الحرب وعالم «ما وراء الحقيقة»: ثلاثة دروس مستفادة من التاريخ

قانون الحرب

الحرب وعالم «ما وراء الحقيقة»: ثلاثة دروس مستفادة من التاريخ

في أحدث إصدار من المجلة الدولية للصليب الأحمر، أجال المُؤلِّفون النظر في القرْن الماضي، وما شهده من حروب من منظور إنساني، فقدَّموا رؤى كاشفة لدور وسائل الإعلام والأنباء في تشكيل الرأي العام. وهذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن تطوُّر الحرب.

اختارت معاجم أكسفورد تعبير «ما وراء الحقيقة» ليكون كلمة العام 2016. وقالت إن هذا الوصف الذي يُعرَّف بأنه «يرتبط أو يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، من استمالة العواطف ومحاولة التأثير على المعتقدات الشخصية»، كان هذا الوصف محل استخدام متزايد في عام 2016. وفي الأشهر الماضية، تردَّدت على الشفاه أيضًا مفاهيم مثل «أنباء كاذبة».

وعند تأمُّل تلك الشواغل والهموم، يجدر بنا العودة بالزمن إلى الوراء لنرى ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب الماضي. ويُسلِّط أحدث إصدار من المجلة الدولية للصليب الأحمر عن “تطوُّر الحرب“، الأضواء على المسألة من منظور مختلف. ونعرض فيما يلي الرؤى المتبصرة الثلاث التي برزت، وأتاحت تصوُّرًا جديدًا لدور وسائل الإعلام والأنباء في تشكيل الرأي العام. وعلى حد تعبير رين ليفويا، فعند البحث عن حلول للتحديات المعاصرة والمستجدة «لا ينبغي للمرء أن يتجاهل كتب التاريخ».

تطور الحرب هو موضوع العدد 900 من المجلة الدولية للصليب الأحمر

أولا: نزاهة وسائل الإعلام موضع شك منذ أكثر من قرن

وأول ملاحظة ذات صلة بهذا الأمر أشارت إليها المجلة هي أن عدم الثقة في وسائل الإعلام ليس بالشيء الجديد. وبالنسبة للقارئ المعاصر، ربما يأتي أكثر الفقرات إثارةً للاهتمام في مقال إيريك جرمان، إذ إنه عند مناقشة استخدام الدعاية أثناء الحرب العالمية الأولى، يستشهد بمقال صدر في عام 1921 عن البلبلة الناتجة عن «الأنباء الكاذبة». ومن الغريب أن هذا يبدو مماثلًا للاتهامات المتكررة على نحو متزايد للمواقع ووسائل الإعلام الرئيسية المخادعة و«أنبائها الكاذبة».

خلال الحرب العالمية الأولى، كانت أسباب هذه السيطرة على وسائل الإعلام واضحة: «الرقابة أثارت شعورًا بأن أي شيء قد يكون صحيحًا ما عدا ما يُسمَح بطبعه». ضرورات الحرب كانت حجة بعض الدول لفرض سيطرة محكمة على وسائل الإعلام، والتحكَّم في المعلومات التي يمكن نشرها وميعاد نشرها. لقد استخدمت سياسات الرقابة في تعزيز مصالح الدول في الحرب. ومع إدراكنا هذا الأمر، وعلى الرغم من أن الشكوك التي تستهدف الآن سياسات الرقابة الرسمية أقل من تلك التي تستهدف وسائل الإعلام نفسها، فإن التفكير النقدي  ما زال ذا أهمية بالغة عند الحصول على معلومات من وسائل الإعلام.

ثانيا: أسلوب استمالة العواطف يُستخدَم منذ وقت طويل في تشكيل الرأي العام

وهناك رؤية كاشفة أخرى جديرة بالاهتمام مفادها أن استمالة العواطف ومحاولة التأثير في المعتقدات الشخصية، كانت منذ وقت طويل استراتيجية رئيسية في تشكيل الرأي العام في القضايا الإنسانية.

وكان محور التركيز في مقال إليزابيث فان هيننغين، حرب جنوب أفريقيا ( 1899-1902) هو أنها «أشهر حرب خارج أوروبا في فترة ما بين الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الأولى». وأصبحت تقارير الصحفيين عن معاملة البوير لا سيما في معسكرات الاحتجاز متاحة بسهولة للعامة. ولهذا، أصبحت الحرب «معيارًا لاختبار الأخلاقيات الدولية، وعامل جاذب للدعم العسكري والمساعدات الخيرية». ومع تمكُّن العامة من متابعة الأحداث في شتَّى أرجاء العالم، بفضل زيادة سرعة التغطية الإعلامية وسهولة الحصول عليها، أصبح الرأي العام عاملًا أكثر أهمية في الاستجابة للحرب.

وبالمثل، يناقش هايد فيرنباخ وديفيد رودوغنو كيف تستخدم المنظمات الإنسانية الصور في الحملات الإعلامية. ونقطة البداية في هذا المقال هي صورة جسد لا حياة فيه للطفل السوري اللاجئ ألان كردي الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أعوام على شاطئ تركي، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في أيلول/ سبتمبر 2015. وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي أداة جديدة نسبيًّا في الحملات الإعلامية الإنسانية، فإن فيرنباخ ورودوغنو يجادلان بأن نشر الصور المُروِّعة لطفل ميت أو يتألَّم في نشرات الأخبار، والصحف، ووسائل الإعلام الأخرى هو أسلوب يجري استخدامه منذ أواخر القرن التاسع عشر.

