لم تخل الصراعات الكثيرة في السيرة الهلالية، تلك الملحمة الشعبية الراسخة، من قواعد وأخلاقيات صاغتها مخيلة الجماعة الشعبية. رفعت هذه المخيلة من قدر من احترموا قواعد الصراع، وفي المقابل عاقبت كل من انتهك هذه القواعد غير المكتوبة.
تتميز السيرة الهلالية عن غيرها من السير الشعبية بأنها السيرة الوحيدة التي لا زالت حية يرويها الناس في القرى والنجوع. ولا شك أن الطبيعة الشعرية التي تروى بها هذه السيرة ساعدت على استمرار تناقلها على الألسن، بينما طار من ذاكرة الناس وغاب عن ألسنتهم غيرها من السير الشعبية التي اتخذت من النثر شكلًا للتعبير عن حياة أحد أبطال الجماعة الشعبية.
ولا نظن أن الطبيعة الشعرية كانت قادرة وحدها على حفظ السيرة حية واستمرارها؛ فموضوع السيرة الهلالية ذاته ومنظومة القيم التي استندت إليها السيرة كانا سببين أساسيين وراء استمرار السيرة الهلالية مروية شفاهة، بل ومتجددة على الألسن بتجدد سياقات التلقي لتلبية احتياجات الناس الفنية والاجتماعية والنفسية.
صراع عربي- عربي
موضوع السيرة الهلالية هو الصراع العربي-العربي، وهذا الموضوع لم يُطرح في أي سيرة من السيرة الشعبية الأخرى سواء قبل الإسلام أو بعده، فكل السير الشعبية باستثناء السيرة الهلالية كان موضوع الصراع فيها هو الصراع مع الآخر الاستعماري، المحتل للأرض المهدِّد للعقيدة الدينية. وبالتالي كان البطل في السير الشعبية بطلاً قوميًّا مدافعًا عن الأمة والدين، بينما في السيرة الهلالية بطلاً قبليًّا مدافعًا عن قبيلته وسلطانها.
ومع ذلك، وللمفارقة، تجمدت السير الشعبية داخل الكتب والمخطوطات بينما كانت السيرة الهلالية تتجدد الدماء فيها؛ وذلك لسببين؛ الأول أن هذه السيرة بطرحها لهذا الموضوع كانت تجسِّد وتتماهى مع الواقع العربي. لا سيما أنها كانت مكتنزة بمنظومة القيم القبلية التي راحت تغذِّي التعصب لانتماءات دون الانتماء الوطني أو القومي. أما السبب الثاني فقد كان الطبيعة الشعرية التي جعلت من السيرة أنشودة فخر بالنصر لفريق من المتلقين، وموالًا حزينًا يرثي الحال ويشكو الزمان لفريق آخر من المتلقين في الوقت نفسه.
والمدهش أن الناس عند تلقيهم هذه السيرة كانوا يحاولون أن يغيروا من الطبيعة القبلية للصراع (العربي- العربي) ليجعلوها سيرة قومية كما فعل الفلسطينيون حين حولوا أبا زيد الهلالي إلى مدافع عن فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. إن محاولات الناس في سياقات التلقي المختلفة لتغيير طبيعة الصراع القبلي إلى صراع قومي أو ديني هي محاولات تكشف عن رفض لواقع لم يمكنهم تغييره إلا في الفن.
صاحب محاولات تغيير طبيعة الصراع القبلي في السيرة الهلالية والتخفيف من النزعة القبلية المتعصبة محاولات لاستحواذ كل طرف من طرفى الصراع القبلي على الغطاء الأخلاقي والديني لأطماعه القبلية. فالصراع بين قبيلة بني هلال والزناتي خليفة حاكم تونس وقبيلته (الزناتة) هو في جوهره صراع على الأرض والثروات، لكنه اتخذ أبعادًا أخرى فتم تصويره على أنها حرب من أجل الكرامة المهدرة أو حرب أشعلها حب سُعدى ابنة الزناتي ليونس ابن أخت أبي زيد الهلالي أثناء رحلة استطلاعهم لأرض تونس، لكن الأهم أنها حرب يتمسك فيها فريق البطل بأن يكون ممثلًا للعقيدة الإسلامية وشروطها للصراع.
ومن المهم هنا أن نتأمل التفسير القدري الذي تقدمه السيرة للصراع بين الهلالية والزناتة، بل والتنبؤ بانتصار الهلالية ومقتل الزناتي خليفة على يد دياب بن غانم. إن القول بأن الصراع مقدرٌ ومكتوب على أطراف الصراع، فيه تجاهل لأسباب الصراع الحقيقية والتي يمكن مواجهتها بمزيد من التفاوض والحوار بل والتعايش بين قبائل تنتمي للهوية نفسها. ولهذا كان استخدام الوعي القدري لتسويغ صراع لا مسوِّغ له من الناحية الإنسانية.
الخصم غير الأخلاقي
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد من محاولات تسويغ الصراع القبلي بمسوِّغات دينية؛ إذ يستحوذ البطل على منظومة القيم الدينية كاملة ليغدو الخصم غير أخلاقي في حربه! وهذا يعكس ضرورة حرص الجماعة الشعبية على أن يكون بطلها حتى لو كان يخوض صراعًا قبليًّا متسمًا بأخلاق الأبطال في صراعهم والتي هي أخلاق تتسق من منظور العقل الجمعي للمتلقين مع العقيدة الدينية للمسلمين الذين يمثلون أغلبية جمهور السيرة الهلالية.
ومن هنا تبدو أخلاق الصراع في السيرة الهلالية هي نتيجة عملية الشد والجذب بين منظومتين متنافرتين من الأخلاق: منظومة الأخلاق القبلية، ومنظومة الأخلاق الدينية. ويمكن أن ينقسم الصف الواحد بين بطلين أحدهما يقوم بتصرفات غير أخلاقية تجاه الخصم، وبطل آخر يحافظ على أخلاق الصراع كما ينبغي أن تكون بين الأبطال. فالبطولة صلة رحم بين أهلها من الخصوم، بمعنى أن احترام البطل لخصمه واجب، إذا كان يعرف في خصمه خصال هذه البطولة، وهو ما يمكن أن نلمسه في تلك العلاقة التي ترصدها السيرة الهلالية بين الخصمين الكبيرين في السيرة وهما الزناتي خليفة حاكم تونس وأبو زيد الهلالي قائد جيوش الهلالية في تغريبتهم الغازية لتونس.
فالزناتي خليفة يعبر بوضوح عن أمنية دفينة في داخله وهي أنه كان يتمنى أن يكون أبو زيد ولدًا له لبطولته وفروسيته وذكائه ومكانته بين أهله التي اكتسبها نتيجة حرصه على أن يكون حاميًا للتقاليد والأخلاق. وفي الوقت نفسه يعبر أبو زيد عن أمنيته بأنه لو كان يختار أبًا له ما اختار سوى الزناتي خليفة لبطولته بمعناها الشامل الجسدي والأخلاقي. هذا بينما كان أبو زيد يعادي والده (رزق ابن نايل) ويحاربه حربًا شرسة حتى كاد أن يسلب منه كل ما عرف عنه من تاريخ بطولي في الحروب بسبب أنه لم يكن بطلاً بالمعنى الأخلاقي حين انطلت عليه أقاويل بعض قومه حين طعنوا في شرف زوجته خضراء الشريفة لإنجابها غلامًا أسود. لقد راح البطل يفعل أفعالًا غير بطولية وفي مقدمتها التخلي عن زوجته وطردها مع وليدها لتعود لأهلها.
ومن هنا كان من الصعب على رواة السيرة الهلالية أن يجعلوا لأبطال السيرة طبقات دون أن يكون الأساس الأخلاقي للبطولة هو المعيار الأول في وضع كل بطل في طبقته المناسبة لصفاته الأخلاقية قبل صفاته الحربية. لهذا نجد السيرة تضع الصراع بين الزناتي وأبو زيد الهلالي في صورة صراع ينبغي أن ينتهي بمقتل أحدهما على يد الآخر، بل نكاد لا نجد له ذكرًا في العديد من روايات السيرة الهلالية؛ حيث من غير المقبول أن يُقتل بطل كالزناتي دون أن يتم تصويره على أنه قد وقع في مخالفة أخلاقية لأعراف وتقاليد الصراع تبرر مقتله تحقيقًا لنبوءة العرافين.
فالنبوءة تقول بأن الزناتي سوف يُقتل على يد دياب بن غانم، ولأن دياب غائب عن ساحة الصراع لخلاف مع رفقائه في الحرب، فإن استعادته لنصرة الهلالية على دياب بن غانم صارت ضرورة، وفي الوقت نفسه لا بد من تشويه بطولة الخصم الذي ارتفعت به السيرة لمصاف الأبطال العظام بالمعنى الشامل للكلمة حتى كاد يفوق طبقة أبو زيد الهلالي نفسه في البطولة.
وهنا نجدنا أمام حيلة داهية الهلالية من النساء وهي الجازية، التي دفعت باتجاه أن ينزل لمواجهة الزناتي حليف دياب بن غانم وصديقه الخفاجي عامر. فإن قتل الزناتي ببطولته الفائقة فبها ونعمت، وإن قُتل فتلك هي الضرورة التي لأجلها يعود دياب بن غانم لينتقم من قاتل صديقه والذي عجز عن قتله صناديد الأبطال من الهلالية.
قواعد الحرب
إن تشويه بطولة الزناتي لم تكن لسبب فني يتعلق بفنون الحرب وإنما لسبب أخلاقي، لقد خطط الزناتي لاستدراج الخفاجي عامر للموت حين فر من أمامه في المعركة فتبعه الخفاجي حتى دخل وسط أهل الزناتي وجنوده، وهنا انقض عليه أحد الجنود وطعنه من الخلف. ورغم أن الزناتي لم يكن هو من طعن خصمه من الخلف، فإن قتل شخص من الخلف عارٌ يكسو ليس الجندي فقط وإنما القائد البطل نفسه. وتلك واحدة من أهم قواعد الصراع بين الأبطال، ومخالفتها انتقاص، بل دحض للبطولة وتجريد منها.
