فضاء أزرق من أجل تبريد العالم: أرواح الماضي على ظهر عملة ورقية

العدد 70

فضاء أزرق من أجل تبريد العالم: أرواح الماضي على ظهر عملة ورقية

في دُرج «ترابيزة» خشبية مستهلكة استغنت عنها صاحبتها المُسنَّة، التي كانت تسكن شقتنا قبل أن نستأجرها، عثرت على عملات ورقية «مكرمشة»، فئة عشرة قروش.. لستُ متأكدة إنْ كان لا يزال مسموحًا بتداولها حاليًّا، لكنها على أي حال صارت بلا قيمة.

فردتُ أوراق العملة وقرأتُ عليها معايدات ورسائل حب كُتبت بخط اليد..

على إحداها كُتب تاريخٌ يسبق أيامنا هذه بـ 22 عامًا. إنها رسالة بلا أسماء.. يبدو لي أن صاحبها صاغها غامضةً لثقته بأن المرسَل إليه الإهداء وحده سيفهم ولن يحتاج إلى إشارات أو توضيحات: «حياتنا ليست دائمًا ملكًا لنا ولكنها بالتأكيد ملك لمن نحبهم»..

هل كانت الأرملة صاحبة الشقة هي الشخص المعنيَّ بالرسالة؟ لماذا إذن تركت رسالة زوجها الراحل في البيت بعد تأجيره؟

 

ربما كانت لعبة من قوى الطاقات غير المرئية جعلت المرأة تنساها في هذا الدرج، لأن روح صاحبها لم تزل متمسكة بحقها في البقاء بهذا المنزل، باعتبارهم السكان الأصليين.. وربما تأجير البيت – لأغراب أمثالنا – لم يكن من رغبة هذه الروح، أو ربما أرادت أن تتواصل معنا ونتعارف بشكل ما غير تقليدي.

عملة ورقية أخرى حَوَت إهداءً يبدو من صديقة.. لم تدوِّن التاريخ لكنني بعد تدقيق في تصميم «البَريزة» – اسم شعبي مصري لفئة العشرة قروش – انتبهت إلى توقيع وزير المالية “M. Elghareeb” عليها. بحثت عن قائمة وزراء المالية المصريين عبر الإنترنت، ووجدت اسم «محيي الدين أبو بكر الغريب» في حكومة كمال الجنزوري الأولى، وقد تولى حقيبة المالية من عام 1996 إلى 1999.

إذا فرضنا أن تلك العملة الورقية قد صدرت في نهاية فترة «الغريب» كوزير، فإنه يفصلنا عن هذا الإهداء 23 عامًا تقريبًا.

بعد أيام قليلة من تأملي تلك الإهداءات، تجمعت عائلتي بمناسبة عيد الأضحى، وحصلت ابنتي ذات الثلاثة أشهر على مبلغ مالي كـعيدية، عبارة عن عملات بلاستيكية من فئة عشرة جنيهات، خالية من الإهداءات بالطبع لأنه من غير الممكن أن يكتب أحد أو يطبع على مادة البلاستيك.

كانت الحكومة المصرية قد أصدرت تلك العملة الجديدة من نوعها قبل أيام من حلول العيد.. وأصدرت أيضًا قرارًا قبل سنوات يجرِّم الكتابة على العملة ويحظر تداولها في البنوك.

لقد أفلتت عملات الدرج بأعجوبة من هذا الزمن..

تبدو لي هذه نهاية حتمية لتلك العادة، فربما يكون زمن الكتابة الورقية بشكل عام قد انتهى.. فمن منا قد يفكر في كتابة خطاب وإرساله عن طريق البريد مثلًا إذا كان في إمكانه بلمسة واحدة إرسال ما يريد بأي عدد من الكلمات والمشاعر والمقاطع الصوتية لتصل ويقرأها المرسَل إليه في ذات اللحظة؟

بفضل طقوس حياتهم – الأقل تطورًا والأكثر بساطة – عاشت سيرة مَن سبقونا السُّكنى في هذه الحياة أطول من أعمارهم ذاتها.. تواصلت معنا وجعلتنا نفكر ونحلل أشياء ونتخيل شكل حياتهم وعلاقاتهم، رغم أن الموت قد غيَّب أجساد أصحابها..

أما زمننا فلن تعيش معايداته أكثر من 24 ساعة، هي عمر محدد لـ«ستوري» على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، إنْ تأخرت دقيقة واحدة بعدها لن تصلك المعايدة أصلًا.

