عند واحد من منحنيات النيل، وعند التقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض، نهضت الخرطوم كحيز حضري فريد في وسط وجنوب القارة الأفريقية. ازدانت العاصمة بطرق ومؤسسات ومبانٍ حديثة. إلا أن الرونق الحضري القديم أصيب بالذبول بفعل جملة من العوامل، منها النزاعات العسكرية الطويلة.
يروي الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم في قصيدته المعروفة «قطار الغرب» ** رحلته الأولى من مدينته الأُبَيِّض [عاصمة إقليم كردفان] إلى العاصمة الخرطوم، مطلع الستينيات، وانبهاره صبيًّا بها:
هذي ليست إحدى مدن السودان
من أين لها هذي الألوان؟
من أين لها هذا الطول التياه؟
لا شك قطار الغرب الشائخ تاه
وسألنا قيل لنا الخرطوم
هذي عاصمة القطر على ضفات النيل تقوم
عربات
أضواء
وعمارات
وحياة الناس سباق تحت السوط
هذا يبدو كحياة الناس
خير من نوم في الأرياف يحاكي الموت
لم تكن تلك حالة انبهار فردية لصبي قادم من أقاليم الغرب، لأنها يمكن أن تكون حالة كل القادمين للمرة الأولى، من كل أقاليم السودان المختلفة، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، وهم يدخلون على مدينة حديثة، نظيفة وجميلة وأنيقة، تشبه أحلامهم وأمانيهم. بعد خمسين عامًا من تلك الرؤية، تبدو القصيدة بلا معنى لكثير من صبيان الريف الذين أتوا للخرطوم، ما رأوا شيئًا من جمالها وأناقتها ورقيها، فلهم خرطومهم الأخرى التي تحبط كل أحلامهم وأمانيهم، وتعاملهم بقسوة ووحشية لم تكن ضمن تصوراتهم.
تاريخ مدينة
تأسست مدينة الخرطوم على يد الجيش التركي المصري في عهد محمد على باشا، عندما أرسل جيشًا بقيادة ابنه إسماعيل باشا لضم السودان في العام 1821. اتخذ الأتراك المدينة، في البداية، معسكرًا لجيوشهم، ثم تحولت إلى عاصمة لهم في عهد عثمان جركس باشا في العام 1824، وذلك عقب تعيينه حاكمًا عامًّا على السودان. لكن يعود تاريخ الخرطوم كمستوطنة بشرية إلى عصور سحيقة، فقد أثبتت حفريات أن الإنسان استوطن في موقع الخرطوم الحالي منذ 400 عام قبل الميلاد. وعُثر على أدوات تعود إلى العصر الحجري في منطقة خور أبو عنجة في مدينة أم درمان الحالية القريبة من الخرطوم.
واختلف المؤرخون على مرجعية اسم الخرطوم، فهناك من أرجعها إلى شكل قطعة الأرض التي تقع عليها المدينة والتي يشقها فرعا النيل ويلتقيان فيها مع بعضهما في شكل انحنائي يرسمان بينهما قطعة أرض أشبه بخرطوم الفيل وهو الرأي الراجح. بينما نسبها الرحالة الأسكتلندي جيمس جرانت (James Grant) الذي رافق الرحالة جون سبيك (John Speke) في رحلته الاستكشافية لمنابع النيل إلى زهرة القرطم التي كانت تزرع بكثافة في المنطقة لتصديرها إلى مصر لاستخراج الزيت منها للإنارة. وهناك أيضًا تفسيرات أخرى لأصل الاسم، لا سند لها، مثل «خور التوم» نسبة إلى شخص يدعى التوم. بينما أرجعها البعض للغة النوبية القديمة، أو لغة قبائل الشلك التي قيل إنها كانت تقطن في المنطقة. ***
وبعد انتصار الثورة المهدية وخروج الأتراك والإنجليز من السودان، اختار محمد أحمد المهدي، زعيم الثورة المهدية، مدينة أم درمان، على الضفة المقابلة للنهر عاصمة له. لكن بعد سقوط دولة المهدية عام 1898، أعاد الإنجليز الخرطوم عاصمةً وطنية للبلاد. وأعادوا إعمارها على النسق المعماري الإنجليزي الذي لا يزال ماثلًا للعيان في أبنية بجامعة الخرطوم وبعض المرافق الحكومية المطلة على النيل، وفي بعض الجسور القديمة المقامة على نهر النيل التي تربطها بما يحيط بها من مناطق حضرية. جغرافيًّا تتوسط مدينة الخرطوم النيلين الأزرق والأبيض، وتنتهي شمالًا عند نقطة التقاء النهرين في منطقة المقرن ليشكلا نهر النيل، فيما تمتد على الضفة الشرقية وحتى الشمال مدينة الخرطوم بحري، وتمتد للشمال مدينة أم درمان وتشكل المدن الثلاث، التي تربطها عدة جسور، «الخرطوم الكبرى» التي تعرف أيضًا باسم «العاصمة المثلثة».
