فتحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أرشيفها للفترة 1966-1975 للجمهور في حزيران/ يونيو 2015. وبات من الممكن الاطلاع على آلاف الوثائق التي لم تعد تحمل صفة السرية، ومنها ملفات تتناول عمليات اضطلعت بها المنظمة في منطقة الشرق الأوسط. وننتهز فرصة هذا الحدث لإلقاء نظرة على تاريخ حافل بالأنشطة في الشرق الأوسط، والتزام إنساني راسخ حتى اليوم.
يعود الاحتكاك الفعلي للجنة الدولية للصليب الأحمر بالشرق الأوسط إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي هذه الفترة تحديدًا، نشطت اللجنة الدولية – وهي منظمة إنسانية تمد يد المساعدة لضحايا العنف المسلح، عسكريين كانوا أم مدنيين – في العديد من بلدان المنطقة (خاصة مصر وسورية)، مركزة عملها بالأساس على الضحايا الأجانب، أي أسرى الحرب الألمان أو الإيطاليين. ولم توجه اهتمامها إلى مصير السكان المحليين ممن كانوا يعيشون أيضًا في أتون العنف إلا بعد انتهاء الحرب مباشرة.
بدأت المنظمة تخطو أولى خطواتها في فلسطين في العام 1947 في أعقاب الحرب التي نشبت بين اليهود والعرب عقب تصويت الأمم المتحدة على مشروع تقسيم فلسطين؛ والمرة الثانية أثناء الصراع العربي – الإسرائيلي الذي بدأ إثر إعلان قيام «دولة إسرائيل» في أيار/ مايو 1948. وسعت اللجنة الدولية خلال هاتين الحربين إلى توظيف ما اكتسبته من خبرات أثناء الحرب العالمية الثانية لمساعدة وإغاثة السكان المدنيين وحماية المقاتلين الأسرى، كما طورت عملها وأنشأت مناطق أمنية تحت حمايتها في القدس.
البداية من فلسطين
واعتبارًا من كانون الثاني/ يناير 1949، وبناءً على طلب من الأمم المتحدة، أنشأت اللجنة الدولية هيئة لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين تتولى إقامة المخيمات لمن لا مأوى لهم وتوزيع المواد الغذائية وتقديم خدمات طبية شملت اتخاذ تدابير لمكافحة الأوبئة. وقدمت هذه الهيئة في الفترة بين كانون الثاني/ يناير 1949 و30 نيسان/ أبريل 1950، ما يزيد على 78000 طن من مواد الإغاثة للاجئين. وتولت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) هذه المهمة بدلًا منها اعتبارًا من أول أيار/ مايو 1950. وكنتيجة مباشرة لنزاع 1948، تعين على اللجنة الدولية أيضًا القيام بأنشطة لصالح اليهود الذين أتوا من مختلف البلدان العربية وخاصة من العراق.
نشطت اللجنة الدولية من جديد في منطقة الشرق الأوسط في العام 1956 أثناء أزمة السويس، فقامت بزيارات لأسرى الحرب المحتجزين في كل من مصر وإسرائيل وكذلك لمدنيين في الأراضي المحتلة في غزة وسيناء. وأرسلت أيضًا مواد إغاثة للهلال الأحمر المصري ونظمت حملة مساعدة خاصة لعدة آلاف من المدنيين في بورسعيد ممن دُمرت منازلهم بسبب الهجمات التي شنتها فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. شاركت اللجنة الدولية كذلك في إعادة المصابين بجروح خطيرة وإعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم بعد انتهاء الأعمال العدائية.
وثمة نزاع آخر أقل حجمًا تطلب تدخل اللجنة الدولية في الخمسينيات، عندما وقع خلاف على واحة البريمي بين المملكة العربية السعودية وإمارة أبو ظبي وسلطنة مسقط وعُمان [سلطنة عُمان حاليًّا]، الواقعتين آنذاك تحت الحماية البريطانية. ومع أن تدخل اللجنة الدولية كان محدودًا ذلك لأن الأزمة لم تستمر طويلًا، إلا أن ترحيب الأطراف المختلفة في المنطقة بمجرد وجود اللجنة الدولية كان له بالغ الأثر، فقد أتاح للمنظمة التعريف بأنشطتها وأيضًا الاعتراف بها كشريك إنساني ذي ثقل.