عليك أن تكون سريعًا جدًّا لتواكب التطور وتستقبل أكبر قدر من الأخبار والتهاني والرسائل وترد/تعلق عليها كي لا تخسر أصحابها.. لكن لن يكون لديك أبدًا وقتٌ كافٍ أو إمكانيات لتنظيم وترتيب ما يصل إليك من حيث الأهمية/الاهتمام مهما حاولت..

هذه رسالة حميمة من شخص عزيز لم تقرأها، أو قرأتها ولم يسعفك الوقت لترد، و- أعدك – ستنسى!

ستقوم غدًا – القريب أو البعيد – بمسح كل شيء، لأنهم لم يخترعوا «هارد ديسك» به مساحة تخزين تستطيع استيعاب كل ما يصل إلينا في هذا الزمن الاستهلاكي المتوحش..

واقعنا أصبح عنيفًا مغلَّفًا بألسنة لهب حروب واعتداءات وقتل وخطف وكوارث طبيعية واحتباس حراري غير مسبوق.. يعادل ذلك اللهب شديد الحُمرة فضاءً أزرق نسميه أحيانًا «فيسبوك» وآخر «تويتر»، بالإضافة إلى غيرهما من منصات استُخدمت في تصميمها درجاتٌ مختلفة من البالتة الزرقاء الباردة لتهوِّن سخونة الأحداث، لكنها مجرد إطار تشاهد فيه في يومك العادي جريمة قتل مصورة بطريقة اللايف في مشهد نهار خارجي بين منشورين، أحدهما ساخر وآخر عن زفاف صديق.

نسمة أخيرة على طريق السويس

اختارت روح صاحبتي المفضلة طريق القاهرة/السويس لتصعد إلى السماء من خلاله، تاركة عليه جسدها وسيارتها.. رفع أحدهم صورًا للحادث وبطاقة هوية الضحية ونشرها – دون إذنٍ – على فيسبوك لعل أهلها أو أصدقاءها يتعرفون عليها.. وقد تحقق مراده فعلًا خلال دقائق..

أفكر أن الأمر، لو كنا نعيش في عالم بلا سوشيال ميديا، ربما كان سيكلفنا أضعاف ذلك الوقت ليصل إلينا خبر رحيلها.. هذا هو حدُّ السلاح الطيِّب في القصة.. لكن الحدَّ الآخر المؤلم هو أنني لا أعلم متى ستتوقف خيالات تلك الصورة عن مطاردتي وعصْر قلبي.. أو متى أقطع طريقًا سريعًا دون أن تظهر لي على جانبيه كالسراب؟
في عالم السوشيال ميديا اللا محدود.. مَن يضع ميثاقًا إنسانيًّا يحترم مشاعر الناس وآلامهم؟ وإذا وُضع الميثاق فمَن سيضبط نفسه ويحترمه؟

بالأمس القريب كانت أمي تفصل صفحة الحوادث عن الجريدة قبل أن تصل إلى أيدينا نحن الصغار، كي تحمي مشاعرنا من قسوة العالم.. اليوم رحلت أمي وأصبح العالم أشد قسوة وأصبحت الصفحة الرئيسية لأي وسيلة سوشيال ميديا تحتضن ألوان الأخبار عائمة دون فصل، ولن أكون أمًّا يمكنها أن توفر لصغيرتها ذات الحماية.
هل تبلَّدت مشاعرنا واعتدنا الأمر؟

ردود فعلنا صارت مكررة بطريقة «القص واللزق»، وقد تكون مزيفة أحيانًا، حتى إنني تلقيت يومًا تعليقًا كتعزية بصيغة المؤنث، بينما كان المنشور يخص حالة وفاة لرجل.

يدور العالم حولنا بهيستيريا، ستدهسنا سرعته إذا توقفنا لحظة تأمل، وسنشعر بفقد وخسارة وعدم تحقق إذا لم نجارها.

أين سيكون مصير تعازينا وتهانينا و«لايكاتنا» بعد عشرين سنة أخرى من الآن؟ من سيجدها ويتذكرنا أو يحكي عنا؟

ربما نحن نعيش عالم اللا مشاعر واللا خلود، ولا بديل عن ذلك لأن التيار قوي وممتعٌ في آنٍ.. لن نستطيع التجديف ضده وإلا هلكنا بصورة أخرى من صور الغرق.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا