يُقال إن الصورة أبلغ من ألف كلمة، بيد أن الصور التي تُلتقط في أوقات النزاعات المسلحة الحديثة تفتح آفاقًا مختلفة لتأويل ما قد تحمله من معانٍ.
تكتسب وسائل التواصل لأغراض إنسانية، لا سيما الصور الفوتوغرافية، معنى جديدًا في كل مرة ترصد فيها صورةٌ تفاصيلَ عمل إنساني. في هذا المنشور تشاركنا مسؤولة التسويق الرقمي لمدونة القانون الإنساني والسياسات باللجنة الدولية «ستيفاني شو» بعض التأملات من الميدان، بعد أن أتمَّت مهمة دعم مدتها ثلاثة أشهر، وتتناول جوانب الحياد من زاوية مختلفة تمامًا.
صباح يوم ربيعي دافئ، يستقبلني النسيم الرقيق وأنا أعبر بوابة البناية فيداعب وجهي في حنوٍّ. أسمع قرقعة الزجاج المحطم تحت وطء قدمَيَّ، قبل أن تصطدم عيناي بمشاهد الضرر المروِّع الذي طال أول شقة نزورها. كلمة “ضرر” لا تكفي لوصف ما حدث في غرفة المعيشة؛ الأبواب اقتُلعت من أُطرها واستقرت على الأرض، النسيج الذي يكسو الأريكة صار أشلاء وتناثر حشوها في كل مكان، طبقات الركام هنا وهناك تجثم على الأسطح لتدفن تحتها ذكريات أشخاص كانوا هنا يومًا. تنظر عبر النوافذ التي لم يتبقَّ منها سوى أُطر جوفاء مثبتة على الجدار، فتقع عيناك على حديقة البناية المجاورة، التي ينبئ شكل حشائشها المتروكة لتنمو من دون عناية عن خلو المكان من أي مظهر للحياة.
لسبب ما، ظلت صورة إبريق مملوء بمخلل البرقوق يقف ساكنًا على رف في أحد أركان مطبخ ضاعت ملامحه لا تبرح ذاكرتي، ونحن في طريق العودة إلى بعثة اللجنة الدولية الفرعية. ليس شيء أقسى من الدمار الذي يختزل مظاهر حياة البشر في عنصر واحد وحيد.
طوال الأسابيع القليلة التالية، رافقتُ الزملاء في زيارات لأماكن متعددة حيث ألتقط صورًا لمجموعة من أنشطة اللجنة الدولية في المناطق المتضررة. بين تقديم تبرعات لتنفيذ أعمال بناء أو توفير إمدادات مياه، وتوزيع كتيبات أنشطة دعم الصحة النفسية للمدارس، وإيصال الرسائل من أسرى الحرب إلى ذويهم – تُظهر هذه الأنشطة التقلب المستمر في الاحتياجات وفي أشكال الدعم وفي متطلبات الامتثال للقانون الدولي الإنساني في أوقات النزاع المسلح. وكحال الكثيرين من زملائي حول العالم، لا يقتصر الغرض من تصوير هذه العناصر على إبراز أنشطة المساعدة الإنسانية التي ننفذها، وإنما كذلك لعرض تجليات مبدأ الإنسانية الذي لطالما كان البوصلة التي توجه عملنا طوال أكثر من 160 عامًا.
ولكن ثمة سؤالًا يراودني من حين إلى آخر، لا سيما عندما أضع كاميرتي على الرف المخصص لها في نهاية يوم طويل أمضيته في رصد هذه اللحظات بعدستها: كيف يمكن للكاميرا أن ترصد الحياد، ذلك المبدأ الذي يشكل عصب مهمتنا؟
كيف يمكننا رصد هذا المبدأ الأساسي ووضعه في إطار يُبرزه للناظر، ولا سيما أن عملياتنا تُنفَّذ في سياقات يصعب إحصاؤها؟ هل من الممكن أن نلتقط صورة للحياد، ذلك المفهوم المجرد غير الملموس وغير المنظور، مقارنة بشيء مادي ملموس مثل اتفاقيات جنيف؟
إجابة هذا السؤال، أو حتى محاولة الإجابة عنه، أمر صعب وسهل في آنٍ. فهو صعب من حيث إن كل موظف من موظفي اللجنة الدولية في أنحاء العالم بأسره – البالغ عددهم نحو 20,000 موظف – قد ينفرد بإجابة مرجعيتها تأويله الفردي وخبراته الشخصية، فنجدنا أمام 20,000 فكرة مختلفة. ومع ذلك فهو أمر سهل بالنظر إلى أن ثمة صورًا معينة عن الحياد يستحيل أن نراها وهي تلك التي ترسخها التمثيلات غير الصحيحة التي لطالما شهدناها على مر تاريخ الإعلام ذي البعد الإنساني.
