في الشتاء، تفرغ الشوارع من المارة، ميدان التحرير بالذات يبدو فارغًا أكثر مما يجب، وكانت أضواء السيارات تنعكس على ماء المطر في أرض الشارع فتحدث توهجاً، ضياً يثير في النفس الكثير من الذكريات.
ينقبض صدري كلما مشيت في الميدان، وعلى الرغم من عدم تصريحي حتى لنفسي بصوت عالِ، إلا أنني أشعر بشكل ما أن طاقة المكان تطبق على صدري، أحيانًا أفكر أن الهواء لا يزال يحمل رائحة الغاز، ثمَّة ضباب خفيف أزرق متخلف من كل القنابل التي ألقيت وقتها، ضباب ساكن لا ينقشع أبدًا.
المشي في شوارع المدينة يشبه المشي داخل كرة شفافة، مشي في نفس المكان، بالذات لو كنت تمشي في منطقة وسط البلد، تخيل حركة الدوران المستمر حول الكعكة الحجرية، أو حول تمثال طلعت حرب. وعلى الرغم من ابتعاد الذكرى فإنها لا تزال كامنة بشكل ما.
وعلى الرغم من لحظات الفرح التي شهدها الميدان بعد ذلك. على الرغم من التجديدات والمسلة التي احتلت مكانها في منتصف الكعكة الحجرية وعلى جانبيها تماثيل الكباش، والأضواء التي تشع من البنايات المطلة عليه، فإن الطاقة الباقية لا تزال تصيبني بالانقباض، تعطل حواسي بشكل أو بآخر.
هناك أيام أفقد فيها القدرة على البصر أو السمع أو الإحساس أو التذوق أو الشم، ربما لأنني أرغب في التخلي عن الذكرى، فأتخلى في نفس الوقت عن نفسي. نحن الجيل الأكثر تواصلًا، وعلى الرغم من ذلك الجيل الأكثر إحساسًا بالوحدة. لماذا يقبع كل منا داخل كرة شفافة؟ لماذا نحيط أنفسنا بهذه الحواجز؟ يبدو أن الأمر يتعلق بالثقة، لم نعد نثق في أيِّ شيء، ولا حتى الفرح الهش وسط الأحباء لأنه في النهاية ينتهي مثل أيِّ شيء آخر.
2
أشعر دائمًا بأن الزمن اللزج لفترة التسعينيات والألفية الجديدة بات أكثر سرعة لدرجة عدم الإحساس به، لا يشعر أبناء جيلي بمرور الزمن كما كانت تشعر به الأجيال من قبلنا، وعلى الرغم من السرعة فإننا نشتكي عادة من بطء سير الأيام، ومن الملل الذي يسيطر على الحياة.
أكتب على الفيسبوك كل شهر، متى ينتهي هذا الشهر؟ أشعر أنني في انتظار شيء ما لا يحدث أبدًا، الانتظار يفقدني الشعور بالحاضر، أحيانًا أشعر أنني غير حقيقية، لا أعني وجودي المادي في الحياة، ولا حتى ما أكتبه على الفيسبوك، أعني شعوري نفسه تجاه نفسي، أشعر أنني بشكل أو بآخر مؤقتة، أريد الانتهاء من كل شيء بسرعة، أنتظر شيئًا ما أن يحدث، لكني لا أملك شيئًا ما يحدث.
سؤال كيف أخبارك يربكني لأنه لا أخبار، لا أخبار على الرغم من كل شيء، لا أخبار على الرغم من أيِّ تغيُّر، على الرغم من تحديث الحالات على الفيسبوك، على الرغم من الصور والكتب والروايات. لا أخبار تعنيني بالفعل، لا ردود سوى الحمد لله، ثم اعتصار ذهني في محاولة التفكير في شيء: أقرأ، أكتب، أنام أسمع مزيكا أشاهد أفلامًا.. أحداث عادية أو ربما جيدة، لكن لا أخبار.
أنشر صورة على الفيسبوك أبتسم فيها بسعادة حازت إعجاب المئات على الرغم من أنها صورة كاذبة لأنها منذ وقت طويل جدًّا، ولأنني غير ما أظهر في الصور، ولأني لا أبتسم عادةً، ولا أسرح شعري عادةً، ولا أرتدي ملابس جيدة. الآن أنا لا أبتسم، ولا أضع مكياجًا، شعري ملموم بتوكة قديمة وأرتدي جاكيت فوق بيجاما، أشعر بالبرد والقبح والحزن والمرارة، لكن الفيسبوك يزيِّف الحقائق ويزيِّف الحياة ويزيِّف تاريخ هذا الجيل.
3
أنسى كيف كنت أقضي أيامي في الماضي، قبل الثورة التكنولوجية وانكفائي أنا وكل شخص من حولي على هاتفه لا يرفع عينيه من عليه. لا أتذكر سوى لقطات متفرقة، أتذكر الشباك البنفسجي فوق الكنبة في غرفة الضيوف، كنت أواربه بما يكفي لأتلصص على الشارع وشرفات الجيران دون أن يراني أحد، في كل شرفة حكاية، قط سيامي يتثاءب في شرفة ماري، وكوب شاي منسي في شرفة طارق، وأشراش بصل في بلكونة طانط نبيلة، وسطح بيت طانط إيمان المليء بكراكيب تبدو مسلية جدًّا، ذات يوم صعدت مع ابنتها وصديقات الشارع إليه لننظف خزانة منسية ونرص فيها الكتب والمجلات، افتتحت وأنا طفلة أول مكتبة صغيرة في شارعنا.
لم يأتنا أي زبائن لكننا كنا سعداء بالمكتبة الصغيرة، سعداء على الرغم من فشل المشروع في يوم واحد، لكن الخزانة لا تزال باقية في مكانها، تلمع بعد تنظيفنا لها بالسلك على الرغم من الدجاج الذي يمرح حولها الآن.
لماذا توقفت عن المعافرة؟ ولماذا توقفت عن التلصص والمراقبة، أسير الآن في الشارع لا أرفع نظري عن الأرض، رأسي مشغول بهموم حمقاء لا معنى لها، تساؤلات وجودية عن قيمة حياتي، رغبة جنونية في نيل تقدير لا يأتي ولا يهمني في الواقع أن يأتي، إنما أفعل ما يتطلبه مني هذا الزمن، أفعل ما يتوقعه مني الآخرون، أنصاع للضغط المستمر عليَّ وعلى من حولي، ضغط التميُّز وكأنني سأربح كأسًا، وخلال السعي المحموم نحو هذه الكأس الوهمية، أنسى نفسي، أنسى ما أحب، ومن أحب، أنسى أن أعيش الحياة.
4
لم أعد أشعر بالفرح، لم تعد كلمات الحب تسعدني، توقفت حتى عن الشعور بالعاطفة نحو من أحبهم، وجودهم لم يعد مهمًّا إلى هذه الدرجة، حالة زهد تشبه ما قاله مصطفى إبراهيم في قصيدة المولوية؛ «أنا عارف أعيش من غير ما أحتاج إني أقرا الوقت.. من غير ولا واحد م اللي أنا أعرفهم دلوقت»، حتى وقت قريب كنت عاجزة عن البقاء وحيدة، كنت أخاف في لحظة انتهاء اليوم وخلود كل من أعرفهم للنوم، أبحث عن شخص لأحدثه على الهاتف، في عزلة الكورونا وقعت في فخ التعرف على أشخاص غير مناسبين، فقط لأبقى على تواصل إنساني طوال الليل.
وندمت بعد ذلك على كل لحظة ضاعت على اللا شيء، الآن لم أعد أريد سوى البقاء وحيدة، العزلة المزدوجة،عزلة الكورونا وعزلة ابتعاد الأحباء منحتني مناعة، يبدو أن الكمامة باتت رمزًا للحماية الفعلية والمعنوية، أرتدي الكمامة لأختفي، لا يتعرف عليَّ أحد بسهولة، أسير في الشارع أو المول دون أن أقلق من تعثري بأحدهم، وحتى لو حدث، أنا في مأمن من التلامس البشري، وفي مأمن من البقاء قريبة، وفي مأمن من الزيارات والمناسبات والتجمعات إلى حد ما، الكورونا منحتني فرصة جيدة لتحقيق حلم قديم بالاختفاء أسفل نقاب أسود، والتحول إلى شخص آخر، امرأة أخرى لا تشبهني لكنها أكثر تصالحًا مع روحي.
5
عشت في عشرة بيوت، لكنني دائمًا ما أفتقد الشقة التي عشت فيها لمدة عام ونصف في مدينة بعيدة جدًّا، إنتشون التي تطل على المحيط الهادي في كوريا الجنوبية. كنت أقف كل يوم في شرفة الشقة لألقي نظرة على الشارع الفارغ، أسأل نفسي أين أنا وما الذي أتى بي إلى هنا؟
لم أقدر يومًا على إطلاق لفظة بيت على هذه الشقة التي أعيش فيها، كانت العلاقة بيني وبين المدينة تترنح بين الكراهية والحب بطريقة مدهشة، كنت أسلم بمشاعري الطبيعية بالاغتراب والوحدة، لكن في نفس الوقت أحتفظ داخلي بتفاصيل الموجودات ورائحة الهواء وشكل المباني والجبل الذي يحد بصري على اليمين، والسماء التي تفتح لي آفاقًا أبعد على اليسار.
إلى اليوم أنا قادرة على استعادة صوت أنفاسي المتلاحقة وأنا أسير في الشارع الفرعي المتجه صعودًا إلى الشارع الرئيسي، أحفظ شكل الأشجار على الجانبين وبوابات الحدائق الصغيرة المحيطة بالبنايات، داخلها مفروش بالرمال وفيها أرجوحتان و«زحليقة» أحفظ شكل عربات الباعة على الجانبين، يبيعون الخضار والفاكهة والتوابل تمامًا مثلما يوجد في طنطا، حتى شكل البائعات واحد، يفرق بينهن عيون ضيقة وتجاعيد غائرة جدًّا وشعر مكشوف ناعم
أصل إلى الشارع الرئيسي فأتجه يمينًا، ربما أتوقف لأتفحص قطع الملابس منخفضة الأسعار معروضة على حوامل معدنية في الشارع، أو أشتري كوبًا من القهوة من مقهى صغير، هنا يمكن أن أجد مقهى على خمسة أمتار، ومحلًّا لمستلزمات الحيوانات الأليفة كل عشرة.
لماذا أشعر بحنين إلى هذه التمشية بالذات؟ الطريق الصاعد مرهق في المشي ورائحة الطحالب المطهوة الخارجة من مطاعم العجائز الصغيرة أسفل البنايات لا تشجع على النوستالجيا، لكني لا أنساها، لا أنسى دفء الأراضي الخشبية التي أخلع حذائي قبل أن أمسها، والوسائد الرفيعة التي أجلس عليها لأتناول الطعام الذي لم أستسغه يومًا.
لماذا تطاردني مدينة ضعت فيها إلى اليوم؟ ربما لأنني لم أمنحها فرصة؟ لم أدعها تعرفني على خباياها، على روحها، على الأسواق الصغيرة بين البنايات، على طعم الأناناس المثلج وكعكة الأرز بالفاصوليا الحلوة؟ لم أسمح لنفسي بمداعبة الأطفال أو اقتناء كلب صغير أو عقد صداقات؟ ربما لو فعلت ذلك كله، لو كنت تعلمت اللغة، لو كنت داومت على مشاهدة برامج الطبخ الكثيرة، أو الاستماع للأغاني الصاخبة والبكاء مع المسلسلات العاطفية، لو كنت تمكنت من الإحساس بالمطر في عز الصيف، والثلج الهش قبل ذوبانه في الشتاء، أو ربما لو كنت وحيدة.. وحدة فعلية وليست مجرد مجاز.. كنت سأتمكن من النظر بعين العطف على مدينة صامدة بين محيط وجبال، ربما كنت سأنتمي إلى البيت والشارع والمقهى والحديقة.
6
عندما استيقظت من النوم شعرت بعدم الارتياح، كأنني أسير بحذاء مليء بالرمال، غير قادرة على خلعه. لم أدرك لهذا الشعور سببًا، بدا وكأن شيئًا ما ناقص، أو كأن العالم من حولي صامت أكثر مما ينبغي.
