخلفًا مئات القتلى وعددًا لا يحصى من الجرحى، فضلًا عن تعطل جميع الخدمات العامة تقريبًا، وكذلك الحصار المضروب على عشرات الآلاف من السكان. وأدى القصف النيراني المستمر إلى تدمير منازل ومدارس ومستشفيات، وأجبر عشرات الآلاف من السكان على الفرار من ديارهم، واضطرت كثرة غيرهم إلى مغادرة الملاجئ المؤقتة التي كانوا يعيشون فيها. ولحقت أضرار هائلة بالبنية التحتية للمدينة. ومع قطع الإمداد بالمياه والكهرباء أو خفضه بشدة، يصبح السكان مهددين بالخطر من استخدام مياه غير معالجة وغير آمنة. يعيش السكان في حالة فزع. ويعاني الأطفال من الصدمة. وحجم المعاناة رهيب. لقد ظل سكان حلب يعانون الأمرين لمدة أربع سنوات بسبب هذه الحرب الضروس، ولا يزداد الأمر إلا سوءًا.
Comments