ar
إغلاق

طريق القناصة

بلا رتوش

طريق القناصة

من مشاهد الدمار في سراييفو، يناير 1997. تصوير (David Higgs/ أرشيف اللجنة الدولية).

الثامنة صباحًا تبدو ساعة مبكرة في سراييفو الخارجة لتوها من الحرب، رغم اعتياد المدينة على النوم المبكر من أثر التعب الطويل وتقييد الإضاءة. وهذا الطبيب النفسي المتطوع، يستشعر الغلظة في أن يذهب مبكرًا إلى مشغل التطريز ليناظر حالة الصبية التي أعطوه ملفها بالأمس، والتي رشحتها الجهات الصحية ليفحصها بأولوية. أنها تستحق ذلك، بل تبدو له حالة نادرة ومؤثرة حتى أنه كان يتعجل مرور الوقت الذي يمضي ببطء شديد داخل الفندق الذي لم يستكمل خدماته بعد، فتناول إفطاره على عجل، واندفع خارجًا إلى التقاطع الفسيح أمام الفندق.
راح يعبر شارع فويبود بوتنيكا، ولاحظ أن البشر القليلين كانوا يمضون بسرعة لا تتطلبها الأرصفة شبه الخالية والصباح الغافي، وأبدت أعوادهم النحيلة في مجملها انحناءة ما، كأنهم ينوءون بعبء غير مرئي، أو أنهم اعتادوا هذه الانحناءة الخائفة من انصباب الطلقات بينما يعبرون الشوارع المكشوفة تحت أبصار ومناظير القناصة المتمركزين فوق التلال المحيطة بالمدينة. شارع فويبود بوتنيكا على وجه التحديد أسموه “طريق القناصة” لأن عابريه من بشر ومركبات كانوا هدفًا دائمًا لطلقات البنادق الآلية ومدافع المورتر، بل والمدافع الثقيلة التي أحرقت عيون الأبنية العالية في مدخل الشارع، وبعض السيارات وعربات الترام التي تفحمت في أماكنها.
اجتاز طريق القناصة موغلًا في شارع المارشال تيتو الطويل الفسيح وكان الترام يدرج مصلصلًا في فضاء الشارع. عودة الترام إلى الحياة في سراييفو هي بشارة بالسلام، فقد رمموه وطليت العربات بألوان زاهية تتخللها رسوم وخطوط غير متقنة. كانوا بالتأكيد يتعجلون عودة الترام ليوقنوا من حلول السلام، أول ترام يجري في شوارع وسط أوروبا، ومع ذلك لم ترحمه نيران المتعصبين المنصبة من ذرى التلال. عبر الشوارع الجانبية كان يرى التلال العالية البعيدة، وشعر برعشة وهو يتساءل عما إذا كانوا رحلوا عنها بالفعل وعن احتمال أن يكونوا هناك ما زالوا. كانوا يصوبون عبر فتحات هذه الشوارع على المارة في الشارع الرئيسي، لهذا سدت فتحات الشوارع بمتاريس من كتل خرسانية بطول قامة الإنسان، وكان على الناس أن ينحنوا ويسرعوا وهم يمرون أمام هذه المتاريس. أي حشد من الأعراض النفسية يمكن أن تلحق بالبشر في لحظات وجيزة كلحظات توقع الموت عند المرور أمام هذه الكتل الخرسانية؟ البنت لم يحدث لها ما حدث على خلفية كهذه. جعله ذلك ينظر إلى ساعته، وعاد يقطع شارع المارشال تيتو على الرصيف نفسه وإن في الاتجاه المعاكس.
لم يقرأ عن حالة تماثل حالة البنت في مراجعه الطبية، ولم تصادفه حالة تشبهها في حياته العملية الطويلة، ولم يسمع واحدًا من زملائه في أكثر من مكان بالعالم يتحدث أو يكتب عن حالة تقاربها. فقط يتذكر أنه قرأ عن شيء مماثل في كتب سلوك الحيوان المقارن التي يقتنيها. حالة فريدة تحدث للإناث الصغار من الفيلة الآسيوية في الأسر. فما وجه المقارنة، وقد كانت البنت طليقة في الغابة عندما سفحتها الأعراض.
التقرير الذي قرأه لم يشر إلى سبب فرار البنت- مع معظم نساء القرية والأطفال- إلى الغابات والجبال، لكن الأحداث التي تكررت من قصف القرى ثم مداهمتها وقتل الرجال وتقطيع الأوصال واغتصاب النساء، كافية لأن تدله على رعب الدافع الذي جعل بنتًا صغيرة- كان عمرها آنذاك أربعة عشر عامًا- تشرد في مجاهل الغابة وأخاديد الجبال وبين يديها طفل رضيع- لم يشر التقرير الطبي إلى طبيعة صلة القرابة أو الجيرة التي تربط بين الرضيع والبنت، وعوّل هو على أن يتعين ذلك خلال مناظرته اليوم للحالة- وفي دروب الغابة ومفاوز الجبال تشتت سرب النساء والأطفال وكانت متعبة وجوعى وتنوء بحمل الرضيع عندما وجدت كوخًا مهجورًا على حافة الغابة.
