للسينما العالمية والعربية باع في معالجة الحروب وتأثيراتها حين يكون موقعها المدن. وقد سجلت أفلام عدة الأضرار التي لحقت بالمدن وسكانها جراء المعارك المسلحة، من حرب يوغوسلافيا مرورًا بالحرب الأهلية اللبنانية وصولًا لحروب مدن الشرق الأوسط الحالية.
 لم تمنع الحرب العديد من السينمائيين السوريين من صناعة أفلام تطرح صورًا متعددة للحرب في بلدهم، وعلاقتها بالمدن التي يعيشون فيها. والعاصمة دمشق هي المدينة الأكثر حضورا في الأفلام السورية الروائية التي أُنتجت في السنوات القليلة الماضية (2012 – 2016). إذ ساهمت المؤسسة العامة للسينما في دمشق في دعم خروج بعض الأفلام السينمائية السورية التي تتناول الحرب. فمثلا يطرح المخرج عبد اللطيف عبد الحميد في فيلم «أنا وأنتِ وأمي وأبي» (2016) قراءة للأزمة السورية من خلال أسرة تعاني انقسامًا حادًا في الرأي بين أفرادها. فالأب أستاذ الجامعة يعارض الحكومة، ولا يوافق على آراء الزوجة والابن الشاب كونهم يرفضون الفصائل المعارضة. يتحول البيت الصغير إلى شبه معتقل للأسرة، يشعر كل فرد فيه بالوحدة والقهر والرفض من الآخر. وتزداد الأمور سوءًا عندما يُرفض الشاب من قبل أسرة الفتاة التي يحبها (جارتهم في المنزل المقابل). الفيلم يصور واقع المدينة الواقعة تحت الحرب، وحياة السكان؛ خوفهم وهلعهم حين تضرب القذائف أحيائهم.
يستأنف باسل الخطيب في فيلم «سوريون» تقديم صورة ثالثة حية للحرب في سورية، بعد فيلميه «مريم» و«الأم». الفيلم يطرح قصة عن المدينة التي هجرها الابن الشاب بعد أن فقدت أمنها، وذهب إلى مدينة صغيرة لا تزال تحتفظ بملامح ريفية. وهناك يقابل صحافية ترصد أجواء القتال. ينجح الفيلم، الذي يتمتع بلغة بصرية فائقة، في تصوير حجم الدمار الذي يصيب الأماكن الحضرية والريفية على السواء جراء الحرب. وفي فيلم «سلم إلى دمشق» من إخراج محمد ملص، يتقابل الهاربون من حروب المدن الصغيرة في أكبر المدن، العاصمة دمشق، في فندق صغير كان بالأمس بيتًا لأسرة هجرته بسبب النزاع، ومن خلال لقاءاتهم تنكشف تدريجيا حقائق كثيرة عما حدث لكل منهم في الحرب داخل شوارع المدينة وأزقتها.
من أصل 14 فيلمًا مصريًا عن الحروب، هناك فيلمان فقط يعالجان حروب المدن
توثيق الجريمة
قدمت السينما التسجيلية عددًا من الأفلام عن حروب المدن. وتكمن أهمية هذه الأفلام في قدرة صناعها على التصوير وسط الحروب، وعلى متابعة المتحاربين من موقع لآخر وعلى الدخول في مناطق الخطر. وكذلك على تسجيل اللحظات الأكثر صعوبة في حروب المدن، كعمليات هدم البيوت فوق سكانها، والمطاردات بين الفرق المتحاربة واقتحام الموانع. واستطاعت هذه السينما تسجيل أغلب المعارك التي دارت في عالمنا المعاصر في أفلام قصيرة وطويلة أصبحت الآن ضمن أهم الوثائق عن التغيرات التي حدثت للمدن التي ضربتها النزاعات. وإذا جاز لنا التفرقة بين أنواع الحروب، فحروب المدن هي أكثر الحروب دمارًا للنفس البشرية.  ويكفينا متابعة بعض ما يحدث في فلسطين المحتلة، وما قدمه مخرجون مثل إيليا سليمان في أفلام «سجل اختفاء» (1996) و«يد إلهية» (2002)، وهاني أبو أسعد في «القدس في يوم آخر» (2002) و«عمر» (2013). تدور هذه الأفلام حول معركة المواطن الفلسطيني ضد الاحتلال في مدينته وقرينه، ومعارك العبور من حي لآخر، ومن شارع لشارع ومن مربع سكني لآخر، خاصة بعد إقامة الجدار العازل الذي حرم الفلسطينيين من الحركة داخل المدن التي يقيمون فيها. وهذه المعارك كلها داخل المدن الفلسطينية تحتاج إلى كتاب بأكمله لرصدها، كتاب مفتوح لأنها تحدث يوميًا، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله. ومثال على هذا فيلم تسجيلي فلسطيني عنوانه «الطوق الأبيض»، من إخراج حنين جابر.  يدور هذا الفيلم حول شاب ذهب صباحا ليحضر خبز الإفطار من مخبز قريب من المنزل، وحين عاد غير طريقه إلى شارع آخر استوقفه فيه كتيبة من الجنود الإسرائيليين بالمدافع الرشاشة طلبت منه رفع الأيدي، وخلع ملابسه، وأخيرا أطلقت عليه النيران فمات بجانب أرغفة الخبز الساخنة.