«أحد العناصر ذات المغزى في هذا المشهد الإنساني هو تركيزه على شكل الطفل. وصور ألان تبعث الرعب في النفس، لكن إذا نظرنا إليها من منظور تاريخي، فإنها تعبير عن اتجاهات أطول أمدًا، وهذا على الرغم من حقيقة أن مُحرِّري الصور هنَّأوا أنفسهم على «تحطيم محظورات» واتخاذ «خطوة مهمة» بنشر وتوزيع صور ألان الميت».

وأوضح المؤلفان أنه ومع أن الصور تُستخدَم في إظهار الواقع، فإنها تتيح اختيار عناصر مُعينة أو إزالتها أو تضخيمها. غير أن هذا لا يكفي لوصف تعريف معاجم أكسفورد لتعبير «ما وراء الحقيقة»، لأنه ينقصه عنصر حيوي: وهو أنه لا شيء يشير إلى أن العاملين في المجال الإنساني والمراسلين الحربيين يُحرِّفون الحقائق الموضوعية، لتحقيق أهدافهم في تشكيل الرأي العام.

ثالثا: وسائل الإعلام تظل عنصرًا فاعلًا لا غنى عنه في وقت الحرب على الرغم من هذه الانتقادات

أخيرًا وليس آخرًا، فإن تصفُّح «تطوُّر الحرب» يُذكِّر القراء بأنه على الرغم من العيوب والنقائص الكثيرة لوسائل الإعلام، فإنها تؤدِّي دورًا لا يُقدَّر بثمن في وقت الحرب في إيصال المعلومات إلى السكان، وتعزيز الحوار والمناقشات. ولاحظ إيمري أوكتيم وألكسندري تورماكين أنه خلال الحرب العالمية الأولى نشرت وزارة الحربية البريطانية في صحافة بلد محايد نفيًا لاتهامات الإمبراطورية العثمانية باستخدام غازات خانقة في ساحة القتال. ومن منظور قانوني تصف ليندساي كاميرون كيف استخدمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر النشرة التي كانت تصدر قبل ظهور المجلة الدولية – وهي النشرة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر- كمنتدى للحوار والمناقشات: «في بداية الحرب العالمية الأولى أعلنت اللجنة الدولية أن سياستها هي أنها ستنشر بعض الشكاوى أو الادعاءات بحدوث الانتهاكات التي ترد إليها من الأطراف دون التحقُّق من صحة الشكاوى المذكورة وستنشر أيضًا الردود التي تتلقَّاها».

وفي المقابلة التي أجرتها معه المجلة يصف ريتشارد أوفري نفسه بأنه مدافع قوي عن وسائل الإعلام ودورها وقت الحرب. وفي معرض حديثه عن غارات القصف الجوي يقول: «إنه أمر بالغ الأهمية ألا تتردَّد وسائل الإعلام في إبراز الوجه الإنساني للقصف الجوي ومضمونه الحقيقي». ويُشدِّد على أنه يجب على الصحفيين أن يعملوا بشكل مستقل عن الحكومة وألا يخشوا عرض عواقب القصف الجوي الذي تُنفِّذه دولهم. هذه النقطة أوضحها أنَّا دي ليليو وإيمانويل كاستانو اللذان امتدحا الانتقادات الشديدة التي وجَّهتها مختلف منظمات المجتمع المدني، ومنها وسائل الإعلام، لسياسات حكومة بوش في ما يتصل بالتعذيب «وإن لم تؤدِّ إلى إنهائه، فعلى الأقل ساعدت في كبح التجاوزات».

وإذا كان غياب الثقة في وسائل الإعلام فيما يبدو قد شاع في الآونة الأخيرة، فإنه ليس بالظاهرة الجديدة. وتبيَّن منذ وقت طويل أن استمالة العواطف ومحاولة التأثير في المعتقدات الشخصية استراتيجية ناجحة جدًّا، ولكن يجب ألا يغطي هذا على ضرورة الاعتماد على الحقائق الموضوعية. وفي الواقع، سيكون تحليلًا مختزلًا أن نَصِف وسائل الإعلام بأنها تنقل الأخبار على أساس المشاعر وحدها، لا على أساس الحقيقة. وتظل المعلومات عنصرًا حيويًّا في وقت الحرب، عنصرًا يمتلك القوة والإمكانيات لإلقاء الضوء على الشواغل والهموم الإنسانية الخطيرة.

نُشر هذا المقال بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات»، وهي إصدار تابع لـ«المجلة الدولية للصليب الأحمر»، ملحوظة: لا يجوز أن تُحمل المنشورات والنقاشات في مدونة «القانون الإنساني والسياسات» على أنها تعبر عن مواقف اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأيِّ حال، ولا يبلغ محتوى المدونة مستوى السياسات الرسمية أو المبدأ ما لم يشر إلى ذلك صراحةً على وجه الخصوص.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا