يقدم قطاع غزة نموذجًا لتأثير الحروب المستمرة والحصار على تفاقم حدة الأمراض لديها. ففي السنوات الأخيرة، بدا واضحا كم المعاناة الجسيمة التي يتحملها مصابو الأمراض المزمنة كالفشل الكُلْوِي في القطاع من أجل الحصول على الحد الأدنى من الرعاية الصحية
بغرفة مشتركة مع عدد من الأطفال، تجلس رؤى ديب، 14 عامًا، على سرير مخصص لها في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي بمدينة غزة. فيما يقف والدها إلى جوار سريرها، محاولًا التخفيف من أوجاعها. رؤى مصابة بمرض الفشل الكُلوي، تجد صعوبة بالغة في الحصول على علاج بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة، وتجعل من العسير الحصول على أصناف كثيرة من الأدوية.
يوضح وائل ديب، والد رؤى، أن هناك أنواعًا من الأدوية غير متوفرة، ما يضطره إلى تكبد عناء الحصول عليها من خارج غزة، مشيرًا في الوقت نفسه، إلى أثر الانقطاع الطويل في التيار الكهربائي، على الوضع الصحي لطفلته. «نحتاج أن نعطيها أكسجين أو تبخيرًا، [في المنزل] لا نجد كهرباء. هذا يؤثر سلبًا عليها»، موضحًا أنه عند حدوث طوارئ ليلًا فإن استخدام بدائل الكهرباء ينطوي على صعوبة بالغة.
وأصيبت الطفلة رؤى بهذا المرض، عندما كانت في السادسة من عمرها، ومنذ ذلك الحين وهي تعاني مرارة المرض في ظروف بالغة القسوة. ولطالما عانت هذه الطفلة – بحسب والدها – عند الانتقال إلى المستشفى في أوقات الحروب الثلاث التي اندلعت في القطاع بين عامي 2008 و2014، نتيجة لمخاطر الطريق آنذاك. ويذكر وائل ديب أنه يسعى إلى سفر طفلته للعلاج في مصر، لكن يحول دون سفرها إغلاق معبر رفح لدواعٍ أمنية، كما أنه «ليس من السهل» الحصول على تصاريح لسفرها إلى إسرائيل للعلاج.
وتفرض إسرائيل قيودًا على التنقل في القطاع منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، واشتدت القيود في حزيران/ يونيو 2007 عقب الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حين فرضت إسرائيل حصارًا بريًّا وبحريًّا وجويًّا على غزة، حسبما يقول مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا» التابع للأمم المتحدة.
وحال الطفلة رؤى لا يختلف كثيرًا عن العشرينية معزوزة أبو دحيل التي تتلقى العلاج في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وكذلك حال المُسنَّة نوال الرنتيسي، 60 عامًا، وغيرهما من المصابين بمرض الفشل الكُلوي في القطاع.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن رئيس قسم الكُلى في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي، الدكتور نبيل عياد، يشير إلى وفاة طفل نتيجة عدم مقدرته على السفر للعلاج خارج القطاع.
وبحسب رئيس قسم الكُلى في مستشفى الشفاء، الدكتور عبد الله القيشاوي، فإن قرابة 680 من أهالي غزة مصابون بالفشل الكُلوي، يتلقون العلاج في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي، مستشفى ناصر، ومستشفى أبو يوسف النجار، ومستشفى شهداء الأقصى ومستشفى الشفاء التي يُعالج بها 420 شخصًا من إجمالي المرضى.
ولمرض الفشل الكُلوي، أسباب كثيرة، وفقًا للدكتور القيشاوي، منها مرض السكر وارتفاع ضغط الدم الشرياني المزمن، كما توجد بعض الأمراض الوراثية، وبعض الأمراض المناعية بسبب تكوُّن حصوات والتهابات متكررة في المجاري البولية.
صعوبات
وردًّا على سؤال بشأن أثر الأوضاع التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الخدمات الصحية، يقول القيشاوي: «واجهنا الكثير من المشاكل والصعوبات، وما زلنا نواجه خاصة بالنسبة لمرضانا للأسف الشديد. في أوقات متكررة كان يحدث نقص شديد في الأدوية لمرضى غسيل الكُلى وزراعة الكُلى». ويوضح أن مرضى زراعة الكُلى يتناولون أدوية مثبطة للمناعة، ومن الممكن أن يؤدي نقصها إلى رفض هذه الكلية المزروعة.
وعدا ذلك، يشير القيشاوي إلى أن من المشكلات التي فرضت نفسها في أوقات عدة، نقص المحاليل والمستلزمات الطبية اللازمة، مؤكدًا أن نقص أيّ منها يؤدي إلى توقف عملية الغسيل تمامًا.
ويتفق مع ذلك عياد، الذي يقول: «كثير من الأدوية التي نحتاجها فيها نقص شديد في المستشفى»، مضيفًا: «الحصار هو الفاعل الأساسي في نقص المعدات الطبية والأدوية والمحاليل اللازمة لعملية الغسيل، وهذا يؤدي في بعض اللحظات إلى فقدان حياة الأطفال».
