يتابع العالم حاليًا محاولات حث الفرقاء اليمنيين على بناء جسور الثقة فيما بينهم بغية إنهاء نزاع مسلح طاحن، قتل الآلاف وشرد الملايين وألقى بالبلاد في هوة أزمة إنسانية عميقة. في هذه اللحظات، الذي يتزايد فيها الحديث عن عملية الافراج المتبادل عن المحتجزين، يقدم لنا التاريخ اليمني درسًا في أن قوانين الحرب يمكن أن تُحترم إذا ما توفرت الإرادة والرغبة. هنا مقال مهم نشرته “الإنساني” في عددها الأول الذي صدر في مثل هذه الأيام منذ عشرين عامًا، عن الكيفية التي تمكنت بها اللجنة الدولية من بناء الثقة ودفع أطراف النزاع في الحرب الأهلية، في ستينيات القرن الماضي، على احترام القانون الدولي الانساني في معاملتهم للأسرى.
عام 1962، تحدث أول التقارير التي وصلت عن أحداث اليمن إلى العالم الخارجي، عن قيام الجمهورية اليمنية، ومصرع الإمام البدر في الانقلاب الذي تم على أيدي بعض العسكريين والمدنيين. ولم يكن الإمام البدر في واقع الأمر قد قُتل ولكنه لجأ إلى حماية بعض القبائل الجبلية.
وسرعان ما قام الإمام بتنظيم هذه القبائل في جيش. تمكن من تسليحه بواسطة المساعدات الخارجية بالأسلحة الحديثة. ونظم هذا الجيش صفوفه وتمكّن من شن الهجمات على القوات الجمهورية في محاولة لإعادة الإمام إلى العرش.
ودعا هذا الموقف بعض الجمهوريات العربية، خاصةً مصر في ذلك الوقت، لكي تتدخل من جانبها في الصراع. ومع شتاء 1962-1963 عمت البلاد حرب أهلية شاملة، دامية وقاسية، تميزت بالعنف من كلا الطرفين، كما شملت المدنيين أيضًا.
وكعادتها، عرضت اللجنة الدولية مساعداتها الإنسانية على الطرفين المتحاربين. وكانت اليمن في ذلك الحين واحدة من البلدان التي لا يوجد بها جمعية وطنية للهلال الأحمر، لذا كانت مبادرة اللجنة أول بادرة لعمل إنساني من هذا النوع باليمن. فضلًا عن أن اليمن لم تكن حتى ذلك الحين ضمن البلاد الموقعة على اتفاقيات جنيف التي تنظم سلوك المقاتلين أثناء القتال في معاملة الأسرى والجرحى وحماية المدنيين.
كانت إحدى الصعوبات تكمن في التركيبة العضوية لهذا البلد. فاليمن، التي تبلغ مساحتها حوالي ضعف مساحة سويسرا، لم يكن تعداد سكانها في ذلك الحين يتجاوز أربعة أو خمسة ملايين، ولم يكن بها سوى طريق واحد ممهد، يربط بين صنعاء والحديدة، ميناء اليمن الرئيسي على البحر الأحمر. بالإضافة إلى الطبيعة الجبلية القاسية لجغرافية اليمن، والتي تعيق حركة العمل.
وبرغم تلك الصعوبات شرعت بعثة اللجنة الدولية في العمل. ففي نوفمبر، اتصل ممثل اللجنة بيير جايارد بسفير الجمهورية اليمنية بالقاهرة، وبممثلية الإمام البدر في عمّان، عاصمة الأردن. وقد رحب كلا الجانبين بمساعدة الصليب الأحمر. وقال ممثل الإمام أنهم في مسيس الحاجة لهذه المساعدة لقوات الثورة المضادة بالجبال، حيث لا يوجد لدى رجال القبائل أي جهاز طبي، مما يجعل الجرحى لا يتلقون أي علاج أو رعاية على الإطلاق.
وخلال شهر كانت اللجنة الدولية تعمل على جانبي الصراع. فقد توجه فريق العمل برئاسة أندريه روشا عضو اللجنة الدولية إلى اليمن وباشر مهامه على الفور، فبدأ الدعوة إلى احترام قواعد اتفاقيات جنيف، وقام فريق طبي بمعالجة الجرحى من الجانبين والمرضى من المدنيين. وفي يناير 1963 تعهد قادة الجانبين للصليب الأحمر باحترام قواعد اتفاقيات جنيف الخاصة بالأسرى والجرحى.
في بداية الأمر لم تكن هذه الاتفاقات محترمة بصفة دائمة، فقد لاحظ المراقبون أن القبائل كانت لها عادات خاصة تعوق احترامها. وكان من التقاليد المعروفة أن من الأمور التي تدعو للفخر قتل “هؤلاء الجبناء” الذين يقعون في الأسر بالسيف.
