لازمتني هواية جمع قصاصات الصحف والمجلات لسنوات، والنتيجة، أكوام من القصاصات تملأ الأدراج في منزلنا القديم. كان من بين ما جمعته قصة قصيرة نُشرت في إحدى الصحف التي تصدر من لندن، يلفتك السؤال في عنوانها، تشعر أنه يتوجب عليك التفكير في إجابة: «لماذا لا نذهب إلى البحر كثيرًا؟». تروي القصة حكاية أربعة أشقاء، من دون أن تشير إلى مكان الأحداث، لكن وقياسًا على المصير المؤلم الذي آلت إليه حياة كل واحد منهم. يمكنك أن تخلص إلى أن الإخوة هم رمز الشباب العربي البائس، ضحية مجتمعات أنهكها الفقر، والظلم، والحروب.

تشدك قوة التصوير في القصة، والمشاهد المتداخلة بين الماضي والحاضر، التي تنتقل في لقطات سريعة خاطفة لتربط بين أحداث الواقع وذكرى رحلة إلى البحر جمعتهم حين كانوا صغارًا. أنهي القراءة، أشعر أنني شاهدت فيلمًا سينمائيًّا متكاملًا.

أتمعَّن في اسم الكاتبة، بثينة الناصري، وفي التعريف عنها قيل إنها كاتبة عراقية تقيم في القاهرة. كمْ كانت تبدو القاهرة بعيدة آنذاك. فكَّرت، تفصلني عنها آلاف الأميال، ولا أظنني سأزورها يومًا، فأنا لم أغادر مدينتي من قبل، لكن، وبعد خمسة عشر عامًا من ذلك اليوم، قادتني جملة من المصادفات إلى المدينة التي كانت تتراءى لي بعيدة، وهناك، التقيتُ بثينة الناصري.

للفيس بوك وجهٌ آخر

لطالما كنت بعيدة عن شبكات التواصل الاجتماعي، وحضوري في عالمها في حدوده الدنيا، كمن يؤدي واجبًا ثقيلًا فرضته قوانين العالم الجديد، الذي صار يطلب منك إبراز حساباتك على شبكات التواصل لتأكيد هويتك. لكن الفيس بوك ليس سيئًا كله، فقد عرض أمامي ذات يوم، صفحة تحمل اسمًا حفظته جيدًا على مدار سنوات، بثينة الناصري، رأيتها تطل عليَّ من صورتها بشعرها القصير، وعينيها الخضراوين، ووجهها ذي الابتسامة الرائقة.

ليس من عادتي أن أسعى إلى لقاء كُتَّابي المفضلين، أشعر أنني قد التقيت بهم بالفعل في قصصهم وقصائدهم، لقاء روحيًّا هو في ظني أكثر جمالًا من اللقاء الواقعي، الذي يجرِّد المبدع من الهالة السحرية، التي يسبغها عليه القارئ في خياله، لكن الأمر يختلف مع بثينة الناصري، لم يكن هدفي أن أجري معها حوارًا صحفيًّا، أو أن أسألها عن آخر مشاريعها، أردت فقط أن أخبرها كيف ساعدتني قصتها تلك، التي وصلتني في وقت كانت فيه أيامي مثقلة بالحزن، أردت أن أحكي لها كيف كنت أحمل تلك القصاصة معي، وكيف رافقتني في أكثر الأماكن حزنًا، في ردهات المشافي الباردة، كيف كنت أحفظ مقاطع منها وأرددها، وأتخيَّل البحر وأشعر أن رائحته تكاد تغطي على رائحة المعقِّمات والأدوية.

أرسلتُ لها رسالة أعرِّف فيها عن نفسي، لم يلبث الرد أن وصلني، كانت لطيفة ومرحِّبة، التقينا في دار الأوبرا المصرية، في ليلة خريفية دافئة، وصلت بثينة ترتدي زيًّا خفيفًا، تمشَّينا قليلًا ثم جلسنا على العشب، وأهدتني نسخة من كتابها «كتاب المغامرات»، بادرتني بالقول وكأنها تشرح أسباب اختيارها للكتاب: «أعشق المغامرات والتنقل، وأضجر من المكوث طويلًا في مكان واحد». تضحك: «ربما لهذا اخترت القصة القصيرة، لأنها تشبهني».

هيئتها الرقيقة الهادئة لا تشي بذلك، قالت وكأنها أدركت ما جال في ذهني: «في منتصف السبعينيات، ذهبت في رحلة بحرية على متن باخرة تنطلق من الإسكندرية، وتمر على موانئ البحر الأبيض المتوسط». تصمت قليلًا ثم تتابع: «يومها لم تكلفني الرحلة كثيرًا، كان الدينار العراقي في ذلك الوقت يعادل ثلاثة دولارات ونصف الدولار، أما اليوم .. فقد تجاوز الدولار 1500 دينار».

ذكَّرني حديثها باليمن، إلى أين وصل انهيار العملة هناك؟ تذكرت شريط الأخبار في ذلك اليوم الذي أخبرني أن اليمن لا يزال يرزح تحت وطأة المجاعة، والخوف، وتبدد الآمال في حل قريب. ولكن، سأؤجل الحزن الليلة، وأنصت إلى ألحان فريد الأطرش التي تنساب بعذوبة من قاعة مجاورة. وإلى صوت بثينة الهادئ وهي تكمل سرد حكايتها: «وصلت برشلونة وبقيت هناك لأسبوعين، حتى انتهى ما لديَّ من مال، فكنت أكتفي بتناول السردين المعلب، وأنام في الحدائق العامة، وأطلب من المركبات العابرة أن تقلَّني، كانت مغامرة رائعة».

أخبرتني بثينة أنها نشرت أول قصة لها وهي في السادسة عشرة، واللافت أنها وفي تلك السن المبكرة كانت قد قرأت فيضًا من كتب الأدب العربي والأجنبي، ويرجع الفضل في ذلك إلى مكتبة والدها: «كان والدي عبد الكريم الناصري صاحب فكر فلسفي ومكتبة عامرة بالكتب، تعلقت به فكريًّا، أحترم ثقافته وذكاءه، لهذا جمعت كل المقالات التي كتبها في الفلسفة، وفي اللغة، وفي الترجمات، ونشرتها في كتب، أحببت أن أهدي له شيئًا في مقابل أنه أهداني وجودي في الحياة».

وفي مصر طابَ المقامُ

غادرت بثينة إلى مصر في العام 1979 واستقرت فيها، لكن، لم يكن التأقلم سهلًا، والثمن دفعته من قصصها: «ظللت لسنوات لا أستطيع الكتابة، كنتُ نبتة خُلعت من أرضها، وزُرعت في أرض جديدة. ثم بدأت في التكيُّف مع واقعي الجديد، وحين كتبت أول قصة بعد انقطاع طويل، أسميتها ميلاد، فكانت ميلادًا جديدًا لي». 

وعلى الرغم من أنها استغرقت زمنًا طويلًا لكي تتأقلم على الكتابة في البيئة الجديدة، فإن القارئ لا يكاد يلحظ في قصصها إشارة لهوية أو تحديدًا لبقعة جغرافية. ويستطيع كل أحد أن يرى ذاته في شخصياتها وأحداثها، أليس هذا صحيحًا؟ سألتها. هزت رأسها موافقة: «بالفعل، فأنا بعيدة عن المحلية، أشعر أنني مواطنة عالمية. قصصي لحظات إنسانية مجرَّدة، أدرك أن الإنسان هو ذاته في كل مكان، مثلًا قصة «الليلة الأخيرة»، تُرجمت إلى الإنجليزية، بعدها قابلت امرأة أمريكية أخبرتني أن القصة لمستها، وساعدتها على أخذ قرار ترددت فيه طويلًا».

