قليلة هي الفرق الغنائية النسائية في العالم العربي لكن “البلابل” فريق مازال يطرب السودانيين منذ 40 عاما بل وترك بصمته في الذاكرة الشعبية لهذا البلد.
لم أجد طريقا للوصول إلى فرقة البلابل إلا بالاتصال بالفنان عمر إحساس، أحد أشهر مغني دارفور والسودان. أعطاني رقم هادية، أكبر أعضاء الفرقة ثلاثة سنا وقاطرتها. كان بعض زملاء العمل قد كلموني عن الفرقة قبل أكثر من عام بقليل. وكنت أنوي الذهاب إلى الحفلة التي كانت ستحييها بتاريخ 25 كانون الأول/ديسمبر 2008 في الخرطوم للمرة الأولى بعد غياب استمر نحو عشرين عاما.
“لحسن حظك أنك لم تأت”، قالت لي آمال، إحدى الأخوات الثلاث. “كانت الشوارع الثمانية القريبة من نادي الضباط الذي يتسع لما بين خمسة وسبعة آلاف مشاهد، حيث أقيم الحفل، مغلقة تماما، وما كان بإمكانك الوصول إلى هناك”.
يومها غنّت فرقة البلابل “رجعنا لك”، إحدى أشهر أغنيات الفرقة العاطفية. تقول الأغنية:
رجعنالك وجينا… غفرنا إنك بالوشاية فصدت كبد الفرحة فينا
رجعنالك وعينينا إلبكت فجعت رموشها دموع سخينة
بفرح عودتنا رفّت، زغردت كلمات حنينة
غياب عشرين عاما عن الساحة الغنائية في السودان لم يقلل من شعبية الفرقة التي بدأت عملها قبل ما يقرب من أربعة عقود. وهو أمر قد يكون بالغ الدلالة على المكانة التي تبوأتها الفرقة في الساحة الغنائية والفنية في السودان. وقد يكون اختيار الأغنية العاطفية لتكون قلب الاحتفال تلميحا إلى الكثير من الأمور التي طرأت على السودان، أولها عودة الفرقة للغناء بعد انقطاع طويل، وثانيها التغير الهائل في المشهد السوداني اجتماعيا، وسياسيا، وفنيا، واقتصاديا.
والد مثقف وراء نجاح بناته
انحدرت البنات الثلاث من أسرة حلفاوية تعشق الرقص النوبي. وكان والدهن محمد عبد المجيد طلسم، مسؤولا حينها عن مدارس البنات الثانوية في جميع أنحاء السودان، ومهتما بتشكيل جمعيات أدبية في المدارس لتنشيط الحركة الفنية في البلاد. وقد أسس، وأكبر أربع بنات من بناته السبع، فرقة للرقص الشعبي النوبي في الخرطوم. ولما قامت “الفرقة القومية للفنون الشعبية” التي أسسها اللواء جعفر فضل المولى، قائد سلاح الموسيقى في القوات المسلحة السودانية في سبعينات القرن الماضي، انضمت البنات الأربع إلى الفرقة. ثم ما لبثت البنات الثلاث الأصغر سنا- حياة وأمال وهادية- أن التحقن بالفرقة نفسها. لم يكن عمر هادية يتجاوز الخمس عشرة عاما حين انطلقت الفرقة، وكانت آمال في سن الثالثة عسرة وحياة في الحادية عشرة من عمرها.
أعجب اللواء فضل المولى بأداء البنات الثلاثة إلى حد أنه عرض عليهن المشاركة في تقديم مقطوعة قصيرة هي “أريج نسمات الشمال” شارك فيها الموسيقار بشير عبّاس، أحد أكبر الملحنين السودانيين، بالعزف على العود والصفير من فمه، وقد عرضها التلفزيون القومي السوداني ونجحت نجاحا كبيرا.
كان ذلك هو اللقاء الأول بين “البلابل” وبشير عبّاس الذي قام بعدها ولفترة طويلة من الوقت بتقديم الألحان للفرقة.
هكذا انطلقت أشهر فرقة نسائية غنائية سودانية. بعدها كتب فضل المولى أغنية عاطفية للفرقة بعنوان “مشينا” وقام بشير عبّاس أيضا بتلحينها. وتقول هادية “إن تلك الأغنية كانت الانطلاقة الفعلية لفرقة البلابل حيث قام الأديب البروفيسور علي الْمَك بإطلاق اسم البلابل علينا سنة 1971”.
“لم تكن هناك نية لاحتراف الغناء”، قالت لي حياة في منزلهن الذي ما زال مكانه منذ الانطلاقة. “لكن زيارة قمنا بها إلى أديس أبابا لعرض الغناء السوداني، إضافة إلى الاستقبال الجماهيري الحار للفرقة في السودان، وتشجيع الناس وإعجابهم دفعنا للاستمرار.”
عدد النساء من المطربين كان قليلا في السودان قبل تلك الفترة رغم وجود بعض المغنيات المشهورات مثل عايشة الفلاّتية. لكن أغاني النساء كانت مقتصرة على فئة معينة من النساء، كما يقول المطرب السوداني المعروف عمر إحساس. “الفرق الأساسي هو أن البلابل جئن من عائلة متعلمة حيث كان والدهن يعمل بالتدريس وكان معروفا بتشجيعه للعمل الفني المرتبط بالتقاليد السودانية والفن الشعبي السوداني بكافة أطيافه،” يقول إحساس. “وهو أول من شجع بناته على العمل حيث شكل فرقة الرقص الشعبي النوبي في الخرطوم بمشاركة بناته السبع”.
ومع ذلك “كانت البداية صعبة،” تقول حياة، “وقد وجهّت لنا الصحافة انتقادات شديدة، وخاصة أننا كنا نحرك أجسامنا مع اللحن أحيانا. لكن كان هناك الكثير من الإطراء والمديح أيضا. وكان التأييد الشعبي هائلا”.
مجموعة من الشعراء والأدباء الذين واكبوا تجربة البلابل وشجعوها أسهموا أيضا في زيادة شعبية الفرقة. “الشعراء من أمثال إسحاق الحلنقي، علي سلطان، وسيف الدين الدسوقي فصلوا الكلمات على أعمار بنات الفرقة” تقول آمال، “وساعد ذلك في عملية تطور الفرقة ونضوجها وزيادة شعبيتها فلم يكن هناك أي ابتذال”، تضيف هادية تصديقا على كلام شقيقتها.
بداية التغيير في النظرة للمطربات
شكلت أغنية “رجعنا لك” للمحامي الشاب عبد الباسط سبدرات مرحلة متميزة في حياة الفرقة إذ كانت أطول من أغنيات الفرقة الأخرى، وقد تميزت بلحن أكثر تعقيدا، وبكلمات أكثر نضوجا من الناحية العاطفية، وبعمق في المعنى. وقد أبدع بشير عباس في توزيع اللحن مع الكلمات. “لم يكن من الممكن توزيع اللحن بطريقة أفضل”، تقول هادية. “لقد كان لحنا مبدعا”. وقد استخدم شطر من كلمات الأغنية لاحقا كجزء من ملصقات الفرقة وشعارها. كان لتلك الأغنية والشعبية التي اكتسبتها أثرا بالغا في تشجيع نساء أخريات على العمل في مجال الغناء. وقد امتلأت الساحة بعدها بالكثير من المغنيات.
وفي عام 2008 كانت هي الأغنية التي مثلت عودة البلابل الثلاث للغناء في السودان في حفل مهيب وبهيج.
أمر آخر ترك أثرا عميقا في شعبية الفرقة في السودان وأدى إلى تغيير نظرة المجتمع لفن الغناء النسائي. “لقد جبنا نحو 90 بالمئة من مدن السودان وقراها، وكان 99 بالمئة من ريع الحفلات يذهب على شكل تبرعات للمدارس والمستشفيات ولإقامة النوادي الرياضية والثقافية في المدراس”، تقول هادية. “كانت عائلتنا كلها تعمل في التدريس بدءا من الوالد ومرورا بالأعمام والأخوال وغيرهم”.
ثبات البلابل، ونجاحها، واستمرارها، وتغلبها على القوالب التقليدية التي كانت تمانع غناء النساء أدى إلى إقبال العديد من النساء على الغناء والاستمرار فيه مثل سمية حسن، آمال النور، حنان النيل، وحنان إبراهيم. وتقول آمال إن ذلك يعود أيضا إلى أن الفرقة اختطت لنفسها خطا واضحا فيما يتعلق بأماكن تنظيم حفلاتها. “نحن كنا نغني فقط على المسارح، وفي الإذاعة والتلفزيون ولم نكن نغني أبدا في حفلات الأعراس مثلا”. وهو ما أضفى مزيدا من الاحترام للفرقة والعمل الغنائي النسائي بشكل عام.
تزوجت البنات في مرحلة لاحقة، وهاجرت كل من هادية وآمال خارج السودان، وتغيرت الظروف السياسية في البلاد. لكن عقد البلابل لم ينفرط وإن انقطعت الفرقة لسنوات طويلة عن الغناء بحضور البلابل الثلاثة. وواصلت هادية الغناء في الولايات المتحدة حيث استقرت مع زوجها وعائلتها.
“أذكر أننا أقمنا حفلة كبرى في “سنترال بارك” في مدينة نيويورك في يوم السودان عام 2007″، تقول هادية. وشارك في ذلك اليوم عدد آخر من المطربين السودانيين منهم عمر إحساس ويوسف الموصلي وعلى السقيد، وعمر بانّقا. كان يوما مشهودا وفقا لهادية “فآلاف الناس من سكان نيويورك كانوا يتمايلون على وقع الألحان السودانية”. وقد قام الدكتور متوكل محمود، وهو جراح قلب سوداني مشهور يعيش في الولايات المتحدة بطرح فكرة اليوم السوداني وتنظيمه بمساعدة مروجة أغان أميركية من أصل لبناني تدعى دون إلدَر. وفي العام 2008، قامت المجموعة نفسها بعروض مماثلة في مدينتي شيكاغو وديترويت
لكن ما الأثر الذي تركته فرقة البلابل على الساحة الغنائية النسائية في السودان؟ يجمع كل من طرحت عليهم هذا السؤال على بضع نقاط: تغيير المفاهيم المجتمعية عن المغنيات، ونظرة المجتمع للمرأة الفنانة، وبعث الروح في جيل جديد من المغنيات.
أسهم الانفتاح الذي يشهده السودان حاليا في عودة البلابل إلى العمل بعد انقطاع استمر 20 عاما. خلال تلك الفترة توجهت آمال إلى مكة المكرمة وأدت فريضة الحج. كبر الأطفال وأصبحوا قادرين على العناية بأنفسهم. وظهرت العديد من الأصوات النسائية على الساحة الغنائية السودانية، وأصبح الغناء النسائي فنا محترما.
تقول هادية “كبر الأطفال، لذلك عدنا إلى طفلنا الأول، البكر، أي الفن”.
تعليقات