ظهر تأثير اللجنة الدولية إِبَّان الحرب الأهلية التي اندلعت في اليمن في 1962، فقد تمكنت اللجنة الدولية من أن تضع موطئ قدم على جانبي خط المواجهة بين «الملكيين» و«الجمهوريين»، وكلاهما مدعوم من دول أجنبية.
وعلى مدار سبع سنوات، واجهت اللجنة الدولية تحديات استثنائية في العمليات الإنسانية واسعة النطاق التي نفذتها في اليمن، بدءًا من محاولتها فرض تطبيق اتفاقيات جنيف، لا سيما لصالح أسرى الحرب في بلد كان يجهل وجود هذه المواثيق الدولية حتى ذلك الوقت، فضلًا عن تنظيم عمليات إغاثة وأنشطة طبية وجراحية في مناطق يَصعُب الوصول إليها في معظم الأوقات في ظل ظروف مناخية شديدة الصعوبة. وتمثل عمل المنظمة في الميدان بالأساس في محاولة الوصول إلى المحتجزين لأسباب أمنية وضمان تلقيهم معاملة إنسانية. وقد انتهى عمل اللجنة في هذا النزاع مع نهاية العام 1967 بانسحاب القوات المصرية من اليمن.
ظهر تأثير اللجنة الدولية واضحًا إِبَّان الحرب الأهلية اليمنية في ستينيات القرن الماضي
مَوَاطِئ أقدام جديدة
وفي مناسبات أخرى، دعيت اللجنة الدولية للعمل لصالح ضحايا العنف الداخلي، إلا أنها لم تحرز حظًّا كبيرًا من النجاح. ففي مصر وتحديدًا في العام 1954، عندما جرى حل جماعة الإخوان المسلمين وسجن آلاف من أعضائها في أعقاب محاولة فاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر* الذي كان يتولى مهام رئيس الوزراء آنذاك، خاطبت اللجنة الدولية السلطات المصرية لبحث إمكانية السماح لها بتقديم خدماتها الإنسانية لصالح هؤلاء السجناء وأسرهم التي كان أغلبها بلا مورد. لكن قوبلت مبادرة اللجنة الدولية بالرفض. ولم يحالفها الحظ أيضًا في سورية في العام التالي عندما أعادت الكرة إثر اغتيال أحد كبار المسؤولين في الجيش وإطلاق الحكومة حملات توقيف لأعضاء «حزب الشعب السوري» الذي ينتمي إليه القاتل.
وفي العام 1958، نشبت مواجهات في لبنان بين الجيش ومتمردين مناهضين للحكومة. أجرت اللجنة الدولية، التي كانت لها بعثة عامة في بيروت تغطي منطقة الشرق الأوسط منذ 1956، تقييمًا للأوضاع داخل البلاد وأرسلت إمدادات طبية ومواد غذائية عاجلة للسكان المدنيين. كما أجرت مساعي لمَصلَحَة الرهائن المحتجزين لدى فصائل مختلفة ونجحت في تحريرهم. أما في العراق، وتحديدًا في تموز/ يوليو 1958 فقد أطاح انقلاب عسكري بالنظام الملكي، وسرعان ما وجد القائد الجديد الذي عرف بقوته عبد الكريم قاسم نفسه في مواجهة انقلاب عسكري في الموصل سُفكت دماء كثيرة أثناء قمعه وشنت الحكومة خلال الأشهر التالية حملات توقيف متلاحقة.
وحاولت اللجنة الدولية مرتين التواصل مع السلطات العراقية لمناقشة إمكانية تقديم خدماتها الإنسانية للمحتجزين السياسيين إلا أن التوفيق لم يحالفها. وأسفرت مساعيها عن نتيجة غير متوقعة وهي إغلاق بعثتها العامة في بيروت.
