لا ريب أن مجتمع المعلومات والتكنولوجيا لم يمهل مجتمعي القانون والسياسة كي يقننا القواعد اللازمة لمجابهة المخالفات الجسيمة التي ترتكب عند استخدام آليات التكنولوجيا الجديدة، ومنها الطائرات المسلحة من دون طيار، بذرائع منها مواجهة الإرهاب، فقد أزهقت هذه الطائرات أرواح الكثيرين بضغطة «زر» تحت غطاء «الحرب على الإرهاب».
يمثل تباعد المشغلين عن أهدافهم – عند استخدام الطائرات المسلحة من دون طيار [أو الطائرات المسيَّرة، أو الدرون – DRONES] – أخطر المحاذير التي يمكن لفت الأنظار إليها، فالاستهانة بالإصابة والقتل، والطمأنينة لانعدام الدفاع والرد، بل وعدم مشاهدة المصائب التي يتكبدها المحيطون من المصابين والقتلى والسكان المحليين، كل ذلك يدفع إلى المزيد من القتل وارتفاع مستوى الانتهاكات.
وإذا بحثنا عن القانون الدولي الإنساني لوجدنا ساحة القتال قد اتسعت – لمصالح سياسية محضة – لتغطي العالم بأسره، كما أُهدرت مبادئ التمييز والتناسب، فبات قصف المدنيين من الجو – بحجة البحث عن الإرهابيين – هو الأصل، ولم يُعتد بالهجوم الذي يكتفي – في نتيجته – بالميزة العسكرية المرتجاة.
ولما كان الهجوم بواسطة الطائرات بلا طيار من الجو – في لمح البصر – قد يهدر قيمًا عديدة سواء من مبادئ القانون الدولي العام أو القانون الدولي الإنساني، الأمر الذي قد يعيد النقاش القديم حول مشروعية الحرب الجوية بعد ما تكبدت البشرية كثيرًا من المصائب من جراء الاستخدام العشوائي لسلاح الطائرات بدون طيار، على الرغم من أن هذا النقاش قد وارته نداءات الاكتفاء بالامتثال لقانون الحرب ككل سلاح جديد وفقًا للمادة 36 من البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949.
تنص المادة الخاصة بالأسلحة الجديدة: «يلتزم أي طرف سامٍ متعاقد، عند دراسة أو تطوير أو اقتناء سلاح جديد أو أداة للحرب أو اتباع أسلوب للحرب، بأن يتحقق مما إذا كان ذلك محظورًا في جميع الأحوال أو في بعضها بمقتضى هذا الملحق «البروتوكول» أو أية قاعدة أخرى من قواعد القانون الدولي».
تحديد المسؤولية
ومن ناحية تحديد المسؤولية، يشهد الواقع الأليم أن انتهاك قواعد المسؤولية يجري على مستويين، الأول إصدار أحكام الإعدام التعسفي من جانب شرطي العالم بغير تحديد مسؤولية المستهدفين أو من تم اصطيادهم من المدنيين، والذين اعتبروا – على الأكثر – من بين الأضرار الجانبية، ومن ناحية ثانية؛ لم نشهد من الانتهاكات التي وقعت باستخدام الطائرات المسلحة حالة تم التحقيق فيها بالشفافية اللازمة وتحديد المسؤول وجبر الضرر أو معاقبة الجاني، على الرغم من كثرة حالات الافتقار إلى الشفافية والحيطة في الاستهداف.
وهكذا أضحى القتل المستهدف بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار – في نظر منفذيه – أمرًا هينًا، يبررونه بحالة الضرورة، بغير مراعاة أيٍّ من ضوابطها، إذ ينبغي أن يظل استخدام الطائرات المسلحة بلا طيار خاضعًا للقانون الدولي الإنساني، فالقول بغير ذلك – ولو لدواعي الضرورة العسكرية – من شأنه إهدار مبادئ القانون الدولي الإنساني، إذ إن استخدام الطائرات المسلحة بلا طيار مرهونٌ بتطبيق القانون الدولي الإنساني.
وإذا كان مبدأ الضرورة يمكن أن يحمل على معنى أنه في كل الأحوال ليست ثمة ضرورة تقتضي توجيه الأعمال العدائية ضد غير المقاتلين من السكان المدنيين وأعيانهم، وضد الأسرى والمرضى والجرحى، وهو ما يمثل مجمل قواعد القانون الإنساني الدولي، فإن من الجدير بالتأكيد أن الضرورة – في نظرنا – لا تجيز استخدام الطائرات المسلحة بلا طيار في القتل المستهدف – احترامًا للكرامة الإنسانية وللثقة المشروعة.
فمبدأ الضرورات العسكرية يُعد بمثابة استثناء على الأحكام والقواعد العامة للقانون الدولي الإنساني، إذ تمثل الوظيفة الأساسية – والهدف لهذا القانون – تقييد استعمال الأسلحة وجعل الحرب أكثر إنسانية، وأي استثناء على تلك القواعد لا يمكن التوسع في تفسيره وإلا كان ذلك انتهاكًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، فعند إثارة فكرة الضرورة العسكرية يجب الحذر ومراعاة المبادئ الأخرى للقانون الدولي الإنساني.