فالحياد لا يكون باللجوء إلى «بورنوغرافيا الفقر»، التي تختزل مستفيدينا في صورة واحدة هدفها استدرار عطف الناس لتحقيق أغراض خيرية فقط. والحياد لا يعني تبني النظرة الغربية التي تقيِّم الأشياء والأشخاص وفق مثالية متعالية تجافي واقع الحال. وهو لا يتحقق من خلال صور انتقائية، تختار المجتمعات التي تسلط الضوء عليها وتلك التي تُعرض عنها، سعيًا وراء مشاهدات أو مشاركات من هذا الجمهور أو ذاك.
الحياد هو ما نراه في تلك الصور التي تظهر فيها طائرة ملأى بأسرى حرب مفرج عنهم على وشك العودة إلى كنف الوطن. والحياد هو ما يتبادر إلى أذهاننا عندما تطالعنا صور أولئك الذين عانوا طيلة أكثر من 12 عامًا من النزاع في سورية ولا يزالون يشاركوننا قصصهم الشخصية. والحياد هو ما تنطق به صور أفراد العائلات التي التأم شملها بعد تشتت دام 10-15-20 عامًا، وهم يعانقون بعضهم بعضًا ويلتقون بأقارب لهم لم يلتقوهم من قبل. الحياد هو ذلك العامل الذي يلقي شعورًا بالطمأنينة في نفس المستفيد الذي أقابله عندما أوجه عدسة كاميرتي إليه.
في أي سياق نزاع مسلح، تواجهنا قيود كثيرة على الوصول الإنساني تحول بيننا وبين توثيق احتياجات المتضررين. ونحن ندرك الحدود الفاصلة التي يجب علينا الحفاظ عليها من أجل كفالة الحماية اللازمة للمتضررين والتأكيد على أن استخدامنا للمادة التي نحصل عليها مرهون بموافقة الشخص المعني، شأننا في ذلك شأن كثير من المنظمات الأخرى العاملة في هذا القطاع.
غير أن قدرة اللجنة الدولية على التقاط صور للمتضررين من النزاع على امتداد أكثر من 160 عامًا لم تأتِ عن طريق المصادفة، فعشرات الآلاف من الصور التي يضمها أرشيفنا تقدم خير برهان على قدرتنا على الوصول وما نحظى به من قبول وما نتركه من أثر. لقد منحنا الحياد القدرة على توثيق عقود من النزاع، وبفضله استطعنا رصد معاناة الناس وكذلك أعمال الاستجابة الإنسانية على جميع الجوانب، وهي الأعمال التي تبعث رسالة تذكير قوية بأهمية الحماية والمساعدة الإنسانيتين.
عندما أُبحر بذاكرتي مستحضرة المشاهد التي عاينتها في صباح ذلك اليوم من أيام الربيع، لأحاول صياغة وصف لكيفية رصد الحياد من خلال عدسة الكاميرا، أجدني لا زلت عاجزة عن الإدلاء بإجابة محددة عن هذا السؤال. وستظل الصور التي التقطتها، إلى جانب العمل المؤثر الذي ينفذه زملائي، حيَّة بداخلي، كيف لا وقد أصبحت جزءًا من تكويني؟ قد لا تكون الصور التي ستحفظها سجلاتنا في المستقبل أقل قتامة، ولكن شيئًا يبث في نفسي شعورًا بالطمأنينة، إنه إدراكي أن التقاط الحياد عبر عدسة الكاميرا لا يتأتى إلا بالتزامنا هذا المبدأ الحيوي.
نُشر هذا النص في الأصل في مدونة القانون الإنساني والسياسات، وقد ترجم عمرو على النص إلى اللغة العربية.
Comments