الناس والحرب: مبادرة إنسانية لإسماع صوت من لا صوت لهم

قانون الحرب
محمد سيف- صحافي مصري وأحد مؤسسي مجلة الإنساني

شهدت نهاية عام 1998 ميلاد مبادرة جديدة على اتساع العالم لشن حملة إنسانية فريدة من نوعها، تقوم فيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر باستطلاع، غير مسبوق في التاريخ، لآراء ضحايا الحروب أنفسهم، فيما جرى ويجري من صراعات وانتهاكات نُكبت بها مصائرهم ومجتمعاتهم، مفسحة بذلك المجال، لأول مرة، لإسماع صوت من لا صوت لهم، وفتح باب الحوار حول الحدود التي شرعها القانون الدولي الإنساني لأبعاد الحرب، ومدى فعالية القواعد والتشريعات المتفق عليها من قِبَل المجتمع الدولي في هذا الشأن. وتجيء هذه المبادرة، التي تتواصل الجهود لاستطلاع الآراء فيها إلى نوفمبر من عام 1999، بمناسبة الذكرى الخمسين لتوقيع اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، كتعبير عن وقفة ضرورية لجرد حصاد السنوات الخمسين التي مرت على توقيع هذه المعاهدات، فضلًا عن كونها أيضًا وقفة لجرد حصاد القرن العشرين من زاوية مبادئ القانون الدولي الإنساني، إذ تصادف ذكرى مرور خمسين عامًا على العمل باتفاقيات جنيف نهاية العد التنازلي لنهاية هذا القرن وقدوم الألفية الثالثة.

قرن الحرب

والقرن العشرون، الذي بدأ في سراييفو وينتهي في سراييفو، كما يصور بعض الكتاب، قرن توافرت له كل المقومات التي ترشحه بجدارة لأن ينال لقب “قرن الحرب”، فقد وُلد في ظل قعقعة السلاح التي تمثلت في حروب البلقان والبوير، ثم سرعان ما اشتعلت به الحرب العالمية الأولى، ونزاعات شبه القارة الهندية، والصين، والحرب الأهلية الإسبانية ثم الحرب العالمية الثانية كمحطات رئيسية للصراعات المسلحة، كما شهد هذا القرن اختراع الأسلحة الكيميائية والنووية واستخدامها، وتطورت به الأسلحة التقليدية من المدفعية الكلاسيكية إلى الصواريخ الذكية والطائرات التي تعمل بأحدث وسائل تكنولوجيا التدمير الحديثة والغواصات النووية، وهو القرن الذي سقط به عدد قياسي من الضحايا، خصوصًا بين المدنيين، وشهد انتشار الدول القومية وتعميم نموذجها على الصعيد العالمي، ثم انتقل هو ذاته لحال مغايرة، تميزت بتآكل دور الدولة كأداة رئيسية للحكم وإعمال النظام، وطفرت فيه على الساحة قوى جديدة وكيانات قومية وعبر قومية تشارك عمليًا في اقتسام السلطة والقوة، وتشن من جانبها الحروب وتثير الصراعات التي أضحت تنهش كل القارات، في ظل توحيد للسوق العالمية لم يأت بتعميم للرخاء على مستوى العالم بقدر ما عمل على توسيع دائرة اللامساواة في البؤس، حسب ما جاء في أحد مواضيع هذا العدد. وهو على الرغم من كونه قرن الانفتاح الثقافي والاتصالي الذي لم يسبق له مثيل من خلال انتشار الوسائط الحديثة، مثلت فيه الصراعات القومية والطائفية والعرقية الدائرة تحديًا كبيرًا للقوانين والأعراف الدولية، بل وللقيم الأخلاقية، راح يحاصر العمل الإنساني ويضيق عليه الخناق، رغم اضطلاع هذا العمل في عالم اليوم بدور لا ينفك يزداد تعاظمًا بفعل انتشار النزاعات المسلحة.