أثناء أزمة السويس نشطت اللجنة الدولية وأجرت زيارات لأسرى الحرب المحتجزين في كل من مصر وإسرائيل
سنوات مفصلية
يحتل بطبيعة الحال الصراع العربي – الإسرائيلي في العام 1967 وحرب العام 1973 مركز الصدارة على قائمة النزاعات في الفترة من 1966 حتى 1975. اضطلعت اللجنة الدولية خلال هاتين الحربين بأنشطة ضخمة لمصلحة الضحايا من مختلف الفئات (الجرحى وأسرى الحرب والسكان المدنيين واللاجئين والنازحين). وبخلاف الأثر الحي والمستدام الذي خلفه الصراع العربي – الإسرائيلي بحربيه على المشهد السياسي للمنطقة، فقد شكلت هذه بداية لوجود اللجنة الدولية بوصفها منظمة تنهض بأنشطة إنسانية في إسرائيل والأراضي المحتلة. وهو الدور المستمر منذ قرابة نصف قرن.
ولا ينبغي للصراع العربي الإسرائيلي أن يخفي حقيقة مفادها أن الشرق الأوسط لا يزال يعتبر منطقة توترات مزمنة. فإلى جانب سلسلة الحروب الطويلة التي عرفها اليمن والتي انتهت بصورة مؤقتة في العام 1970، فقد عانى العراق أيضًا من أوضاع مضطربة. فعلى الصعيد الداخلي، شهدت فترة الستينيات نزاعًا محتدمًا في شمال البلاد بين الحكومة والسكان الأكراد. وبعد فترة هدوء قصيرة، استؤنفت أعمال العنف في العام 1974. وأطلقت اللجنة الدولية في نهاية السنة عملية إغاثة من إيران لصالح الضحايا في منطقة كردستان العراق. وتوقفت العملية في ربيع 1975 بعد أن توصلت حكومتا إيران والعراق إلى حل للنزاع الإقليمي. وكانت التوترات قد نشبت بين البلدين بسبب منطقة شط العرب، ومع أن التوترات كانت سياسية، إلا أنها أفضت لعواقب إنسانية مع طرد العراق لرعايا إيرانيين.
واعتبارًا من عام 1969، فتحت اللجنة الدولية بعثة لها في بغداد لجمع شمل الأسر الإيرانية التي تشتتت بين العراق وإيران وأغلقت اللجنة الدولية هذه البعثة في آذار/ مارس 1970 بعد أن عاد الوضع بين البلدين إلى طبيعته.
إلا أنه وفي نهاية العام 1971، طلبت الحكومة الإيرانية و[جمعية] «الأسد والشمس الأحمرين» [الهلال الأحمر الإيراني فيما بعد] مجددًا من اللجنة الدولية مساعدة آلاف الإيرانيين بعد طردهم من العراق. فأوفدت اللجنة الدولية ممثلين إلى إيران والعراق من أجل الاستفسار عن وضع هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يسكنون في مخيمات مؤقتة، ويعانون من مشاكل تشتت أفراد أسرهم. واقترحت اللجنة الدولية أن تلتقي جمعيتا «الأسد والشمس الأحمرين» و«الهلال الأحمر العراقي» في جنيف؛ أي على أرض محايدة لمناقشة القضية. وعُقد هذا الاجتماع في 1974، وشاركت فيه اللجنة الدولية بصفة مراقب. مهد هذا اللقاء الطريق لعقد اتفاق جرى التوقيع عليه في آذار/ مارس 1975 بين إيران والعراق.
وعلى صعيد آخر، واجه لبنان في مطلع العام 1975 سلسلة من أعمال العنف سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية. ساعد وجود اللجنة الدولية في بيروت منذ العام 1967 على التدخل السريع عندما اندلعت الاشتباكات بين الكتائب المسيحية والمقاتلين الفلسطينيين، فقد تمكنت اللجنة الدولية من إرسال عدة أطنان من إمدادات الإغاثة لا سيما المعدات الطبية. وكانت اللجنة الدولية تجهل آنذاك أن هذه المساهمة ستكون نقطة البداية لأنشطة إنسانية ستستمر طيلة 15 عامًا.
**
هامش
* تولى الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر منصب الرئاسة في العام 1956 [المحرر].
Comments