لاحت لي الفكرة مثيرة لكنها مخيفة في الوقت ذاته، سألتها إن كانت تفكر وهي تكتب في أن كلماتها سوف تسافر مدنًا، وتنتهي في يد قارئ على الطرف الآخر من العالم، لا تدري ماذا ستبعث فيه من شعور، وأي أثر ستترك فيه، لكنها ردت بابتسامة تملؤها الثقة: «أذكر رسالة كتبها جندي عراقي لإحدى المجلات، يحكي فيها أنه كان قادمًا من الجبهة، وفي القطار المتجه إلى البصرة، وقعت في يده قصة «القطار المسافر»، ثم يصف كيف انهمك في قراءتها حتى وصل القطار إلى المحطة دون أن يشعر بمضي الوقت ولا بتعب السفر. ويسأل كيف يمكن أن يحصل على قصص أخرى للكاتبة. هذا بالتحديد ما أسعى إليه، رد فعل القارئ، أحب حقيقة أن كل قارئ يتلقى قصصي بشكل مختلف، يحذف منها، أو يضيف عليها من خياله أفكارًا جديدة قد تكون مناقضة لفكرتي، القارئ شريكي في الإبداع». 

الدخول إلى عالم صناعة الأفلام

الانشغال برسم المشاريع والمخططات، ثم السعي إلى تحقيقها، جزء مهم من حياة بثينة، فهذا يضفي على أيامها غاية ومعنى، قد تكون أهدافًا صغيرة، كأن تضع مخططًا يحدد أشغالها اليومية ونزهاتها القصيرة، وقد يتسع الهدف ليشمل قرار تعلُّم مهنة جديدة، الإخراج السينمائي مثلًا: «حلمي أن أحوِّل قصصي إلى أفلام سينمائية قصيرة، أن أرى كلماتي وقد تجسَّدت في شكل صورة». تدرس بثينة الإخراج وكتابة السيناريو في معهد للسينما، وقريبًا ستخرج أول فيلم لها. تعلِّق ضاحكة: «سيكتبون عني أنني أخرجت أول أفلامي في عمر الخامسة والسبعين. الإخراج هدفي لهذا العام، أما العام القادم فلا أدري، سأفكر في تحدٍّ جديد».

بدت قوية ومتحدية، على النقيض من الصورة التي رسمتها لها في مخيلتي طوال سنوات. سألتها إن كانت تدرك مدى قوتها، قالت: «ربما، أحاول دائمًا أن أبحث عن حلول، أؤمن أن لدى كل إنسان قوة كامنة لم يتعلم بعد كيف يستغلها، لم يعد لديَّ مخاوف، تغلبت عليها كلها، لا يشغلني التفكير في المرض ولا أخشى الموت، فالحياة خالدة، والإحساس بالحياة لا يموت، الموت والحياة، مثل الشمس، تغرب لكنها تشرق من جديد».

تجاوزت الساعة العاشرة ليلًا، شارف اللقاء على نهايته، كنت أتأهب لوداعها حين قالت: «هل تعلمين أني سأحوِّل قصة «لماذا لا نذهب إلى البحر كثيرًا» إلى رواية؟ بل إنني شرعت في كتابتها». غمرني الفرح، قلت هذه فرصتي إذن كي أسألها عن رفيق، الشخصية التي ظل مصيرها مجهولًا في القصة؟ ثم لماذا غاب ذكر الأب؟ وهل سيلتقي الإخوة مجددًا؟ هزت كتفيها: «أنا مثلك لا أدري، لستُ أنا من يقرر النهاية، أنا فقط أبدأ الحكاية، وقصصي تكتب نهاياتها بنفسها».

تستعد بثينة للتحضير لفيلم مشروع التخرج، ذكرت لها رغبتي في حضور العرض، ودَّعتها وافترقنا، سرنا في اتجاهين متعاكسين، بثينة الناصري من أولئك الناس الذين يعيدون إليك الرغبة في الحياة، قالت الكثير لكنني فضَّلت عدم نشره، حياتها لم تكن يسيرة، خالطها الكثير من الأسى والخسارات، لكنها لم تزل ممتلئة بحب الحياة. حيويتها تجعلك تسأل نفسك متى كانت آخر مرة وضعتَ فيها هدفًا، وسعيتَ إلى تحقيقه بحماسةٍ ونشاط. لكن الوقت لا يتأخر أبدًا لبداية جديدة، على الأقل هذا ما تخبرك به بثينة. شققتُ طريقي خارج ساحة دار الأوبرا، وسط الضحكات الصاخبة لأفراد فرقة مسرحية أنهت تدريباتها للتو، وما تزال ألحان فريد الأطرش تصدح في المكان: «يا حبايبي يا غايبين.. واحشيني يا غاليين».