يميل أغلب البشر عبر التاريخ إلى الاعتقاد بأن للإنسان أصلا واحدا، مردّه إلى أب واحد، خرجت منه أم، وتزاوجا، فتكاثرت البشرية من بعدهما، نتاجا لتواصل علاقة التزاوج بين الذكر والأنثى. فالأصل، إذن، في الاعتقاد البشري الراسخ هو الوحدة التي يرمز إليها أب أول خرجت منه الأم الأولى، في الأديان السماوية الثلاثة، أو كائن منقسم على ذاته، في بعض أساطير الخلق.
وفي الحالتين، لدينا وحدة بشرية أميبية، لم ترد أن تتكاثر فحسب، بل أرادت أن تتنوع أيضا. فلو كان التكاثر هو الغاية وحده، لاكتفت هذه الوحدة الأميبية المفترضة بسلسلة من الانقسامات الذاتية التي يمكن أن تحقق هذه الغاية، ولكن الأرجح أن التنوع كان غاية أخرى، لذلك كان الذكر وكانت الأنثى، فكان، بذلك، نزوع البشرية الأزلي إلى التنوع، وحنينها الأبدي إلى الوحدة. وربما كان هذا الجدل هو الذي جعل “التنوع داخل الوحدة” أقرب إلى كونه قانونا طبيعيا يقود مسيرة البشرية، عبر تاريخها.
بدأ الإنسان تاريخه ملتقطا للحب والثمر، ثم عرف الصيد، فعرف به أول تحرك عن مركزه سعيا وراء رزقه. وعندما تطورت مهاراته في الصيد، أصبحت لديه وفرة من الحيوانات، فعاد ببعضها إلى مستقر مجموعته البشرية من النساء والأطفال، قبل أن يستأنف الرحيل سعيا وراء صيد جديد.
والأرجح أن المرأة راقبت سلوك الحيوانات إلى أن خبرته، فاستأنستها. والأرجح، كذلك، أن استقرار المرأة، في انتظار الرجل المرتحل دائما، ساعدها على اكتشاف الزراعة، من خلال مراقبة الكيفية التي تنمو بها البذور بعد سقوط المطر، فحاولت أن تحاكي الطبيعة، وأن تتخير ما تزرعه من بذور. وبالتوصل إلى استئناس الحيوانات، وباكتشاف الزراعة، عرفت البشرية أول تجمعات بشرية مستقرة، ولكنها بذلك كانت قد عرفت “الملكية” أيضا. وربما كان هذا هو الوقت الذي ظهر فيه أول إنسان قال: “هذه أرضي”.
ويفترض وجود الملكية نشوء قوة تحميها، وهو يفترض بذلك تفاوتا في القوى، لأنه لابد من غالب ومغلوب في معركة السعي إلى الامتلاك أو إلى الدفاع عن الملكية. وربما نشأت،من هنا، فكرة الهجرة، فالمغلوب عليه أن يرتحل عن أرض الغالب، بحثا عن أرض جديدة يفرض عليها سطوته. وربما قادت الهجرة مجموعات بشرية إلى الابتعاد عن أصولها، والاعتزال عنها، فنشأت بذلك اللغات التي تعددت وتنوعت أصواتها بتعدد وتنوع ما ترمز إليه، واختلفت عن الأصوات الأصلية باختلاف البيئة المحيطة.
وقد تكون الهجرة سببا –أيضا- لتعدد الأعراق، إذ يميل الإنسان إلى التكيف مع البيئة والمناخ المحيطين، فتختلف ملامحه وفقا لاختلافهما، وتتوارث الأجيال هذا الاختلاف، الذي يصبح مع الوقت طابعا مميزا لمجموعة بشرية من أخرى. وقد تكون الهجرة – والانعزال كذلك- سببا لتعدد الأديان، إذ تتعدد تصورات البشر عن “آلهتهم”، وفقا لما تمليه عليهم الحاجة والبيئة المحيطة. وساعدت صعوبة الاتصالات والمواصلات، في الأزمنة القديمة، على رسوخ معتقدات كل جماعة بشرية عن نفسها، وعن العالم، وكان من الصعب أن يتغير هذا سريعا، مع تحول الإنسانية من وحدة الأسرة إلى وحدة القبيلة، ثم إلى وحدة الدولة.
ظل الصراع على الملكية هو المحرك الأساسي للنزاعات بين البشر، لكنه اتخذ صبغة عرقية أحيانا، واتخذ صبغة دينية أو طائفية في أحيان أخرى، لتبرير ذلك، أو للحشد من أجله. على أن الإنسان الذي بدأ رحيله مستوطنا، تحول –مع ظهور الدولة، وتنامي رغبات الحكام في التوسع- إلى مستعمر، فوقعت جماعات بشرية تحت حكم جماعات أخرى قد تخالفها في العرق أو الدين أو الطائفة أو اللغة. وكان على هذه الجماعات أن تنتفض -من حين إلى آخر- سعيا على التحرر، أو إلى نيل المزيد من حقوقها.
وكان على الحكام –في المقابل- أن يواجهوا تلك الانتفاضات بالقوة والقمع، ليحافظوا على اتساع دولتهم ووحدتها. ولكن ذلك، على ما يبدو، كان صعبا في الكثير من الأحيان، إذ تصاب الدول بالشيخوخة مع الوقت، وتفشل في الحفاظ على وحدتها.