الإصغاء لما يقوله الناس

وتصور التحقيقات التليفزيونية يوميًا مذابح وعمليات قتل فعلية لحروب حقيقية وحية يشهدها عالمنا اليوم بدون أن تشير إلى إطارها البالغ التعقيد أو إلى الدوافع المتداخلة والمتشابكة التي أشعلت فتيلها. وفي ظل تلك النزاعات المسلحة المشتعلة، تحول الرجال والنساء إلى رموز خرساء بكماء للآلام والمعاناة أو إلى أشياء شكلتها الهمجية والبربرية بلا وجه أو ملامح. وفي ظل هذه الأوضاع، يتنامى بين الجماهير بوجه عام اعتقاد بأن “الحرب هذا حالها”، وهو اعتقاد مفرط في التبسيط والسطحية، يقودهم إلى أن يروا في العنف أمرًا محتومًا، وفي الأعمال الوحشية الشرسة أمرًا يتعذر اجتنابه، ليخلصوا في النهاية إلى أن جزءًا من البشرية قد وُلد مقضيًا عليه بأن يكون إما قاتلًا أو ضحية للألم والمعاناة، بينما يحيا الباقون في أمان.

وتنطلق فلسفة هذه الحملة من واقع أن تعبير الضحايا عن أنفسهم هو أساس العمل الإنساني، وأن هناك شراكة حقيقية تجمع بين العاملين في هذا المجال وبين الضحايا، كونهم محاصرين معًا بالأوضاع القاسية والمعقدة للانتهاكات، لذا فهدف حملة “الناس والحرب” هو الإصغاء لأولئك الذين لا صوت لهم، إضافةً إلى أن الأولوية القصوى للعمل الإنساني ولمواثيق اتفاقيات جنيف تتمثل في ضرورة معاملة الضحايا كأفراد، لهم آمالهم وكرامتهم، فضلًا عن حقهم في رسم صورة مستقبلهم وتحديده بأنفسهم. ولا شك أن إعطاء الكلمة لآلاف من المدنيين والمقاتلين بحيث يصبح صوتهم مسموعًا، سيتيح المجال لإجراء تقييم أكثر دقة وتفصيلًا لحقيقة ما يجري وما هو مهم أساسًا في مجتمع تعيث فيه الحرب هلاكًا وتدميرًا.

والواقع أن هذا النهج ليس مجرد طريقة للتهويل من المأساة التي يعيشها الإنسان ويعاني ويلاتها من جراء الحرب. فمع الالتزام بما يرد على لسان الناس من سرد للتجارب أو تعبير عن الآراء حول الحرب والقواعد التي تحكمها واحترام أقوالهم، سوف تسفر أعمال البحث الكمي والكيفي، التي تم الإعداد لها ولصياغتها بدقة وعناية، عن سجل كامل يحتوي على محصلة غير مسبوقة وصائبة وموثوق بها. ولن تقتصر فائدة هذا السجل على المؤرخين والخبراء القانونيين ومحترفي العمل الإنساني وكل الأفراد والمجموعات والمنظمات المعنية بالشؤون الإنسانية فحسب، بل وستعود بالفائدة والنفع أيضًا على تلك المجتمعات التي استقى منها هذا السجل مادته.

خمسون عامًا من الاتفاقات

خمسون عامًا من الانتهاكات

لقد مثلت نصوص اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 إسهامًا بارزًا في تحديد ملامح القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وتعبيرًا عن عزم الجماعة الدولية فرض ضوابط وقيود على استخدام العنف، بوضع قواعد تنظم الصراع وتحد من انتهاكات الحرب. ورغم تعهد المجتمع الدولي غداة الحرب بعدم تكرار ما حدث، وكذلك الجهود المتواصلة المبذولة للحد من العنف، وتسوية النزاعات، ومحاولات صنع السلام، لم تقترب البشرية من السلام العالمي المنشود، بل صارت أبعد ما تكون عنه. فلم يأت ما جرى خلال الخمسين عامًا الماضية تعبيرًا عن هذه الآمال، بقدر ما أسهم في تعقيد التناقض بين ما تطمح إليه الإنسانية في وضع حد للحروب، وبين ما يتبدى بوضوح من أن النزاعات المسلحة شر لا بد منه. وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، اندلاع أحد أبرز النزاعات المسلحة الساخنة التي جرت في أعقاب الحرب الكونية وتواصلت بعدها في ظل الحرب الباردة، وهو النزاع العربي الإسرائيلي، كما أن هذه المنطقة بالذات ظلت مسرحًا بارزًا لصراعات نصف قرن من الحرب الباردة، وكذلك صراعات ما بعد الحرب الباردة، ممثلة في حرب الخليج الثانية، الأمر الذي يمثل أهمية قصوى لسماع أصوات الضحايا فيها، جنبًا إلى جنب مع أصوات ضحايا الحروب في كلٍ من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يستوجب حشد جهود متخذي القرار، والقائمين على الجمعيات الإنسانية الوطنية، لاتخاذ موقف إيجابي من هذه المبادرة، بإفساح المجال للمتضررين مباشرةً من النزاعات المسلحة للتعبير عن أنفسهم.