فإذا كنا قد رأينا أن احترام المرأة قاعدة يجب على من يخالفها أن تنتقص الجماعة الشعبية من بطولته حتى بيد ابنه نفسه، فإن القتل من الخلف طعن في استحقاق مرتكبها لمعنى البطولة بل وطعن في بطولة قائده نفسه حتى لو كان يحميه ويدفع عنه الموت. الموت في مواجهة خصم أحب عند فرسان العرب من النجاة على يد جندي يطعن الخصم من الظهر.أما القاعدة الأخلاقية الثالثة التي أبرزتها السيرة الهلالية فهي نفي البطولة عمن يدعيها إذا مثَّل بجثة خصمه بعد هزيمته.
تنبأ العرافون بقتل الزناتي خليفة، وجرى ذكره أكثر من مرة في السيرة، وقد علم بالنبوءة وسمع بها من الفريقين الكثيرون، فهذا علام وزير الزناتي وابن عمه وضارب الرمل يعرف بالنبوءة ويؤمن بصدقها من قبل التغريبة، بل وينظمها شعرًا لفريق الاستطلاع الذي أوفده الخصوم من الهلالية لاستكشاف أرض تونس.
تطيب لكم من نجد إلى قاع تونس
فلا تخشوا إلى بلاد المغارب
يجيكم أبو سعدى الزناتي خليفة
يخلي دماكم على الأرض سكايب
ومن بعدها يأتي دياب ويقتله
بمزراق في عينيه يقد القضايب
ومع ذلك لم يكن أحد يفكر في عدالة النبوءة ومدى موافقتها- إن تحققت- لميزان العدل الذي يزن فعل الأبطال ويميز بين مراتبهم البطولية؛ ذلك أن الزناتي نفسه لم ينكر إمكانية تحقق النبوءة، وإنما كان ينكر على نفسه كشخص مؤمن بالله وبالقضاء والقدر أن يصدق أن هناك من يعلم الغيب غير الله. لذا كان الزناتي الأكثر إيمانًا وعقلانية في الوقت نفسه وسط مجتمع تحركه النبوءات وتسيطر على أحداثه الكبرى.
لكن الزناتي الذي أنكر النبوءة لإيمانه بأن الله وحده عالم الغيب يتغير موقفه حين يجد النبوءة في طريقها إلى التحقق. إذ يبدأ الخوف يتسرب إليه متذكرًا النبوءة بمجرد رؤيته دياب في أرض المعركة وقد عاد من غيبته ليقتله بحربته بين عينيه. ينظم الزناتي حالة ارتباكه وخوفه الذي ينتقص من بطولته:
قال الزناتي يبقى هو دياب
اللي الرمل عليه قايل
أنا بايت ليلي أحسب ميت حساب
آدي أسد الهلايل
لم يكن الخوف ليتسرب إلى البطل الزناتي في السيرة الهلالية إلا بعد أن تم تمهيد المتلقين بوقوع خطيئة تنتقص من استحقاقه طبقته بين الأبطال وهي مقتل خصم له من الخلف على يد أحد جنوده. وفي الوقت نفسه، لا يعني ذلك أن من سيقتله وفقًا للنبوءة هو الأعلى منه طبقة في البطولة الحربية والأخلاقية، وإنما بطل اختارته النبوءة لتحقيق القصاص لمقتل صديق له قُتل من الخلف. وهنا نلحظ أن من أخلاقيات الصراع إلى جانب احترام المرأة وعدم القتل من الخلف ضرورة القصاص للمقتول من الظهر أو المقتول غدرًا وظلمًا، وأن السماء تحرك لذلك الغرض من تراه.
المعنى الشامل للبطولة
واختيار دياب لتحقيق القصاص لمقتل صديقه غدرًا هو اختيارٌ مناسبٌ جدًّا ليس لأنه الأعلى بطولة حربية وإنما لأنه الشخص المناسب لتمرر لنا الجماعة الشعبية أهم قواعد الصراع الأخلاقية على الإطلاق؛ وهي عدم التمثيل بالجثث. فدياب المعروف بغضبه وانفعاله حين يقرر الانتقام لمقتل صديقه غدرًا، يمتلئ بطاقة غضب تعميه عن قواعد الصراع الأخلاقية التي تواضعت عليها جماهير السيرة.
يضع دياب حربته في عيون دياب ويبدأ في التمثيل بجثته، وهنا يظهر أبو زيد الهلالي ناهيًا دياب عن فعلته ومعنفًا له لمخالفته القواعد الأخلاقية التي ارتضتها الجماعة لتمايز بين الأبطال على أساسها، وليؤكد لنا المعنى الشامل للبطولة الذي قدمته السيرة وهو الذي تمتزج فيه البطولة الحربية مع البطولة الأخلاقية مثلما تجسدت تجسيدًا فنيًّا في شخص أبو زيد الهلالي وليس الزناتي خليفة الذي قُتل خصم له غدرًا ولا دياب بن غانم الذي مثل بجثة خصمه.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 61 (ربيع/ صيف 2016) من مجلة «الإنساني».
اقرأ أيضا:
Comments