لم يكن الرضيع يصرخ، لكنه كان يتلوى كأنه يتألم ويفتح عينيه بين موجات الألم وينظر إليها فتبكي متحيرة لكن لم تكن هناك دموع، كانت تحس بجفاف فمها وعينيها، وعندما رقدت من شدة التعب على أرض الكوخ محيطة الرضيع بذراعيها بدا لها أنه يناغي ثم تبينت أنه ساكت تمامًا ومغمض عينيه ومطبق فمه، فاجتاحت كيانها الصغير موجة من لهيب، وكانت أول مداهمة للحالة.
وصل إلى مشغل البنات في التاسعة والربع تمامًا، واستقبلته المديرة في مكتبها الصغير، هي نفسها واحدة ممن شردتهن الحرب، رأت ابنها يُقتل أمام عينيها، كان جميلًا وفي السابعة عشر، فقدت أيضًا زوجها وإخوتها، لم تعرف إن كانوا ماتوا أم أنهم على قيد الحياة في مكان ما. مرت به على المشغل، وحاول أن يحدس من تكون البنت بين الأخريات دون أن تسميها له المديرة، لم يستطع. كن جميعًا منكفئات على ماكيناتهن، في زي قرمزي باهت، كاسفات ويحدقن بنظرات خالية من أي معنى. بينهن من رأت أهلها يذبحون، ومن ضاعت طفلتها، ومن فقدت كل أهلها، ومن اغتصبت. وعندما نادت المديرة صاحبة الحالة التي جاء لمناظرتها أحس بوجل غامض كأنه طالب طب صغير يتأهب للوقوف بين يدي ممتحنيه.
عندما يعجز الطبيب النفسي عن العثور على طرف خيط انفعالي في ملامح أو إيماءات من يناظره خلال أول دقيقة في الفحص يصير كمن وقع في شرك. كانت فتاة صغيرة متماسكة ولا تشي ملامحها بأي انفعال، لا عداء ولا مودة، فقط شكت من أن الحالة تداهمها فجأة وهي تعمل، وتكون خائفة من تلويث الثياب التي تطرزها. كانت الطبيب منشطرًا يفكر، كأنه في لجنة امتحان إكلينيكي، في آليات حدوث الحالة لعله يعثر على آلية مضادة لمنعها وفي الوقت ذاته كان يعاني من شتات وجداني غامض كأنه ضائع في غابة، أو صحراء، أو فضاء كوني. وفكر في تقنية التحليل النفسي لعله يمسك بشيء ما.
كانت هناك فجوات في القصة المَرَضية يريد أن يملأها، وراح يحض البنت على الحكي، الحكي بتفصيل، لكنها لم تكن تقول شيئًا أكثر مما في التقرير الذي قرأه عن حالتها. ثمة ثقوب مظلمة في الحكاية، وهو يستعيدها لعل هذه الثقوب تمتلئ بالضوء. وكان يشرد ناظرًا إلى الخارج مكتشفًا أن المشغل يقع عند طرف فويبود يوتنيكا حيث تظهر بقعة حمراء برتقالية مرسومة على الأسفلت، إنها الطريقة التي تسجل بها سراييفو وقوع المجازر من جراء سقوط طلقات القناصة على الناس. وثمة مقبرة تحت أعشاب الرصيف المقابل كانت شواهدها تتراءى له من البُعد وكأنها أوراق بيضاء في خضرة العشب. وأدرك أنه شرد عندما انتبه إلى صمت البنت.
أراد أن يسألها أين توقفت في حكايتها، لكنه ابتلع سؤاله إذ انتبه إلى انفعال وجهها، انفعال كتيم يكظم غيظًا أو قهرًا أو ألمًا أو كل ذلك معًا. وامتد بين وجهه ووجهها صمت كشف عن صوت رتيب.. صوت قطرات تتتابع على لجة، ونهض بلا إرادة موشكًا على الصراخ إذ كان صدر البنت مبتلًا مما أحال لون ثيابها إلى قرمزي داكن عميق، ومن نشع هذا البلل كانت تتكون قطرات متسارعة من حليب خفيف- حليب عذراء- تتساقط على سطح بركة لؤلؤية البياض.. صغيرة.. تتسع.
محمد المخزنجي قاص مصري بارز، وهو أحد كتاب مجلة الإنساني منذ انطلاقها.  نشر في المجلة عددًا من النصوص التي سنوالي نشرها تباعا. وهذه القصة نُشرت في العدد الرابع من المجلة الذي صدر في أيار/ مايو-حزيران/ يونيو من العام 1999.

 

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا