تعيش الجزائر تجربة مختلفة في إدارة أزمة تفشي جائحة كوفيد-19، إذ إنها تمر بتحولات سياسية غير مسبوقة، تفرضها مظاهرات الحراك الشعبي الأسبوعي الذي يطالب بتغيير جذري، ونجح في تعطيل مسار عهدة خامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
في هذا السياق السياسي الانتقالي، وبعد ثلاثة أشهر من انتخابات رئاسية في 12 كانون أول/ ديسمبر 2019، حلَّ فيروس كورونا المستجد، وأضاف أعباءً إنسانية وطبيَّة معقَّدة على كاهل السلطة السياسية الجديدة، التي كانت منهمكة في استعادة الهدوء، والتوافق، وكسب ثقة المواطنين بإطلاق إصلاحات دستورية، وسياسية، وإدارية.
مع تسارع الأحداث وانتقال الخوف والهلع إلى البلاد، انتشرت وسط المتظاهرين آراء بضرورة التوقف عن التظاهر درءًا للضرر، واستجابةً لقرارات السلطات بتعليق التجمعات، والأنشطة السياسية، ومعها الإدارية والتجارية جزئيًّا، وكذا حركة النقل بمختلف أشكاله، في إطار تطبيق حجر صحي جزئي لا يزال ممتدًّا حتى الآن في كبريات المدن الجزائرية من الساعة 11 مساءً إلى السادسة صباحًا.
يقول محمد لمين مغنين، أحد نشطاء الحراك الشعبي، إن استجابة المواطنين لقرار السلطات بمنع التظاهر، جاء إدراكًا لأهمية الحفاظ على الصحة العامة، بوصفها أولوية قبل أي اعتبارات أخرى.
عند بداية رصد بؤر تفشي «كوفيد-19»، وتوافد المصابين بالفيروس على المستشفيات، سادت حالة ارتباك بين الأطقم الطبية. وتبين أن القدرات الاستيعابية للمستشفيات ضعيفة جدًّا. وتفتقر لأجهزة الاختبارات والكشف عن الفيروس، والكمامات، والكحول، وهو ما أكده وزير الصحة عبد الرحمن بن بوزيد في عدة مناسبات.
وفي ظل هذه الظروف نصح الأطباء، ونقابات العاملين بالقطاع الصحي، بالحل الأمثل لمواجهة تفشي فيروس كورونا، وهو أن يلزم الناس بيوتهم، ويتجنبوا التجمعات الكبيرة.
وحتى شهر تشرين أول/ أكتوبر، لم يتجاوز عدد إصابات كورونا المستجد في الجزائر 56 ألف حالة، و1888 حالة وفاة، لكن سرعان ما قفز العدد ليصل إلى أكثر من 88 ألف إصابة و 2,516 حالة وفاة حتى الأسبوع الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2020. وكشفت الأزمة عن عدة نقائص وإشكاليات في الاستجابة الطبية، تحدث عنها الأطباء والمسؤولون الحكوميون على السواء.
مواجهة التحدي
وبدت المصالح الطبية تتعامل مع الإصابات والوفيات الناتجة عنها بحذر استنادًا لما لديها من خبرات في التعامل مع حالات الإنفلونزا الموسمية. وتشكلت أبرز التحديات في هذا السياق في نقص الجهوزية، ومحدودية أجهزة الاختبارات، واقتصارها على جهازي كشف تقريبًا بحوزة المعهد الوطني «باستور» بالعاصمة، ما جعل القطاع الصحي في باقي البلاد رهين المركزية، ويحاول تجاوز العجز في استيعاب كل العينات الواردة للتحليل من المحافظات الأخرى.
في نيسان/ أبريل نقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن وزير الصحة قوله إن «عدد الوفيات يبدو مرتفعًا لأننا أخذنا في الحسبان منذ البداية الوفيات الطبيعية التي لم تكن بالضرورة مرتبطة بفيروس كورونا… هناك تحاليل أجريت بعد الوفاة أكدت إصابة البعض منهم بهذا الفيروس، فيما كانت سلبية لدى البعض الآخر».
وما دل على هذا الارتباك أيضًا، مقطع فيديو نشرته أول عائلة مصابة بالفيروس في مستشفى بوفاريك، 80 كيلومترًا جنوبي العاصمة، ويظهر الوضع المتردي لغرف العزل الصحي، ما دفع وزير الصحة، يومها، إلى التوجه للمستشفى، وإصدار تعليمات بتغيير المستشفيات المستقبلة لمصابي كوفيد-19 وتهيئتها جيدًا، ليصبح ذلك بمثابة بداية إدارة الأزمة ميدانيًّا.
شكَّل وزير الصحة لجنة خاصة برصد ومتابعة فيروس كورونا، أوكلت لها مهمة تقديم الإحصائيات بشكل حصري، والتنسيق في مدى مواءمة القرارات الإدارية والسياسية مع الوضع الصحي، كما قرر تعيين مستشفيات مرجعية وتأجيل كل العمليات الجراحية غير العاجلة.
وشرعت السلطات الجزائرية في تكييف القطاع الصحي مع متطلبات الأزمة، عبر تأجيل أو تجميد الكثير من الأنشطة الطبية دون الإصابة بفيروس كورونا، باستثناء الحالات العاجلة التي تحتاج لتدخلات فورية، وذلك لتوفير وحدات خاصة بالفيروس، وتفادي انهيار المنظومة الصحية عمومًا، أمام الضغوط المتزايدة في الأيام الأولى.
وكلما ارتفع عدد المصابين وانتشر الوباء في مناطق أكبر، برزت إشكاليات جديدة، مثل تضخم عدد طلبات التحليل، ما جعل النتائج تظهر متأخرة عشرة أيام في بعض الأحيان، بحسب شهادات أطباء.
في هذه الفترة وبشكل مفاجئ، أعلنت وزارة الصحة الترخيص باستعمال عقار «هيدروكسي كلوروكين» بعد يومين من إعلان مدير المعهد المتوسطي لمكافحة الأمراض المعدية في مرسيليا الفرنسي الدكتور ديدي راؤول، عن جدواه في معالجة أعراض فيروس كورونا.
يقول حمانا بوشرمة الطبيب في المستشفى الجامعي «محمد لمين دباغين» بالجزائر العاصمة، إن الاستراتيجية العلاجية بعقار «هيدروكسي كلوروكين» التي اتبعتها وزارة الصحة في البداية، كانت خاطئة من حيث التوقيت والتطبيق.
وأوضح أن هذه الاستراتيجية كانت تأمر بصرف العقار لعلاج الحالات التي تشهد مضاعفات خطيرة فقط، أي متلازمة ضيق التنفس الحادة، وإذا لم يستجب المريض، يتم الانتقال إلى مرحلة تقديم مضاد فيروسي واسع المدى.
غير أن أطباء كبارًا، بينهم زيدوني نور الدين، أخصائي أمراض الرئة والمدير السابق للمعهد الوطني للصحة العمومية، تحفظوا على هذه الطريقة في التعامل مع عدوى الفيروس. ونصحوا بتوسيع البروتوكول العلاجي ليتضمن تقديم عقار «هيدروكسي كلوروكين» لكل الحالات المصابة.
استجابت وزارة الصحة لهذه النصائح، وأحدثت تعديلات على البروتوكول العلاجي جزئيًّا، ليشمل العلاج كل الإصابات من البداية، وعندها بدأت مؤشرات السيطرة على الوضع تتضح، بحسب بوشرمة.
يضيف بوشرمة أن البروتوكول العلاجي وحده لا يكفي لمحاصرة الوباء، وإنما تستوجب الأزمة التحرك على عدة جبهات بشكل استباقي لضمان استجابة طبية أسرع وتجنب انهيار المنظومة الصحية، ناصحًا بشراء أجهزة الفحص السريع، والأدوات الوقائية، وتوفير أسرَّة الإنعاش، التي قلَّت بصورة لافتة في السوق الدولية، بفعل ارتفاع الطلب عليها.
أمام مشهد يتعقد يوميًّا، تحركت السلطات، ومعها جمعيات المجتمع المدني على عدة أصعدة؛ بدأت بتوزيع أجهزة اختبار الفيروس على المحافظات الكبرى لإضفاء مزيد من اللامركزية على عمليات الفحص، ثم عملت على جلب أجهزة الاختبار، والكمامات، وأسرَّة الإنعاش من الصين، سواء في شكل مساعدات أو في إطار عمليات استيراد.
كما وفرت السلطات للأطباء والممرضين العاملين في مواجهة كوفيد-19إقامات فندقية واقعة في محيط المستشفيات، حتى لا ينقلوا العدوى إلى عائلاتهم، وهو ما لاقى استحسان الأطقم الطبية.
لكن مشكلة أخرى أعاقت استجابة الأطباء، وهي نفاد الأكسجين، وامتلاء أسرَّة الرعاية المركزة في عدة مستشفيات كبيرة، لتضطر الأطقم المعالجة إلى نظام الأولوية في منح الأكسجين بحسب خطورة كل حالة.
هنا وجد الأطباء أنفسهم أمام احتجاجات أهل المرضى الذين لم يستفيدوا من الأكسجين، وما لبثت أن تطورت هذه الاحتجاجات إلى اعتداءات لفظية وبدنية على الأطقم الطبية، بحسب وقائع وثّقها عاملون بالقطاع الصحي بالصوت والصورة.
وأجبر الوضع المشتبك وزير العدل على سنِّ قانون خاص يشدد العقوبات على كل من يعتدي على الأطقم الطبية. وأودعت السلطات فنانة شعبية بالسجن بعد أن أقدمت على إهانة طبيب لمنح الأولوية لأحد أقاربها في تلقي العلاج.
وفي خضم هذه التحديات، ظل الحدث السياسي الرسمي مستمرًّا، متمثلًا في طرح رئاسة الجمهورية مشروع تعديل الدستور للتشاور المجتمعي والحزبي، ثم إطلاق حملة للترويج له، في فترة الإعداد للاستفتاء الشعبي الذي جرى مطلع تشرين ثان/ نوفمبر، كأحد التعهدات التي قطعها الرئيس عبد المجيد تبون خلال انتخابه في شهر كانون أول/ ديسمبر، في إطار الإصلاحات لمنظومة الحكم.
ورغم هذه الظروف، واصلت الأطقم الطبية بالجزائر التعامل مع الوضع الصحي الهش. وبلغت الوفيات في صفوف الكوادر الطبية 103 حالات، حتى تشرين أول/ أكتوبر، وأصيب 7100 آخرون بالعدوى، بحسب وزير الصحة عبد الرحمن بن بوزيد.
هذه المعطيات أخرجت تكتلات ونقابات القطاع الصحي العمومي، والخاص، عن صمتها، ودعت إلى إشراك المهنيين الميدانيين في تسيير الأزمة الصحية، وعدم الاكتفاء بالتسيير الإداري والأمني لها، وذلك باعتبارهم فئة معايشة للواقع وإشكالاته اليومية.
وعبر رئيس نقابة ممارسي الصحة العمومية إلياس مرابط عن مخاوفه بسبب التدفق الكبير للمصابين على المؤسسات الصحية. واعتبر أن تأخر ظهور نتائج التشخيص، يعطل التحقيقات الوبائية الميدانية ويجعلها دون معنى من الناحية العلمية.
أضرار معنوية
لكن النقابات والتكتلات رحبت أيضًا بقرار سنِّ قانون خاص يجرِّم الاعتداء على الأطباء ومعاونيهم، غير أنهم أشاروا إلى أن معالجة هذه الظاهرة أمنيًّا هو جزء من الحل، وليس كله. وطالبوا بالتوعية واستحداث آليات اتصال تقدم المعلومات الفورية، لتوفير وقت وجهد الأطقم الطبية.
ومن الإشكاليات التي واجهت عمل الأطقم الطبية كذلك، انتشار مظاهر الاستخفاف واللامبالاة بإجراءات الوقاية وارتداء الكمامات بين المواطنين. وتجلَّى ذلك في تنظيم حفلات زفاف، وتجمعات جنائزية، وتجارية في الأسواق.
أدت هذه السلوكيات إلى إحداث ضرر معنوي للأطباء، المثقلين أصلًا بألبسة الوقاية لساعات طويلة، والمرابطين في مصالح كوفيد-19 منذ شهور، دون الاستفادة من إجازة، واعتبروها استخفافًا بتضحيات زملائهم الذين توفوا بسبب الجائحة.
وبخصوص مدى تأثير هذه الإشكاليات على عمل الأطقم الطبية في وقت الأزمة، ترى الخبيرة النفسية العيادية هابط ملعيد أن لمشاهد الاستخفاف والاعتداءات على الأطباء آثارها السيكولوجية على الأطقم الطبية.
وأوضحت أن ذلك يتمثل في ظهور متلازمة «الاحتراق الوظيفي» التي تجعل الأطقم المعالجة تعيش حالة صراع نفسي بين الواجب المهني والأخلاقي، واليأس من جدوى تضحياتهم، وتثبط إرادتهم الجمعية، التي تعتبر دافعهم الأساسي في خوض معركة جائحة كوفيد-19.
وتؤكد «ملعيد» أن الإرهاق الجسدي والجهود المضاعفة التي يبذلها الأطباء منذ شهور، كان من المرجح أن تكون أقل بكثير. والمحزن أكثر هو تطور الأمر إلى إيذائهم [الأطباء] لفظيًّا وجسديًّا، بحسب الخبيرة النفسية.
وتضيف «ملعيد» أن متلازمة «الاحتراق الوظيفي» تؤثر سلبًا على جودة الرعاية التي يقدمها الأطباء، ومنها ينخفض مستوى رضا المرضى عن الخدمات، بما يولد مزيدًا من التوتر.
وأشارت إلى أن هذه الظاهرة النفسية تتميز بإجهاد المشاعر العاطفية، إلى درجة تنقلب فيها معاملة الأطباء للناس، وللمرضى، وذويهم، كما لو كانوا أشياء وليسو أشخاصًا، إلى جانب الشعور المتدني بمعاني وقيم وجدوى العمل الطبي والهدف الإنساني من ورائه.
نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 67 الصادر في خريف/ شتاء 2020
Comments