وفي آب/ أغسطس الماضي حذر الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة من «تدهور خطير ومتسارع على صحة المرضى جراء وقف توريد الأدوية والتحويلات الطبية، وتقييد خروجهم للعلاج بالخارج والذي أدى إلى وفاة 28 مريضًا». ويحذر عياد من أن «غالبية الأطفال الذين عندهم قصور كُلوي مزمن ويحتاجون لغسيل كلوي هم في خطر»، مرجعًا ذلك لنقص الموارد الذي يؤثر بشكل مباشر على حياتهم. من ناحية أخرى، ينوه القيشاوي إلى «تهالك الكثير من الأجهزة التي تعدت الساعات المحددة لعملها الطبيعي. هذا يؤدي إلى عدم كفاءة الغسيل لهؤلاء المرضى».
ويمثل انقطاع الكهرباء مشكلة مزمنة، إذ أنه يمكن أن يؤدي إلى حدوث أعطال في أجهزة غسيل الكُلى، وهي عملية عسيرة خاصة في ظل صعوبة الحصول على قطع غيار لهذه الأجهزة. ويقول أطباء إن هذه العقبات تزيد الأعباء على أقسام غسيل الكُلى التي تحاول العمل ليل نهار من أجل تقديم الخدمات اللازمة للمرضى الذين يضطر بعضهم إلى القدوم من مناطق بعيدة في فترات الليل والمغادرة عند ساعات الفجر الأولى، حسبما يقول أطباء.
«تخيل طفلًا يعمل غسيلًا لمدة أربع ساعات، وفجأة تنقطع الكهرباء»، على ما يقول عياد الذي يضيف: «لدينا تقريبًا 30 طفلًا يخضعون لغسيل كُلوي». ويلقي عدم المقدرة على السفر بظلاله ليضيف عبئًا جديدًا. يقول القيشاوي: «بلا شك، الحصار الواقع على قطاع غزة، وإغلاق المعابر أثرا سلبًا على المرضى والطاقم الطبي». ويضيف: «توجد لدينا (في القطاع) عمليات زراعة كُلى، لكن في بعض الحالات نحتاج إلى إمكانيات أكثر تقدمًا، ليست متوفرة، فنضطر لتحويل المريض للخارج، لكن نتيجة لإغلاق المعابر ورفض تصاريح هؤلاء المرضى، المعاناة تتفاقم».
وبحسب القيشاوي، تُجرى عمليات زراعة الكُلى في القطاع بالتعاون مع وفد بريطاني يحضر كل عدة أشهر، مبينًا أن الوفد يتأخر أحيانًا بسبب صعوبة عملية الحصول على تصاريح. ويتابع فيما يتعلق بالكادر الطبي، بأنه لا يتمكن من مواكبة المؤتمرات العلمية الخارجية بسبب إغلاق المعابر.
وفي بعض الحالات، يؤدي التأخر في إسعاف بعض الحالات المزمنة إلى الوفاة. ومن ذلك حالة الطفل يوسف الأغا من خان يونس جنوبي القطاع، الذي احتاج إلى مغادرة غزة، لكن لم يتح له المغادرة بسبب الحصار، ما أدى إلى وفاته، على ما يقول عياد. في المقابل، يؤكد مسؤول المعابر والحدود والعمليات في هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية، ماهر أبو عوف، وجود معوقات أمام استكمال المرضى علاجهم خارج قطاع غزة من خلال السفر عبر «إيريز». ويقول أبو عوف، إن أشخاصًا ذوي أمراض مزمنة يُمنعون من استكمال علاجهم والحصول على الجرعة الرابعة أو الخامسة، مضيفًا: «هذا الموضوع شاق ومتعب».
وقت الحروب
يعاني المرضى في أوقات الحروب من مشكلات التنقل من وإلى المستشفى، لا سيما أولئك الذين يسكنون في مناطق بعيدة في شمال القطاع، إذ إنهم يحتاجون إلى غسيل الكُلى ثلاث مرات أسبوعيًّا.
يقول عياد: «وقت الحروب الوضع كان سيئًا للغاية، كان المرضى يأتون من مكان سكناهم في خان يونس (جنوب القطاع)، ودير البلح والنصيرات (وسط القطاع) ومعسكر جباليا (شمال القطاع) بصعوبة بالغة جدًّا».
ونتيجة للمشكلات والصعوبات القائمة، يعتبر القيشاوي، أن «جميع المرضى في خطر، لكن بالعمل الدؤوب، والاستمرارية في العمل، وفضل الله أولًا وأخيرًا، لم يتوقف هذا القسم أي لحظة».
على صعيد آخر، يشير رئيس قسم الكُلى في «الشفاء» إلى نقص الكادر البشري الطبي: «أعتقد أن هذا نتيجة الحصار على قطاع غزة، بالتالي لا توجد تعيينات حديثة. لا توجد موارد مالية تستطيع الحكومة أن تدفعها لهؤلاء الموظفين، ولكن كل فترة يكون هناك بحث في تعيين بعض الأطباء أو عقود خاصة ليقوموا بمساعدة الأطباء والتمريض القائمين في القسم». وينوه رئيس قسم الكُلى في «الرنتيسي»، ينوه إلى تأثيرات مباشرة على الحالة النفسية للمرضى نتيجة للأوضاع التي تعيشها الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وحتى اللحظة، لا يعلم مرضى الفشل الكُلوي في غزة، إذا كانت معاناتهم في الحصول على أصناف من الأدوية والمستلزمات الطبية، وأحيانًا المنع من السفر، والحرمان من الكهرباء، وتداعيات الحروب، ستنتهي قريبًا أم لا، متسائلين عمَّا إذا كان بإمكان العالم تسهيل طريقهم إلى الحياة أم سيصمت ليصل بهم إلى الموت؟
تعليقات