البداية بعد الحرب، أي بعد العام 2003 في العراق وأنا بعدُ بعمر الخمس سنوات، صرتُ أعاني من ألم في الساق اليمنى، وبعد إجراء التحاليل والفحوصات اتضح أنني أعاني من سرطان نخاع العظم.
لسوء الحظ أن الطبيب قرر أن يأخذ عينة بعملية جراحية، ومن الخطأ أن تكون هناك عملية لعينة طبية دون تهدئة المرض، بعد العينة تعرضت فخذي اليمنى للالتهاب جراء هذه العينة، وأخذ هذا الالتهاب يكبر ويكبر بالحجم، حتى وصلت إلى مرحلة الموت الحتمي، فقررت عائلتي السفر بي إلى خارج العراق.
بداية رحلة العلاج كانت بالأردن بمستشفى الحسين للسرطان ثم قرر الطبيب أن تُبتر الساق اليمنى لأنها أصبحت تالفة بسبب كبر حجم الالتهاب وتهيجها، بُترت ساقي من منطقة الحوض فوق الفخذ ولم يتبقَّ لي أي عظم من ساقي عدا عضلة صغيرة لتثبيت الطرف الاصطناعي عليها، بعدها بدأت رحلة التعافي من السرطان بجرعات الكيماوي لمدة عام مستمرة، ثم توقفت بعدها، واستمرت المراجعات لست سنوات للتأكد من تمام صحتي أو احتمالية عودة المرض.
وبدأت رحلة أخرى، وهي الأصعب والأشد، رحلة التأقلم مع الساق الاصطناعية لأنني كنت طفلة وواجهت صعوبات بتقبلها نفسيًّا وجسديًّا، لكني كنت مضطرة لاستكمال الرحلة حتى أستطيع مساواة نفسي مع بقية الأطفال وأشاركهم المقعد الدراسي واللعب والتنقل. مرت السنوات الأولى بالمدرسة مع الطرف الاصطناعي وتعرضت للكثير من التنمر والكلام الجارح لأن شكل الطرف في هذه الفترة كان غير مألوف للناس وكانت ثمة صعوبة لديهم في تقبل ما هو مختلف.
بدأت المرحلة الإعدادية، والتفكير بدأ يتشكل والوعي بدأ ينضج، وفكرت إلى متى أبقى محط أنظار الآخرين ومحل شفقتهم؟ ماذا عليَّ أن أفعل حتى أتجاوز هذا البؤس الذي سرق مني الكثير؟ للحظة ما خطرت لي إجابة: “فكري بمخاوفك وافعلي ما يخيفك ويؤذيكِ”.
الآن لا شيء يؤذيني غير ساقي الحديدية ونظرة الآخرين إليَّ! واجهي إذن الناس بمخاوفك.. وكان أن واجهت الناس بساق حديدية ظاهرة (أقصد إبراز الحديدة برفع الملابس عنها) وبدأت أزداد قوة يومًا بعد الآخر، وأصبحت أستطيع الرد على من يجرحني بالكلام!
كان التعامل مع الناس تحديًا كبيرًا في البداية حيث كافحت من أجل العثور على مكاني في هذا العالم الجديد الذي وقعت فيه.
لكنني اتخذت موقفًا مفاده أن أفكار وآراء الآخرين هي حقهم الكامل في التعبير عنها وهي أيضًا ليست من شأني على الإطلاق. فلِمَ أنا مشغولة جدًّا بكل هذا الهراء الذي وضعته الإعاقة في طريقي؟ ولِمَ أزعج نفسي بأشياء ليست من شأني؟!
هنا بدأت أفكر بأقراني من ذوي الإعاقة وما أستطيع أن أقدمه لهذه الفئة (وهنا لا أقول ذوي الهمم لأن تسمية الإعاقة هي الرسمية ولأنهم فعلًا أصحاب إعاقة، ومفردة إعاقة لا تعني بالضرورة أن الفرد بات مَعُوقًا عن مواصلة حياته، بل إنه يمكن استخدام لفظة «الإعاقة» بحيث تكون دالَّة على حال حقيقية دون إساءة. أعلم أن هذا لا يغير حقيقة أن الكثير من الناس حساسون للغاية تجاه الكلمة، ربما نظرًا لأن بعض الأشخاص استخدموا الكلمة كوصمة عار، ما جعل من المقبول تجنب استخدامها كلما أمكن ذلك.
أحب أن أفكر في الأمر من حيث معناه في لعبة الجولف أو الرياضات الأخرى، الإعاقة هي نوع من النعمة يحددها مستوى المهارة الذي يسمح للاعبين بالمنافسة. إذ كلما زادت مهارة الشخص، انخفضت إعاقته.
في تلك الفترة، كانت مواقع التواصل الاجتماعي بأوج ازدهارها وبداية غزوها عالمنا، وقد فكرت حينها أن أنشئ صفحة على موقع الانستغرام أشارك من خلالها يومياتي مع ساقي الاصطناعية وأنا أمارس جميع تفاصيل حياتي، من المدرسة إلى الدرس الخصوصي إلى السوق إلى المنزل، وهنا أصبحت أمام مسؤولية كبيرة وصرت مطالبة بالظهور على أرض الواقع لأشارك الناس قصتي.. وهذا ما حدث.
شاركت بالعديد من المهرجانات والفعاليات التي تدعم كل الناجحين والمميزين وصارت صفحتي على الانستغرام هي سبيلي الوحيدة للتصالح مع نفسي، وبث نفس الرسالة التصالحية تلك للآخرين، فصرت أشاركهم كل نشاطاتي الاجتماعية بالفعاليات والندوات وصار الجميع يشاهد آية التي فقدت ساقها، بينما تمارس حياتها بكل تفاصيلها، وأصبح الواحد منهم يتساءل: لماذا لا أفعل أنا الآخر مثلما تفعل آية؟ وقد كان هذا عين هدفي من ظهوري على مواقع التواصل الاجتماعي.
بشكل عام، لم أكتفِ في ذلك الوقت، بنشر رسالتي وأفكاري لذوي الإعاقة فقط، إنما صرت أفكر بكيفية الدخول لعالم الإعلام المرئي.
مع الوقت، لانت فطرتي بالتحدث بشكل سلس ومفهوم، ودفعني شغفي بالحديث أمام المرآة إلى أن أطور نفسي حتى أدخل هذا العالم، وفعلًا، استغرقتني سنوات من التطوير والتمارين والاجتهاد والفشل والنجاح في ممارسة المهنة على محطات بسيطة بتقديم البرامج، ثم بعد سنتين دخلت رسميًّا عالم الإعلام التلفزيوني وأصبحت أول مقدمة برامج من ذوي الإعاقة في الإعلام العراقي وإلى ٰ اليوم ما زلت أمارس هذه المهنة الأحب إلى قلبي.
لكن وجودي بالإعلام المرئي لم يمنعني من الظهور على مواقع التواصل، وكمْ كان لها دور بارز بصناعة أشخاص يتقبلون ذواتهم وإعاقاتهم. منذ دخولي إلى عالم التواصل الاجتماعي عام ٢٠١٥ إلى الآن، وأنا أستقبل يوميًّا العديد من الرسائل من أفراد استطاعوا أن يتقبلوا أنفسهم وتشجعوا للخروج إلى الشارع بسببي وبسبب وجودي بينهم، واستطاعوا أن يغيروا أنفسهم ووجهات نظرهم بسبب ما شاهدوه على صفحتي، وبسبب شخصيات أخرى أيضًا سلكت نفس المسلك وحملت ذات الرسالة لهم، وهم كثر وعديدون وبمختلف الإعاقات، عند هذه النقطة، يتضح الدور الفعَّال جدًّا لمثل تلك المواقع والمنصات بتكوين أشخاص خالين من الألم والإحباط.
في تجربتي، أنا لم أتوجه إلى ملف حقوق ذوي الإعاقة والهتاف من أجل الحصول على حقوقهم والمناداة بخلق منشآت مخصصة لهم أو إنشاء منظمة خاصة لهم.. لا.. الأمر لم يعد بهذا الهول الآن، بل إن هذا لا يقدم لهم أشياء ملموسة!
ولأن ما نحتاجه اليوم، وكل يوم، هو مساعدة المعاق على أن يتصالح مع نفسه ويتقبل إعاقته ويواجه المجتمع بها، فإن كل ما سبق ذكره لا تقدمه مجموعة معنية بحقوق ذوي الإعاقة أو إدارة مؤسسة معنية بهم. اليوم نحن بحاجة إلى فعاليات تدمج ذوي الإعاقة بالمجتمع، لا كيانات تعزلهم بإقامة أشياء خاصة بهم!
هذا ما يحتاجه ذوو الإعاقة لا شيء آخر، وهذا ما طبقته بالفعل بدخولي إلى الإعلام المرئي ودمجت نفسي مع الأصحاء رغم أن الإعلام غالبًا لا يتقبل إلا الأصحاء وفائقي الجمال وفارعي الطول.
وبرأيي، لا يوجد سبب للشعور بعدم الارتياح عندما تقابل شخصًا معاقًا، نحن مجرد بشر. في الواقع، أن تكون معاقًا هو شيء إنساني للغاية، وأنا شخصيًّا أعتقد أن حياتي رائعة، فأنا محاطة دائمًا بأشخاص عظماء يقومون بأشياء عظيمة، يمكنك أن تقول أني معاقة، لا بأس حقًّا!
وأستطيع أن أجزم بأن الإصرار على الرسالة والهدف وتطبيقهما أمور تحتاج إلى الإيمان، وأنا مؤمنة بنفسي جدًّا ومؤمنة بكل شخص أصبح قويًّا اليوم بسببي أو بسبب شخص آخر شاركني الرسالة والهدف.
نُشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة «الإنساني» ضمن ملف العدد عن «أنسنة الإعلام». للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا
ايه القيسي.. بصراح .. من يكون عندي شي من ما يسمى الصعوبات هرب الى صفحتك الاجتماعيه على الانستا. واخذ قليلاً من هذا الطاقه الايجابيه. رغم كل الضروف . ابتسامتك .وكلامك الرائع الايجابي لا ينفذ. مثل . الهوئ. موفقه على هذا المقال…
عدنان العبيدي..
جميل