مناسبة للعمل، لا للاحتفال

وفي رأي العاملين بالمجال الإنساني، أن الذكرى الخمسين لتوقيع اتفاقيات جنيف لا يجب إحياءها كمناسبة احتفالية فحسب، وإنما لا بد من تحين فرصتها على نحو يمهد السبيل لانطلاقة جديدة للعمل الإنساني، بعدما أصبح هذا العمل يتصدر واجهة المسرح مع نهاية الحرب الباردة وما تلاها من صراعات، وفي ظل نشوء أنواع جديدة من الانتهاكات تدعو إلى التفكير بقوة في ضرورة البحث عن سبل لتنشيط فعالية النصوص القانونية الموضوعة، وقراءة الوضع الراهن من خلال تحليل نقدي شامل يضع إصبعه على مفاصل الأزمة ويشير إلى الحلول التي يسهم في وضعها الجميع، ففي ظل أوضاع الصراعات الجديدة أصبحت الحرب أكثر وحشية وشراسة، سواء في مناهجها وأساليبها أو فيما تسفر عنه من عواقب وآثار. إذ تلاشت الأنماط التقليدية للصراعات النظامية، حتى ليتعذر الآن التمييز بين العمل الإنساني والعمل العسكري، وبين المقاتلين والمدنيين، أو حتى بين السلام والحرب، وتزعزعت بذلك أنماط العمل الإنساني وأساليبه ومناهجه المتبعة والمألوفة، مما يستوجب كل الجهود من أجل استنهاض روح المسؤولية لدى العالم أجمع، وإزاحة العقبات أمام العمل الإنساني بمشاركة الجميع من أجل الجميع.

كولومبيا… معالم المخاطرة وبشائر النجاح

وقد بدأت الحملة باستطلاع للآراء في كولومبيا في أكتوبر 1998، وهو الاستطلاع الذي جاءت نتيجته مبشرة بالآمال، نظرًا للتفاعل الكبير الذي أبداه الناس مع الحملة، فقد تدافع الجميع للحديث، ولا غرابة في ذلك، إذ أن الناس دائمًا ما يتأثرون حين يجدون من يأتيهم مبديًا اهتمامه بالاستماع إليهم، ومن البديهي أن يقبلوا عندئذٍ على تلبية طلبه فيسترسلون في أحاديث الحكي والبوح والتعبير عن الرأي، ثم يغادرونه وقد أزاحوا عن صدورهم الهم الثقيل، وحملوا معهم قدرًا من الأمل قد يعينهم في حياتهم اليومية. لقد حفل كلام الناس في كولومبيا بكل أساليب التعبير، من الحماس الجامح إلى المناقشات الساخنة، ومن التقييم الهادئ المتزن، إلى التحليل النقدي الذي لا تحكمه محظورات أو “مقدسات قانونية”، كأن يعلن أحدهم أن “اتفاقيات جنيف لا تفيد في شيء”، على حين يقول آخر في معرض تقييمه لها بأنها “تعطيه الأمل”، ويرى ثالث بأنها خطوة على طريق السلام.

لقد بدا من حديث الناس في كولومبيا أن القانون الدولي الإنساني يمثل لهم أملًا كبيرًا في الوقت الذي بدا فيه أن هناك الكثير مما يجب عمله لإعمال هذا القانون في أرض الواقع. وإذا كان نصف قرن من عمر اتفاقيات جنيف قد مكنها من أن تكون كيانًا له أهميته على صعيد المجتمع الدولي، فإن تفعيل دور هذا الكيان على كل الأصعدة أمر يظل دائمًا معلقًا على إسهام الجميع ومشاركة الجميع، فهذه النصوص القانونية لا تحيا سوى بإدراك الكل بأنها تمس حياتهم وأمنهم مباشرةً. وهو ما فطن إليه منظمو حملة “الناس والحرب”، وقبلوا المخاطرة بشن هذه الحملة، وجاء استطلاع كولومبيا بأول بشائر نجاحها.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا