على مدار أكثر من 10 سنوات من العمل في اللجنة الدولية، وخاصة في مجال إعادة الروابط العائلية، كانت رباب سمير شاهدةً على معاناة الانفصال بين أفراد العائلة الواحدة، إما بسبب كوارث طبيعية أو نزاعات عسكرية، أو نتيجةً لظروف اقتصادية خانقة. في هذا المقال تستعيد مواقف إنسانية شهدتها خلال تلك السنوات.
ما زلت أتذكر أول حالة تعاملت معها بعد استلامي العمل مباشرة في بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الكويت. كانت أماً مكلومة ترسل لي بين الحين والآخر عددًا من رسائل الصليب الأحمر المكتوبة بخط اليد والتي تحمل بين طياتها عبارات الشوق والحنين لابنها المحتجز في أحد السجون بعيدًا عن البلدة التي تعيش فيها عائلته. وفي كل مرة كانت تتواصل معي الأم هاتفيًّا لتستفسر عن وصول رسائل جديدة من الابن، كنت أستمتع بحديثها عن الصبر واليقين الذي ينمو بداخلها يومًا بعد يوم عن قرب عودة ابنها الغائب. كنت أنتظر معها بترقب وصول الرسائل من الابن المحتجز وكأنني واحدة من أفراد تلك الأسرة التي تتمنى أن يلتئم شملها في أقرب وقت.
لكن الحياة لم تكن عادلة وشاءت ألا تجتمع العائلة مرة أخرى بسبب وفاة الابن في مكان الاحتجاز. وفي نفس يوم استلامي لخبر الوفاة، وصلتني رسالتان إحداهما كانت الرسالة الأخيرة من الابن والتي كتبها قبل وفاته مباشرة، يبشر فيها والدته بأنه يشعر بأن اللقاء بات وشيكًا وأنه مشتاق لرؤيتها. بينما الرسالة الأخرى كانت من الأم تحكي لولدها عن انتظار كل أفراد العائلة لعودته إليهم، وتخبره بتجهيز غرفة خاصة له في منزلها استعدادًا لاستقباله.
كان تاريخ كتابة الرسالتين واحدًا. ربما كُتبتا في التوقيت نفسه، ولكن يشاء الله أن قصاصة ورق صغيرة تصبح هي الحوار الأخير بين الأم وابنها. فعلى الرغم من أن ولدها كان غائبًا عن العين، لكنه كان حاضرًا في رسائل الصليب الأحمر.
لم تمر عليَّ هذه الحالة مرور الكرام، فقد مكثت شهورًا أفكر وأُعيد قراءة رسائلهما مرة أخرى وأسأل نفسي ماذا لو لم تتمكن هذه الأم من مراسلة ولدها طيلة فترة احتجازه في بلد بعيد عنها؟ في اليوم نفسه، كانت الفرحة تغمر منزلًا آخر لإحدى العوائل التي تلقت خبر وجود ابنها على قيد الحياة بعد غياب دام أكثر من 20 عامًا، لم يفقد فيها الأب الأمل في معرفة مصير ابنه. لم يصدق الأب الخبر عندما حدثته هاتفيًّا وأخبرته بأننا تمكنا من معرفة مكان الابن الذي كان يُعالج في أحد المستشفيات من مرض نفسي مما جعله غير قادر على التواصل مع ذويه طوال تلك الفترة. ذرف الأب الدموع بعد علمه بالخبر. قال لي: «لم أتخيل يومًا أن في هذا العالم الذي نعيش فيه يوجد أشخاص جُل وظيفتهم في الحياة هي بذل الجهود للبحث عن مفقودين».
التعامل عن قرب مع الأشخاص الذين يبحثون عن أحبائهم كان سببًا في أنني تعلمت الكثير ليس فقط على المستوى المهني ولكن على المستوى الشخصي أيضًا. فقد أصبح الشعور بالآخرين يسبق الشعور بالذات. فكل حالة بحث عن شخص مفقود، رسالة صليب أحمر، أو مكالمة هاتفية تعاملت معها خلال هذه السنوات كانت بمثابة تأكيد لي بأنه لا شيء يضاهي سعادة إعادة التواصل بين الأفراد وأحبائهم. وأن التعامل يوميًّا مع مثل هذه الحالات يقودنا إلى التعمق في ثقافة الشعور بالآخرين وبظروفهم وتلمس احتياجاتهم، بل تقودنا لرغبة جامحة بالاستمرار في هذا العمل. السعادة التي أراها على وجوه الأشخاص الذين عثروا على أحبائهم بمساعدة عملنا نحن موظفي إعادة الروابط العائلية هي بمثابة شهادة نجاح لي.
الابتسامة التي تعلو الوجوه عند وصول خبر أن أحد المفقودين ما يزال على قيد الحياة، هي وسام أتمنى أن يظل ثابتًا على صدري طيلة العمر، أما رؤية عناق أب لابنه أو لابنته بعد غياب سنوات فهو المشهد الذي أتمنى أن أراه كل يوم. فالانخراط في العمل الإنساني يخلق بداخلنا نوعًا فريدًا من التقدير ومن دون أن نشعر، يصبح العمل الإنساني جزءًا لا يتجزأ من حياتنا لا يمكننا الفكاك منه.
نٌشر هذا المقال في العدد 69 من مجلة «الإنساني» الصادر في خريف/ شتاء 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا.
يمكنكم الحصول على عدد مطبوع من المجلة التي توزع مجانًا من خلال بعثاتنا في المنطقة. انقر هنا لمعرفة عناوين البعثات.
أنا شاب 24 سنة سبق و كنت متطوع بالهلال الأحمر التونسي، و حالفني الحظ لتلقي تكوين في لإعادة الروابط العائلية، في الحقيقة أعجبني المجال و أرغب بالعمل في هذا الإختصاص