وقفت أمام المرآة فلاحظت تكورًا منتفخًا في جانب عنقي، لمسته فشعرت بألم امتد إلى كتفي اليمنى، لحظات وبدأ الشدُّ في عضلات جسمي كله، وكأنني كنت أمارس رياضة عنيفة طوال الليل، تذكرت لمحات من حلم، أحاول فيه دفع بابٍ مغلق بقدمي، كنت أركل الباب الخشبي بعزم ما فيَّ دون أن ينفتح، عجزت عن تذكر بقيَّة الحلم فأدركت أن هذا هو سر ضيقي.
جلست بجوار الشرفة أحل الكلمات المتقاطعة، بدأ الصمت في الاختفاء شيئًا فشيئًا، تسللت أصوات الشارع من الشيش الموارب؛ حركة السيارات، حديث المارة، حفيف الخطوات. علمت أنه يوم الجمعة لأن المكوجي أسفل عمارتنا غيَّر محطة الراديو من إذاعة الأغاني إلى إذاعة القرآن الكريم، جاء صوت الابتهالات من بعيد وكأنه استكمال لحلمي، كنت أحاول تشتيت نفسي حتى أنسى أنني نسيت، لكنني لم أرتح، كلما عجزت عن حل كلمة أجزُّ على أسناني، أتذكر نفسي وأنا أركل الباب، وأشعر بألم في قدمي وعضلاتي.
تذكرت بابًا آخر مغلقًا من طفولتي، بابًا أزرق صغيرًا في حوش سلم البيت القديم، بدا وكأنه منبثقٌ من الحائط الرطب، لا تجويف خلفه ولا فراغ يسمح بوجود أيِّ مساحة يقود إليها، بنايتنا ملاصقة للبناية المجاورة ولا باب في المدخل المجاور، فإلى أين يؤدي؟ ولماذا يغلقونه بقفل كبير وكأنهم يخفون شيئًا؟
الألم لم يعد محتملًا، قررت الذهاب إلى طوارئ المستشفى القريب، كان فارغًا كأن المرض يحظى بعطلته أيضًا، فحصني الطبيب جيدًا، ضغط على التكوُّر وفرد ذراعي ليفحص أسفلها، قاس الضغط والسكر وضربات القلب، ثم أخبرني أنني بخير، قال: «هذا بالبلدي حيل»، كان يضحك وهو يشرح لي أسباب ظهور الورم الناتج عن التهاب ما في جسمي، لكن الكلمة أنارت عقلي.
هكذا شعرت في الحلم، أن حيلي انهد، والباب لا يريد أن ينفتح، مع كل ركلة تتضح الصورة أكثر، لم يخفِ الباب في حوش بيتنا القديم شيئًا، كان مجرد حاجب لمواسير وعدادات مياه شقق العمارة.
عندما تذكرت الحلم اختفى الألم، انفتح الباب على سماء زرقاء غارقة بالنجوم اللامعة، أدركت أنني في غرفة طائرة بلا تحكم، لكني لم أشعر بالقلق، جلست بين جانبيِّ الباب، سندت ظهري على جانب ورفعت ساقي اليمنى على الجانب المقابل، من بعيد كانت ثمَّة أغنية تدور:
«تشهد الأيام ع القلب المسامح
اللي عارف إن جرح الدنيا رايح
تشهد الأيام على كل اللي صانها
الليالي عارفة مين فينا اللي خانها»
كان الهواء يصطدم بوجهي لكني قادرة على التنفس، كان البيت يهتز في تحليقه كأرجوحة. وكنت مطمئنة.
نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 68 الصادر في ربيع/ صيف 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. لتصفح العدد كاملًا، انقر هنا.
للحصول على نسخة ورقية من المجلة، يمكنكم التواصل مع بعثاتنا في المنطقة العربية، وهم سيزودكم بإذن الله بما تحتاجون إليه من أعداد المجلة الحالية أو السابقة. انقر هنا لمعرفة عناوين وبيانات الاتصال.
Comments