للحرب حدود
فالضرورة العسكرية – وكما تفهمها الشعوب المتمدنة المعاصرة – تقوم على الإجراءات الضرورية التي لا غنى عنها لتأمين أهداف الحرب، فمبدأ الضرورة العسكرية يقصد منه – بصورة عامة – تبرير اللجوء إلى استخدام هذا الحد من القوة اللازمة؛ لضمان إلحاق الهزيمة العسكرية بالعدو وإخضاعه بشكل سريع، وأقر إعلان بطرسبورغ – الذي يعود إلى عام 1868 -: «أن الهدف المشروع – الوحيد – الذي يجب أن تسعى الدول لتحقيقه أثناء الحرب هو إضعاف قوات العدو العسكرية».
كما أن التطورات التكنولوجية المتلاحقة في صنع الطائرات بلا طيار إنما تلفت النظر إلى انتهاكات محتملة يجدر بنا أن نتصدى لها، فالاستقلالية والاستهداف الذاتي الذي يحتمل أن يكون واقعًا خلال سنوات قليلة إنما يبرز أشد المخاوف صعوبة عندما تصير العلاقة مباشرة بين الإنسان وبين الآلة، مما يشير إلى آثار عديدة سواء من ناحية زيادة الانتهاكات أو قلة التبصر والحيطة من جانب متخذ القرار، بل وزيادة القتل المستهدف، فضلًا عن المباعدة بين القتل وبين المحاكمة.
وفي الأخير؛ على المجتمع الدولي أن يفعِّل المساءلة والشفافية، والامتثال للقانون الإنساني الدولي، وسن التشريعات الوطنية اللازمة لتنظيم استخدام الطائرات المسلحة بلا طيار وفقًا للقانون والتزامات الدول، بالإضافة إلى ضرورة تعظيم دور القضاء الجنائي في مواجهة الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني باستخدام الطائرات المسلحة بلا طيار.
ومن نافلة القول؛ ينبغي تعزيز الدور الملموس الذي يقوم به رجالات اللجنة الدولية للصليب الأحمر في نشر قواعد القانون الدولي الإنساني، وذلك بتوجيهه نحو الكشف عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار، والكشف عن أوجه مواجهتها وتبصير العالم بالمصائب التي تكبدتها البشرية من جراء عشوائية استخدامها في عدة مناطق في العالم.
لقد أهدرت ضوابط استخدام القوة المسلحة، فهل جرى التحقق من مشروعية استخدام القوة؟ وهل اكتُفي بالقوة اللازمة لتحقيق أغراض استخدامها؟
علينا أن نتذكر أن ميثاق الأمم المتحدة يحظر – على الإطلاق – استخدام الأسلحة المستقلة الفتاكة، ومن ثم نحذر من الانسياق – من قبل الدول – وراء التطوير في تكنولوجيا الطائرات المستقلة، وننبه أيضًا للفظائع التي قد تتكبدها الإنسانية من جراء نشر الأسلحة الآلية المستقلة عمومًا والطائرات المستقلة خصوصًا.
وفي الختام، يمكن استثمار قواعد الميثاق الواردة في المادة 2/4 في وضع ضوابط لاستخدام القوة بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار، تتمثل في:- أن تؤدي القوة المستخدمة بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار – بطريقة مباشرة – للإخضاع الكامل أو الجزئي للعدو، و- إمكانية السيطرة على القوة المستخدمة بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار، بمعنى عدم فقد السيطرة عليها منذ بدء استخدامها، بحيث يتحقق من وراء فقد السيطرة عليها خسائر زائدة عن الحاجة، و- أن لا تزيد القوة المستخدمة بواسطة الطائرات المسلحة بلا طيار – من حيث تأثيرها – عن الحاجة لإخضاع العدو.
وبالإضافة إلى ذلك؛ يجب أن تستوفي الدولة – التي تقول إنها تتصرف دفاعًا عن النفس – الشرطين المزدوجين المستمدين من القانون الدولي العرفي المتعلقين بالضرورة والتناسب، فهذان الشرطان على نحو ما حددا في سياق استخدام القوة بين الدول مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالمعنى المقصود من وصف تصرف ما بأنه يشكل عملًا مشروعًا من أعمال الدفاع عن النفس، ومن ثم، فإن الضرورة والتناسب يعنيان أن الدفاع عن النفس يجب ألا يكون عملًا انتقاميًّا أو عقابيًّا، وينبغي أن يكون الهدف منه وقف هجوم وصده، فالإجراءات التي تتخذ على نحو مشروع – دفاعًا عن النفس – كاستخدام طائرات مسيرة لاستهداف أفراد في أراضي دولة أخرى يجب أن تهدف إلى وقف اعتداء مسلح وصده، ويجب أن تكون – في آنٍ واحد معًا – ضرورية ومتناسبة لتحقيق ذلك الغرض.
*الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن الرأي الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر.
نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 68 الصادر في ربيع/ صيف 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. لتصفح العدد كاملًا، انقر هنا
للحصول على نسخة ورقية من المجلة، يمكنكم التواصل مع بعثاتنا في المنطقة العربية، وهم سيزودكم بإذن الله بما تحتاجون إليه من أعداد المجلة الحالية أو السابقة. انقر هنا لمعرفة عناوين وبيانات الاتصال.
Comments