غلة مصرية قليلة
قدمت الأفلام الروائية المصرية الطويلة نماذج قليلة لمعالجة حروب المدن، فمن بين أربعة عشر فيلما قُدمت عن الحروب المصرية الحديثة (1956 – 1973)، هناك فيلمان فقط عن حروب المدن هما: فيلم «بورسعيد» (1957)، إخراج عز الدين ذو الفقار الذي تناول وضع المدينة بعد عام من انتهاء «حرب السويس» (المعروفة باسم «العدوان الثلاثي على مصر»). وقد بدا في الفيلم واضحًا تأثير الضربات الجوية على المساكن، وكيف تهدم منزل بطل الفيلم ومنزل جيرانه، إضافة إلى ما لحق به وبجيرانه من خسائر أخرى بسبب خيانة واحد من أبناء المنطقة. سرب هذا الشخص معلومات عن عناصر المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإنجليزي. وكانت وسيلته في تسريب هذه المعلومات ممرضة إنجليزية حاولت إيهام الناس بمحبتها للمصريين، فيما هي تحاول نقل كل شاردة وواردة لقيادات الجيش الإنجليزي.
أما الفيلم الثاني فهو «حكايات الغريب» (1992)، إخراج إنعام محمد علي، عن قصة للأديب المصري الراحل جمال الغيطاني. تدور أحداث الفيلم في فترة الحربين: حرب حزيران/ يونيو 1967 وما بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وموضوعه انتقال عدوى المقاومة الشعبية وتصاعد المشاعر الرافضة للهزيمة العسكرية في شوارع مدن القناة. محور الفيلم هو التحول الذي طرأ على شاب مصري من شعور بالانهزامية والسلبية في أعقاب «النكسة» إلى شعور بالمقاومة ورفض الظلم الذي يفرضه أحد البلطجية على الأهالي في مدينة السويس. نجح الشاب في تحريك مشاعر الناس للدفاع عن حقوقها، وفي الخلفية صور الحرب والدمار الذي لحق بمدينة السويس.
حزام العراق الأخضر
في سجل السينما العراقية العديد من الأفلام التي تتناول الحروب وما فعلته في البشر، غير أن هذه الأفلام لم تعالج حروب المدن على وجه التحديد. انصب اهتمام المخرجين العراقيين كـ محمد الدراجي وسمير نصري وفيصل الياسري إلى تقديم أفلام تتحدث عن دور الحرب عامة في تفكك البنية الأساسية للمجتمع، وتحلله إلى طوائف. لكن من ناحية أخرى، قدم سينمائيون أميركيون رؤيةً حول النزاع المسلح في العراق من زاوية الحرب على المدن. فمثلا يدور فيلم «خزانة الألم» (The Hurt Locker)، 2008، إخراج كاترين بيجلو (Kathryn Bigelow)، حول فرقة من الجنود الأمريكيون مختصة بتفكيك العبوات الناسفة والأسلحة المخبأة في شوارع العراق. يعالج الفيلم أسئلة عن كيف تقوم هذه الفرقة بعملها في إطار ظروف معقدة، منها الطبيعة الصعبة لبعض الأماكن داخل المدن. والصراع النفسي لضباط هذه الفرقة عندما يطرح أحدهم سؤالًا لنفسه حول إمكانية موته وهو يفكك الألغام، وماذا سيحدث لعائلته. حصد الفيلم ست جوائز أوسكار في العام 2009، في فئات أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل إنتاج وأفضل مؤثرات صوتية وأفضل مونتاج صوتي وأفضل نص. أما فيلم المنطقة الخضراء (Green Zone)، 2010، إخراج بول جرينجر (Paul Greengrass)، فيستعرض صور الدمار الذي تسببه الحرب لمناطق العراق، ومنها الأحياء الحضرية، وشكل الإدارة والحياة داخل «المنطقة الخضراء». قصة الفيلم تدور حول ضابط أميركي يبحث عن أسلحة دمار شامل في العراق، لكنها يكتشف في النهاية أن البلاد التي نُكبت بالحرب لم يكن لديها أسلحة دمار شامل.
أشباح بيروت
كانت الحرب الأهلية (1975-1990)، وما تزال، مصدر إلهام لغالبية صناع السينما اللبنانية في بداياتهم وحتى اليوم. من هؤلاء مارون بغدادي الذي أخرج فيلمه «حروب صغيرة» في العام 1982. تدور أحداث الفيلم عشية اندلاع الحرب الأهلية، فنرى كيف جرى اعتقال مواطنين عزل في الشوارع، واقتيادهم وهم معصوبو الأعين، إلى جهات مجهولة، أو استخدامهم دروعًا بشرية. يصور الفيلم الانفجارات التي ضربت بيروت، ويتلقط مشاهد لاهتزاز مبان، وانهيار عقارات ومطاعم ومحال تجارية وقد تناثرت محتوياتها مع أشلاء البشر الذين لقوا نحبهم جراء القذائف.  أما فيلم «بيروت الغربية» (2006)، إخراج زياد دويري، فهو يتحدث عن براءة الطفولة التي وجدت نفسها وسط الحرب من خلال ثلاثة مراهقين تعاملوا مع ما يحدث حولهم – أي الحرب – كلعبة مسلية. لكن اللعبة اصبحت شاقة عليهم وهم يرون ما تفعله القذائف بالناس حولهم من قتل وتمزيق. وفي فيلم المخرج غسان سلهب «أشباح بيروت» (1998)، يبدو البشر وقد اخترقت الحرب ذاكرتهم وشرخت قدراتهم على استيعاب الأحداث. فبالرغم من صمت المدافع وفتح الطرقات والبدء في إعادة الاعمار، فإن الأمر يبدو وكأن الحرب ما زالت مستمرة، في ظل سيطرة حالة من التشاؤم على أهلها.
**نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».