سنوات العز والتيه
عاشت مدينة الخرطوم خلال سنوات الخمسينيات وحتى السبعينيات مجدها كواحدة من أجمل وأرقى العواصم الأفريقية، تزدحم أسواقها بالبضائع القادمة من كل أنحاء العالم، وتهبط فيها الطائرات المتجهة لمعظم العواصم العربية والأفريقية. وتنشط العاصمة ليلًا حيث يرتاد الناس الكازينوهات والمطاعم الراقية ودور السينما وأماكن الترفيه التي كانت تحمل أسماءً أجنبية: سانت جيمس، غوردون ميوزيك هول، أفريكانا، جراند أوتيل، التي تزورها أشهر الفرق الموسيقية العربية والأجنبية، وتقام فيها مسابقات الرقص وملكات الجمال. اكتظت المدينة بجاليات أجنبية «تسودنت»، من الشوام والهنود واليونانيين والأقباط واليهود. منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات بدأت التحولات السياسية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية تغير وجه الخرطوم. اتجهت السياسات الحكومية نحو إجراءات وقوانين أكثر أصولية ومحافظة، وساهمت حركات النزوح الجماعي من الأرياف في تغيير التركيبة الاجتماعية والاقتصادية، ثم زاد الضغط السكاني على الخدمات الشحيحة فتدهورت خدمات المياه والكهرباء وحركة المواصلات بشكل سريع.
حركة النزوح
عرفت الخرطوم الهجرة إليها من الريف منذ فترات طويلة، لكنها كانت دائمًا هجرة ترتبط بأثرياء أو متعلمين رفعتهم حظوظهم إلى طبقة اجتماعية أعلى، فاختاروا الخرطوم سكنًا يناسب طبقتهم الجديدة. لكن حركة النزوح الأخيرة، التي غيرت وجه العاصمة، كانت لظروف مختلفة ومن طبقات مختلفة. احتكرت المدينة التعليم الجامعي، والمستشفيات الكبيرة، والخدمات الضرورية للمواطن التي لا يجدها سكان الأقاليم في مدنهم وقراهم، لذا كان النزوح والإقامة بها فرض عين على كل صاحب استطاعة. كانت أولى موجات النزوح الجماعي الكبيرة للخرطوم في السبعينيات، بفعل التصحر والجفاف الذي ضرب مناطق مختلفة من العالم، وتأثرت بها مناطق في غرب السودان. فتحرك أهلها لينزحوا عبر كردفان إلى الشرق ليجاوروا النيل، ويعبروا إلى الخرطوم.
لم تكن هناك معسكرات نازحين بالمعنى المعروف دوليًّا، وإنما مساكن من الخيام والمواد الأولية، يسكن فيها البشر وحيواناتهم في ظروف قاسية. وانتشر القادمون من الريف ليعملوا في أي وظيفة يجدونها، ويسكنوا في أي مكان طرفي يقبل بهم. ثم اندلعت الحرب الأهلية السودانية الثانية في العام 1983، وعندما اشتد أوارها، هجر عشرات الآلاف من أبناء الجنوب وجبال النوبة مساكنهم ومناطقهم ورحلوا شمالًا. واستقر أكثرهم في مناطق في داخل وحول العاصمة الخرطوم. ثم اندلعت أزمة دارفور [في العام 2003] لتزيد مشاكل البلاد تعقيدًا، وتلقي على العاصمة الخرطوم عبء استضافة مجموعات نازحة جديدة شردها النزاع المسلح من ديارها، واضطرتها ظروف الفقر والحاجة لمحاولة البحث عن الرزق والأمان في أطراف وطرق الخرطوم.