وفي سياق رغبته في أن يعضد اتفاقه مع الصليب الأحمر، أمر الإمام بأن يتم إحضار جميع الأسرى إليه أحياء في مقر قيادته. ولكي يجبر رجال القبائل على طاعة هذا الأمر الذي يرونه غريبًا عن التقاليد، أعلن عن منح مكافأة عن كل أسير يرسَل إليه حيًا.
وكان لسلوك القبائليين وفق هذا النهج الإنساني صدى كبير في المعسكر الآخر على الجانب الشرقي من البلاد. فقد توقف هجوم المصريين على القرى البدائية، وكان أحد شيوخ القرى قد أسر وجرح جنديًا مصريًا، ولولا أوامر الإمام لقام الشيخ بقتل الجندي، ولكنه بدلًا من ذلك حمله وأوصله حتى منزله وعالجه فيه انتظارًا لأن يحمله إلى مقر قيادة الإمام.
واستنكر سكان القرية هذا السلوك. وطالبوا بإعدام الأسير المصري علنًا. وحتى والدة الشيخ أبدت استنكارها وعدم فهمها، وقالت لابنها: “إنك لست جديرًا بشرف عائلتك وبحمل اسم أبيك”. لكن الشيخ خضع لأوامر الإمام. وقال للجميع أنه سيحمي حياة الأسير بسيفه إذا حاول أحد الاقتراب منه. وتم إرسال الأسير بغير أن يمسه أذى إلى الإمام.
كانت قبيلة النهام هي إحدى القبائل التي كانت مهمة روشا ورفاقه في الوصول إليها صعبة، وكذلك في إقناعها بالقواعد الإنسانية الجديدة في احترام الأسرى والجرحى. وكانت معلومات أندريه روشا ورفاقه تؤكد على أن هذه القبيلة تخضع لأوامر الإمام. وفي واقع الأمر كان واحدًا من أهداف القبيلة يتمثل في المعاملة السيئة للأسرى الذين وقعوا في يد أميرهم الشاب الصغير “ابن المحسن”.
خلال رحلة وفد الصليب الأحمر إلى مواقع هذه القبيلة، لم تتمكن الشاحنات من مواصلة السير، بسبب مناطق الألغام التي كانت تعج بها الطريق، وعاد السائقون، والأدلاء، والمترجمون إلى “عقد” للبحث عن دليل يكون ملمًا بالطرق عبر منطقة الألغام.
أثناء ذلك عثر روشا ومن بقي معه، في نهاية الأمر، على موقع أمامي من مواقع رجال النهام، بسفح قمة جبلية. وفي إطار دهشتهم الشديدة جرى استقبالهم بترحيب منقطع النظير من رجال القبائل، فقد كان معروفًا عن قبيلة النهام شكها الشديد في كل الأوروبيين. وتم اللقاء مع المجموعة في جو من الود الشديد. فعلى ما يبدو أنه تم تناقل أخبار بين رجال القبائل مؤداها أن الصليب الأحمر قد جاء فقط من أجل رفع الحصار عن رجال القبائل وأنه ليس لديه هدف آخر غير ذلك.
وسرعان ما تم نقل أندريه روشا ولوران فاست، والدكتور دي فيجا بالجمال مصحوبين بسائق ومترجم إلى معاقل القبيلة. واقتادهم الدليل عبر الممرات الجبلية، إلى أن وصلوا في النهاية إلى قرية صغيرة من قرى النهام.
-“عند هذه النقطة لن تستطيع الجمال أيضًا مواصلة المسير” أكد الدليل لأندريه روشا. وابتداءً من هنا سنواصل السير على الأقدام. وعبر المترجم- الدليل اتفق روشا مع رجال القبائل على حمل طن المساعدات التي أتوا بها معهم بقية الطريق، الذي قطعوه بمشقة وعبر فترات من الراحة نظرًا لصعوبة التنفس على ارتفاع عشرة آلاف قدم من سطح البحر، ليصلوا أخيرًا إلى موقع الأمير ابن المحسن.
كان مقر قيادة الأمير عبارة عن كهف هائل بالقرب من قمة الجبل، في هضبة متسعة نصب فيها عدد من الخيام. وكان الأمير الصغير محاطًا بعدد من الشيوخ في استقبال وفد الصليب الأحمر عند مدخل الكهف. وبعد التعارف الرسمي بواسطة المترجم، علم روشا أن وليمة قد أُعدت لهم.
