لا أصدق أننا أصبحنا في العام 2025 بالفعل.
فجر هذا اليوم، كالعادة، تسلّلت إلى الشاطئ. هل كانت سماء غزة دائمًا بهذه الزُرقة؟ شعرت وكأنني وقعت في حب لوني المفضل من جديد. تنهّدتُ وكان النسيم العليل المنعش ينشط من حولي وكأنه يبعث فيّ الحياة من جديد! أغمضتُ عيني واستمعت إلى الأمواج تداعب الشاطئ قبل أن تنحسر.
يا إلهي! أعجز عن وصف نقاء المياه في تلك اللحظة. كانت صافيةً كالبلّور! أضحك الآن عندما أتذكر كيف كنت أستخدم “فلاتر” تطبيق إنستاغرام لإخفاء الاصفرار الذي صبغ الشاطئ. لا مزيد من مياه الصرف الصحي التي تُضخ في البحر، لا مزيد من التلوث. يمكنني السباحة حرفياًعلى طول الساحل. أكتب هذا وقلبي ينبض سعادةً، وتتضاعف فرحتي أمام الأطفال وهم يضحكون ويلعبون بأمان على الشاطئ.
أخيرًا أصبح بإمكان أطفالنا الاستمتاع بالحياة مثل باقي أبناء جيلهم حول العالم.
ما زلت أتعجّب عند رؤية مستشفى السرطان الحديث الذي يطل على الشاطئ. ما أجمل هذا المستشفى وما أروعه من إنجاز! لن يعاني مرضى السرطان في غزة بعد الآن بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الطبية الضرورية، خاصة أن المستشفيات تقف الآن على أهبة الاستعداد بتجهيزاتها التامة.
من كان يعلم أن فرقًا شاسعًا كهذا يمكن أن يحدث خلال خمس سنوات فقط من السلام والازدهار؟ لقد كنت متيقّنًا في مرحلةٍ ما أنّ معجزةً وحدها كفيلةٌ بإذاقة الأطفال والعائلات النازحة والرجال العاطلين عن العمل طعم النوم المريح. معجزة تُريحهم من مشقّة التسول والنوم على الكورنيش.
في يومنا هذا، يعتني برنامج مجتمعي بهم جميعًا. يمكنني القول الآن أنّي مرتاح البال.
أذكر المرات اللامتناهية التي قُطع فيها التيار الكهربائي عن غزة وشلّ حركتها. ما يبدو نادر حدوثه اليوم كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية هنا قبل بضع سنوات فقط. كنّا نعاني من انقطاعات التيار الكهربائي بشكلٍ دائم، وكانت طويلة ولا ترحم.
أمّا الآن، فالكهرباء متوفّرة طيلة أيام الأسبوع. أدرك تمامًا مدى أهميتها، ولكن لسخرية القدر، أصبحت الحياة مملّة للغاية. توفّر الكهرباء طوال الوقت يعني لا مزيد من الليالي الهادئة على ضوء الشموع، ولا مزيد من انقطاع الإنترنت الذي كان يجبرنا على القراءة أو التواصل مع عائلاتنا على غير العادة.
نخطّط أنا وأصدقائي للذهاب في جولة بالسيارة إلى القدس وقضاء ليلةٍ هناك. تقع القدس على بُعد ساعة فقط من هنا. ثم ننوي الذهاب إلى عمّان، سنحاول إيقاف السيارات المارّة حتّى تقلّنا إحداها بالمجّان، وسنسافر من هناك إلى القاهرة، سنفعل كل ذلك في يومٍ واحد. منذ بضع سنواتٍ فقط، كنت أتوق لزيارة القدس مرةً أخرى ولم يكن ذلك ممكنًا لكثرة القيود والحواجز.
سيكون هذا الصيف فريدًا من نوعه. نحن نعمل على تنفيذ مخيم بعنوان “مهرجان الإدماج المجتمعي”. سيجمع المهرجان أطفالًا وشبابًا من ذوي الإعاقات مع غيرهم من أبناء جيلهم، ليقضوا معًا صيفًا لن ينسوه طوال حياتهم. سنُقيم احتفالاً على طراز مهرجان “هولي” الهندي على الشاطئ، وسنلعب بالألوان ونتراشقها وسط أجواء من الرقص والموسيقى للتأكيد على أهمية التنوّع.
بالطّبع، يضم فريقنا- المكون من نساء ورجال، أشخاصًا من ذوي الإعاقة. بعد سنواتٍ من العمل الشاق، نجحنا أخيراً في سنّ قوانين تضمن مشاركة الأشخاص ذوي الإعاقة وإدماجهم في المجتمع؛ يجب ألّا نستثني أحدًا على الإطلاق. كما ازداد عدد المصانع في غزة التي أصبحت تشهد العديد من الصناعات المحلية المزدهرة، عادت إلى تصدير فاكهتها اللذيذة وزهورها الفوّاحة إلى الخارج.
على الرغم من امتناني وتقديري لعددٍ لا يحصى من النعم والتغييرات، أذكّركم بأنّه لا يزال أمامنا طريق طويل والكثير من المشاكل لإصلاحها، لكن الإيجابية هي مفتاح الإنتاجية. الأمور أبعد ما تكون عن الكمال، ولكنها تتغير للأفضل. يتحلّى الشباب والأطفال الآن بأمل حقيقي بدلاً من الأمل الزائف الذي كانوا يعيشون عليه. لقد أصبحنا ندرك متعة الشعور بالاستقرار والأمان، وهو أمر لم نعتد عليه من قبل. صحيحٌ أنّ عدم اليقين لم يختفِ من حياتنا، لكنه لم يعد أسلوب حياة.
البطالة في تناقصٍ مطّرد، ولم نلحظ ارتفاعًا في أعداد مبتوري الأطراف لفترةٍ طويلة. وأخيرًا أصبح الشباب قادة المستقبل وباتت أصواتهم مسموعة في شتّى المحافل. يمكننا القول إن الشباب هم من أنقذوا الاقتصاد وعملوا على بعثه من الرماد.
ولكن ما يذهلني حقاً هو الشعور الذي تبعثه شوارع غزة وطرقاتها في نفوسنا. لقد حافظنا على أصالتها وبقينا مخلصين حقّاً لقيمنا، وهكذا ظلّت غزة شامخةً بجوهرها الآسر المفعم بالحياة. سوف ينعم الفلسطينيون في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية بالسلام والتحرر، وسيتمتعون بالمساواة في حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير.
من المؤسف أنّ هذا كلّه من نسج الخيال، ولكن وقع الكلمات مغرٍ وساحر، أليس كذلك؟ لماذا يصعب تحقيق السلام؟ أتساءل في كثير من الأحيان، ألا يفضّل العالم غزة التي أتخيّلها؟ سأظلّ أحلم حتى يتحوّل الحلم إلى حقيقة.
في هذه الأثناء، حافظوا على سلامتكم والتزموا بيوتكم. لا تنسوا غسل أيديكم والتفكير في الآخرين.
Comments