من هنا ربما، ينطلق ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى القول بأن “الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة”، وهو يرى أن “السبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوىً عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحتها تظن في نفسها منعة وقوة”. ويضرب مثالا على ذلك بأفريقيا والمغرب، “منذ أول الإسلام إلى هذا العهد” – أي عهد ابن خلدون- فيقول: “إن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغنِ فيهم الغلب الأول، الذي كان لابن أبي السرح عليهم وعلى الفرنجة، شيئا.
وعادوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرة أخرى، وعظُم القتل من المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة”. ويستشهد على ذلك بقول أبي زيد: “ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة، ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فيما بعده”. ويوضح ابن خلدون أن “هذا معنى ما يُنقل عن عمر بن الخطاب من أن إفريقيا مفرقة لقلوب أهلها، إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد”.
و”البربر قبائلهم في المغرب أكثر من أن تُحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر. وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والردة، فطال أمد العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقيا والمغرب”. وفي المقابل، يرى ابن خلدون أن “الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتفاض، ولا تحتاج الدولة فيها على كثير من العصبية”، ويضرب على ذلك مثلا مصر والشام إلى عهده.
سادت أفكار ابن خلدون، لزمن طويل بوصفه مؤسس علم الاجتماع، وواحدا من أهم فلاسفة التاريخ، القادرين على استقراء الماضي والخلوص منه بما كان يبدو –في رأي البعض- قوانين اجتماعية مسلما بها. ولا يزال ابن خلدون قابلا للقراءة، لكن التطور الذي شهدته البشرية في القرن العشرين، وفي العقد الأخير منه على وجه الخصوص، يفرض أن تتحول هذه القراءة إلى قراءة نقدية، وخاصة ما يتعلق من آرائه بفكرة التعدد الذي يفترض أن من شأنه إضعاف الدولة.
في الأعوام المائة الأخيرة، فاق حجم التطور الذي أنجزته البشرية ما كانت أنجزته طوال تاريخها كله، وحدثت ثورة حقيقية في المواصلات والاتصالات، جعلت من العالم قرية كونية صغيرة، قبل أن تلحق بها ثورة تكنولوجية جعلت منه حبة رمل على شاطئ كوني كبير، يفترض أن يعيش عليها، أو بداخلها، كل البشر.
وعندما نظرت ذات مرة إلى خارطة البروج السماوية، تساءلت: “أين بيتي؟”. وكان مضحكا ومدهشا في آن ألا أرى كرتنا الأرضية ذاتها. وعجبت من حجم أسلحة الدمار التي تحتويها حبة الرمل تلك، التي أعيش داخلها مع بقية إخوتي المتحاربين من مختلف الأعراق والأديان. وأدركت أهمية أن يبحث البشر عن صيغة مشتركة للتعايش، تعطي حقوقا متساوية وفرص عيش متكافئة للجميع. الحل –إذن- هو التكامل بين الحضارات، وصولا إلى ثقافة إنسانية واحدة، تستوعب التنوع داخلها وتذكيه، وتنطلق منه نحو عالم يسوده السلام، وتحكمه –في الأساس- قيمة الأخوة البشرية.
ولكن، ماذا نفعل بثقافتنا الموروثة عن خطورة التنوع؟ الإجابة: علينا أن نسعى إلى تغييرها.
قد يتطلب الأمر وقتا طويلا، لكنه ممكن. فالبشر لم يعودوا منعزلين كما كانوا في الماضي، وباتت معرفة بعضهم بالبعض الآخر أكثر من أي وقت مضى في تاريخهم.
إن شيئا يتغير في مسار تفكير البشرية، وأسسا جديدة توضع في الاتجاه نحو ثقافة إنسانية واحدة، لكنها متعددة، في الوقت نفسه. وهذا ما أكد عليه تقرير التنمية البشرية لعام 2004، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو تقرير يرسم طريقا إلى عالم جديد. ويؤكد التقرير على أن “الحرية الثقافية جزء حيوي من التنمية البشرية، لأن تمكن الإنسان من اختيار هويته دون خسارة احترام الآخرين، أو التعرض للاستبعاد من خيارات أخرى، شرط هام للعيش حياة كاملة. كما أن الاعتراف الأفضل بالهويات سيؤدي إلى تنوع أكبر في المجتمع يثري حياة الناس. فالناس يريدون ممارسة دينهم علانية، والتكلم بلغتهم، والاحتفال بتراثهم العرقي أو الديني، دون خوف من تهكم، أو عقاب، أو انتقاص لفرصهم المواتية. والناس يريدون المشاركة في المجتمع، دون الاضطرار إلى التخلي عن جذورهم الثقافية المختارة. إنها فكرة بسيطة، لكنها مثار قلق عميق”.
وفيما نرى، فإن القلق ينبع من أن العالم يتغير، إن لم يكن قد تغير بالفعل. فالكرة الأرضية، التي كانت هائلة الحجم، قبل حوالي مائة عام، جعلت منها ثورة الاتصالات حبة رمل صغير، كما ذكرت، ويجب أن نقبل –جميعنا- العيش فوقها أو داخلها، وأن تجد الإنسانية صيغة مشتركة، ومستديمة، وقابلة للتطور، لحياة تقبل بتعدد الثقافات وتنوعها، كأساس يساعد على تطور البشرية، لا صراعها وتناحرها. “يجب أن نبتهج باختلافاتنا”، على حد تعبير رئيس الأساقفة في جنوب أفريقيا ديزموند توتو.
نُشر هذا المقال في العدد 50 من مجلة «الإنساني» الصادر في خريف 2010.
Comments