وكان روشا يعلم أن قبيلة النهام، مقطوعة الاتصال مع القوات الملكية وقطاعاتها الأخرى، لذا فإن حجم المؤونة التي يحصلون عليها قليل، وإقامة وليمة يعد أمرًا مكلفًا للغاية لهم. ولكنه كان على معرفة أيضًا بالعادات العربية والكرم العربي. وكان من الممكن لرفضه لهذه الوليمة أن يكون خطوة تكتيكية سيئة تعكر صفو المفاوضات بينه وبين الأمير. وكان يعلم أنه من المستحيل عقد أي اتفاق إلا بعد انتهاء حفل الوليمة.
كانت الوليمة فاخرة. أعقبها تناول البلح والقهوة. ولم يتبادل فريق اللجنة الدولية مع مضيفيه الحديث أثناء الوجبة إلا في حدود كلمات مجاملة عادية، قام بنقلها المترجم. وفي النهاية، عندما أصر الضيوف على أنهم لم يعد بمقدورهم الاستمرار في تناول المزيد من الطعام، أعلن الأمير ابن المحسن نهاية الوليمة بإشارة من يده وببعض كلمات للمترجم.
قال المترجم للدكتور دي فيجا، “أن سموه يرغب في معرفة ما إذا كنت تريد إلقاء نظرة على بعض الأسرى الجرحى”.
-“بكل سرور” أجاب الطبيب، “فهذا ما جئت من أجله”. وبينما كان الدكتور دي فيجا يعالج الجرحى، عاد باقي الوفد بصحبة الأمير إلى الكهف لبعض الراحة.
وأثناء الرحة قال روشا للمترجم: “قل للأمير أن أول شيء أرغب في عمله هو رؤية الأسرى المصريين”. ولم يبد على الأمير الارتياح لهذا الطلب، لكنه أبدى قبولًا له. وقام شخصيًا بمرافقة روشا ومرافقيه إلى كهف آخر كبير أوقف به الأسرى.
كان الأسرى المصريون في حالة يرثى لها. فقد أهزلهم الجوع، وأعيتهم الأمراض، وكانوا مقيدين بالسلاسل التي تمنعهم من أي حركة. وبسؤال بعضهم، أصاب روشا ومن معه الرعب لمعرفتهم بأن بعض هؤلاء الأسرى أمضى في هذه الحالة ما يزيد عن العام. قال روشا للمترجم: “أخبر الأمير أن معاملة هؤلاء الرجال على هذا النحو تعد انتهاكًا لمبادئ اتفاقيات جنيف التي وافق عليها الإمام البدر. فهم كما يبدو لا يحصلون على الغذاء الكافي، كما يجب أن تنزع عنهم السلاسل لكي يتمكنوا من بعض الحركة الضرورية”. عند ذلك أجاب الأمير ببعض الكلمات الغاضبة بالعربية. وعند انتهائه، قال المترجم: “إن سموه يقول أنه لا يوجد غذاء كاف حتى بالنسبة لرجاله. وإنه إذا نزع أغلال هؤلاء، فسيكون عليه أن يعين حراسًا لمنعهم من الهروب”.
وقرر روشا أن يغتنم الفرصة في الحال. فأخبر المترجم أن ينقل للأمير أن بإمكانه أن يضع الأسرى في نفس درجة الاهتمام التي يوليها لرجاله، وأنه سوف يعمل من جانبه على تنظيم المعونة الشهرية اللازمة لذلك من غذاء ومواد طبية، أيضًا بما يزيد عن حاجة الأسرى. وبعد نقاش وافق الأمير على ذلك، لكنه رفض أن يتخذ قرارًا بنزع الأغلال حتى يناقش الأمر مع شيوخ قبيلته.
في المساء دعا الأمير لاجتماع للشيوخ، حضره أيضًا رجال الصليب الأحمر الثلاثة. وعارض الشيوخ بعنف فك قيود جميع الأسرى، قائلين بأنهم قد قاموا بالفعل حتى الآن بعمل كبير هو تركهم على قيد الحياة.
وأكد أعضاء وفد الصليب الأحمر أن هناك منافع عديدة من جراء الالتزام بما جاء في اتفاقيات جنيف. وقال لهم روشا: “تذكروا أنه إذا جرى وقوع أحدكم في الأسر بواسطة الجمهوريين، فإن الصليب الأحمر سوف يصر بشدة على أن يعامل معاملة إنسانية”.
