النزوح والفقر وإزهاق أرواح عائلات بأكملها والإعاقة البدنية والافتقار إلى أبسط الضرورات ما هي إلا غيض من فيض التبعات الوخيمة للحرب. غير أن ثمّة تكلفة مستترة عادة ما تُغفل بسبب عدم تبديها للعيان؛ إنها اضطراب الصحة العقلية. وقد يتجلى هذا الاضطراب في صورة خوف، أو قلق، أو صدمة نفسية، أو اضطراب ما بعد الصدمة، أو اكتئاب، أو شعور بعدم اليقين أو العجز.
أتيحت لي في السنوات الماضية، بوصفي دارسة متخصصة في علم النفس، عدة فرص لزيارة لاجئين سوريين ومشاركتهم حياتهم اليومية والعمل على تقييم صحتهم العقلية عن طريق الدراسات المسحية. في مشروع بحثي شاركت فيه، بالتعاون بين الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة ويلفريد لورييه في أونتاريو بكندا، حاولنا مزج عدة أساليب لتحليل التجارب التي خاضها الأطفال والعائلات التي فرت بعيدًا بسبب النزاع الدائر في سورية المجاورة.
كنت مسؤولة في أثناء هذا المشروع عن عملية جمع البيانات النوعية والكمية، بطرق مثل إجراء مقابلات مع العائلات حول مواضيع حساسة. وفي مشروع آخر كنت مسؤولة عن جمع معلومات حول مؤشرات الصحة العقلية التي تنبئ بحدوث صدمة نفسية في أوساط مجتمع اللاجئين مستعينة بالدراسات المسحية.
وطأة الحرب على النفس
ما أن تطأ قدماك أرض مخيمات اللاجئين السوريين العديدة في منطقة وادي البقاع شرقي لبنان، حتى يتحلّق حولك الأطفال، فهم أول من تقع عيناك عليه داخل المخيم. تعلو وجوه بعضهم ابتسامات عريضة وتعابير فرح، وهم يأخذون بيدك إلى الداخل في حماسة، في حين يرقُب آخرون في صمت، بوجوه خالية من التعابير. ما أن تجلس لتستمع إلى حديث الآباء حتى تلحظ أمارات الاضطراب العقلي المستترة تفصح عن نفسها تدريجيًا في أشكال عدة لدى الكبير والصغير.
تتجلى أول صور هذا الإفصاح في الغضب وحدة الطباع المُفرَطَين إزاء بكاء الصغار. بينما يمكن ملاحظة ثاني أشكال هذا الاضطراب في أثناء الحديث معهم وطرح أسئلة عليهم؛ إنه الحذر والخوف. فبسبب عدم قدرتهم على الوثوق في الغرباء، غالبًا ما تأتي إجاباتهم مقتضبة وبعد تأنٍّ شديد. وعندما تنظر إلى الأطفال، تلمح في غالبيتهم خبوت روح الطفولة وجموحها اللذان يميّزان معظم الصغار. فتجدهم بدلًا من ذلك يجلسون صامتين ويحجمون عن المشاركة في أي أنشطة أو ألعاب تعرضها عليهم. بل يمتنع بعضهم عن مجرّد الرد عليك عندما تخاطبهم.
وفي جملة هذه العلامات، تبدّت لي أعراض أخرى تتعلق بالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. ففي أثناء زيارة لإحدى العائلات، التقيت أمًّا عاجزة عن تحريك رِجليها بسبب شلل أصابهما فيما شُخّص بأنه أحد الأعراض السيكوسوماتية لاضطراب ما بعد الصدمة. والأمراض السيكوسوماتية هي اضطرابات جسدية يلعب فيها العامل النفسي دورًا أساسيًا. وأفاد زوجها بأن الأطباء أخبروهما أن حالها يسوء بسبب الضغط النفسي الذي تعاني منه، وأن السبيل الوحيد لمساعدتها على الشفاء هو العلاج النفسي.