وعارض بعض الشيوخ بالقول أن شيئًا كهذا مستحيل أن يحدث، لأن من يقع في الأسر فقط هو الجبان الذي يفضل الحياة على الموت المشرف. لكن البعض الآخر راحوا يمعنون النظر في الأمر، عندما أكد لوران فاست أنه في بعض الأحيان لا تكون هناك فرصة للمقاتل للاختيار بين الموت والأسر، بافتراض أن أحد الشيوخ كان جريحًا بما جعله لا يقدر على التصرف في نفسه، وفي نهاية الأمر بدأ تشدد الشيوخ في اللين تدريجيًا. وتمكن رجال الصليب الأحمر من إيجاد طريقهم للحديث الذي يريدونه، ووافق شيوخ المجلس على نزع أغلال الأسرى. بل أكدوا أيضًا أن القرار قد تم اتخاذه بواسطة الأمير لإعطائهم المزيد من الغذاء، وكذلك بالموافقة على أن تأتي لهم بعثة الصليب الأحمر بالمساعدات الشهرية.
وفي اليوم التالي، كان هناك صدام آخر في الرأي بين الأمير ابن المحسن وروشا. فقد فحص الدكتور دي فيجا الأسرى وعالج عددًا من المرضى بينهم. ونقل إلى روشا أن أحد هؤلاء الأسرى كانت حالته خطيرة وأنه من الممكن أن يكون إذا لم يعالج على الفور في مستشفى. وسأل روشا ما إذا كان بإمكانه أن يستمر على قيد الحياة مدة الخمسة عشر يومًا التي تستغرقها الرحلة حتى عقد. وهز الطبيب رأسه: “لا بد لنا أن نأخذه إلى صنعاء. فهناك فقط يمكن له أن يجد فرصة لإنقاذ حياته”.
واستدعى روشا مترجمه وذهب ليناقش الأمر مع الأمير. وكان رد فعل الأمير المباشر هو الرفض. ولكن بعد بعض التفسيرات، التمعت عيناه. وتحدث إلى المترجم ببعض العبارات.
قال المترجم لروشا: “إن سموه على استعداد لأن يبادل أسيره بعلي حاجي، الذي كان أسيرًا لدى الجمهوريين في صنعاء، فلو أنك توافق على إعادته لهنا، سوف يدعك تأخذ هذا الأسير الجريح معك”.
وسبب هذا العرض مشكلة. فقد خمن روشا أنه لو وافق عليه، ولم يتمكن بالتالي من الحصول على الإفراج عن علي حاجي، لربما تسبب ذلك في قتل باقي الأسرى.
ولكن من ناحية أخرى، كانت لروشا علاقة جيدة بالضباط الجمهوريين، وشعر أن بإمكانه أن يحصل منهم على موافقة على الأمر. ولكنه فكر أيضًا بأن يشرح لهم، أنهم لو رفضوا، فسوف تكون لذلك الرفض نتائج وخيمة على باقي الأسرى لدى الأمير، وأن ذلك الموقف بحد ذاته يمكن أن يكون حجة قوية لإقناعهم. فضلًا عن أن هذا الموقف سوف يكون فرصة لكي تنمو الثقة بين الأمير ابن المحسن والصليب الأحمر، لأنه سيعني أن الصليب الأحمر قد وعد وأوفى بوعده، وذلك أمر شديد الأهمية في تسهيل المفاوضات. وببعض الاضطراب، قبل أندريه روشا المجازفة.
في اليوم التالي، بدأت القافلة المسير عائدة على الطريق الجبلي، حاملة الأسير المريض على محفة. ورغم أن الرحلة إلى صنعاء كانت أقصر من الرحلة إلى عقد، إلا أنها كانت أكثر خطورة. فقد كان من الضروري المرور من خلال المنطقة العازلة، وذلك بعبور الخطوط التي كان القتال مستمرًا فيها. وعلى أية حال، تمكن الصليب الأحمر من اجتياز الرحلة والوصول بسلام إلى صنعاء ذلك المساء. ولم يجد روشا صعوبة تُذكر في إطلاق سراح علي حاجي. وبعد أسبوع من ذلك عاد وبرفقته مبعوثين آخرين من الصليب الأحمر إلى قلعة جبل النهام ومعه الأسير المحرر، وما يزيد على طن من الأغذية والمعونات الطبية، وبخطابات للأسرى. وكان الأمير ابن المحسن في قمة سعادته بعودة الأسير وبالمعونات حتى أنه قرر مزيدًا من المعاملة الحسنة للأسرى.
وهكذا تم تأسيس جسر الثقة. وابتداءً من تلك اللحظة، صار بمستطاع اللجنة الدولية أن تتحرك في جميع الأنحاء بالجبهة بلا مشقة، رغم أن الاتفاق العام كان يقضي بألا يُسمح له بالحركة في هذه الأماكن لأكثر من شهر. وقد ساعد جسر الثقة الذي تأسس حركة الصليب الأحمر على التوصل إلى الاتفاق النهائي عام 1967 بين الجانبين بتبادل الأسرى الذين عادوا فيما بعد لأوطانهم.
Comments