وفي حالة مُشابهة، ذكرت لي سيدة أخرى كيف أنها تجفل في هلع كلما سمعت صوتًا مزعجًا وتتداعى إلى ذاكرتها جميع الذكريات المرتبطة بفرارها من الحرب، فتجتاح أنفها رائحة البارود والدخان، وتأتي بردود الفعل الجسدية المقترنة بالحدث. شاب آخر كان يحدثني عن قسوة الشتاء القارس، ومسببات الضغط النفسي اليومية المتمثلة في مشاكل تصريح الإقامة والبطالة. غالبية الأطفال هنا يعانون من الصرع أو اضطرابات النمو. بعض الصغار منهم لديه إعاقات جسدية سببتها إصابات الحرب، وهؤلاء يشعرون بانعدام الأمان وينزوون بسبب شعورهم بالاكتئاب.
وكلما سمعتهم وهم يروون قصص ما عايشوه وفرارهم من أهوال الحرب أجدني عاجزة عن الكلام، أبحث جاهدة عن كلمات تواسيهم وتطمئنهم أنهم بأمان الآن. وكلما أمضيت المزيد من الوقت معهم، يتسلل إليك شعورهم بالعجز، وتدرك كم أنت عديم الحيلة أمام حالهم تلك.
اضطراب ما بعد الصدمة
تُعرّف الرابطة الأمريكية لعلم النفس «اضطراب ما بعد الصدمة» بأنه: اضطراب نفسي يؤثر على الأشخاص الذين خاضوا أو شهدوا أي حدث سبب لهم صدمة نفسية**. يظل الأفراد المصابون بهذا المرض أسرى أفكارٍ ومشاعرَ كرب شديد مرتبطة بتجربتهم حتى بعد انقضاء الحادثة الصادمة بزمن طويل. وقد يتسبب استرجاع ذكريات الماضي أو الكوابيس في معايشة المصاب للحدث من جديد، فتُستدعى المشاعر وردود الفعل السيكوسوماتية الجسدية المقترنة بالحدث، على ما تقول الرابطة الأميركية لعلم النفس.
وإذا ما أخذنا الظروف المعيشية القاسية مثل المجاعات، والبطالة، وانعدام اليقين بشأن المستقبل في الاعتبار، يسهل علينا إدراك الأثر البالغ لتكالبها، وكيف أنها تسهم مجتمعة في زعزعة الاستقرار العقلي. يشير مقال بعنوان «عواقب الحرب الأهلية السورية على الصحة العقلية للّاجئين» إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب هما أكثر الاضطرابات العقلية انتشارًا بين اللاجئين، في الوقت الذي لا تتجاوز نسبة الذين يتلقون العلاج المناسب منهم خمسة بالمائة فقط. هذا إضافة إلى أن النساء والفتيات الصغيرات يكنّ أكثر عرضة للعنف الجنسي.*** إذ يزيد الاستغلال الجنسي والاعتداء الجسدي من شناعة الواقع المروّع الذي يواجهنه، ما يفاقم المشاكل المتعلقة بصحتهنّ العقلية.
وقدرت دراسة أجرتها الغرفة الألمانية الاتحادية للمعالجين النفسيين في العام 2015 أن نصف اللاجئين السوريين الذين يعيشون في ألمانيا لديهم مشاكل عقلية، في حين أفادت السلطات التركية بأن 55% من اللاجئين السوريين على الأراضي التركية بحاجة إلى دعم نفسي. ****
من ناحية أخرى، يكون للوصم الذي يرافق التماس الصحة العقلية أثر بالغ على عقلية أولئك الذين يحتاجون إلى مثل هذه الخدمات. فتراهم يتجنبون طلب المساعدة بسبب أنهم محاصرون بالمفاهيم الخطأ المسبقة حول الأمر.
وبالرغم من أن الصحة العقلية حق أساسي يجب أن يُمكَّن كل فرد من الحصول عليه، فإن الأفكار المحيطة بها والاستخفاف بأهميتها صعّب مسألة التماس العلاج لمشاكلها. إننا إذا قلبت لنا الحياة يومًا ظهر المِجنِّ، نُسارع بالفرار من الواقع القاسي بطلب المساعدة من الآخرين، ولكن ماذا عن أولئك الذين لا يملكون ترف مثل هذه الخيارات والحلول التي تكشف الغمّة وتسرّي عن النفس؟ وبدون توفير خدمات ملائمة لهم، بمن يستجيرون؟ ومع ذلك، قد يستطيع البعض منهم تجاوز العذاب النفسي بمفرده، وذلك بمرور الوقت وتطوير قدرته على الصمود، تمامًا كأولئك الأطفال الذين قابلوني بابتسامة ورحبوا بي لدى دخولي المخيم.
Comments