وظلت العاصمة تعاني من هذه الموجة البشریة التي استقبلتها طیلة السنوات الماضية، فزاد عدد السكان زيادةً واضحةً، لم يستوعبها تخطيط المدينة ولا مراكز خدماتها. وبالرغم من غياب إحصائيات دقيقة، فإن التقديرات المبنية على آخر إحصاء سكاني تقول إن عدد سكان ولاية الخرطوم يبلغ نحو سبعة ملايين نسمة. وتقول دراسة أكاديمية أعدها باحثان عن تأثير النزوح على مدينة الخرطوم «إن تدفق النازحین من الولایات المختلفة أدى إلى تعطیل مستوى التعلیم وتفشي الأمیة وانتشار المهن الهامشیة بولایة الخرطوم، هذا بدوره ساهم في انخفاض الدخل وتزاید معدلات البطالة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات الجریمة والنهب وزیادة صرف الدولة على الأمن والشرطة. ولم تكن الخرطوم مهیأة أصلاً لإقامتهم فیها، ما خلق بیئة غیر صالحة للحیاة». ****
استقبال اللاجئين
يستضيف السودان أعدادًا كبيرة من المهاجرين واللاجئين من دول الجوار، من إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان والصومال، بالإضافة لهجرات متوطنة قدمت من دول غرب أفريقيا في عقود سابقة. والسودان اليوم بحسب تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يُعد واحدًا من أكبر مستودعات اللاجئين، فقد كان يستضيف على أراضيه، لوقت ليس ببعيد، نحو مليون لاجئ، وغيرهم ممن وفدوا للبلاد بطرق شتى. ولا يقيم بالمعسكرات الرسمية، التي تستضيف اللاجئين، إلا نحو 20% من اللاجئين في السودان، فيما تسلل الباقون للمدن الكبيرة، ونالت الخرطوم النصيب الأكبر. كما يستضيف السودان ثالث أكبر عدد من لاجئي دولة جنوب السودان، وهم أكثر من ربع مليون نسمة. ويشكل السوريون آخر موجة وفدت على البلاد من اللاجئين، إذ يتيح السودان للاجئين السوريين الدخول والإقامة دون أي تعقيدات. ويقدر عدد السوريين بنحو مائة ألف لاجئ، يتمتعون بحق الإقامة والتعليم والعلاج المجاني.
صناعة الهامش في خرطوم الحضر
هكذا اجتمع اللاجئون والنازحون في الخرطوم. وفي رحلة هؤلاء لتأمين لقمة العيش، امتهن أكثرهم أنواعًا مختلفة من المهن الهامشية والأعمال الشاقة والأنشطة الصغيرة. منهم الباعة المتجولون، و«بائعات الشاى»، و«منظفو السيارات». يعاني هؤلاء من ظروف العمل القاسية، فضلًا على استهدافهم من السلطات البلدية تحت مبررات الارتقاء بالمظهر الحضاري أو إعادة تنظيم وتخطيط الأسواق والمواقف العامة. معظم بائعات الشاي والأطعمة في طرقات المدينة وشوارعها، ومعظم الأطفال الذين يكثرون عند الإشارات المرورية المزدحمة يطلبون المساعدة، هم من النازحين.
تحمل صفحات الصحف السودانية بشكل متراتب تحقيقات صحفية وتقارير عن أوضاع المناطق الطرفية من الخرطوم، التي تسمى بالأحياء العشوائية، وهي تحديدًا المناطق التي يقطنها فقراء المدينة، وجلهم من النازحين واللاجئين من دول الجوار. مشكلة أخرى يواجهها النازحون إلى حضر الخرطوم هي أن معظم اللاجئين، هم في الأصل مزارعون أو رعاة، ولا يعرفون مهنة غيرها، وهم بلا تعليم أو مهارات، لهذا تكاد تكون فرصهم، في إيجاد مورد رزق في المدينة الكبيرة، معدومة. وهم يشكلون أيضًا عبئًا ثقيلًا وضغطًا على الهياكل الأساسية الهشة خاصة في قطاع الخدمات، بالإضافة إلى أن وجود أعداد كبيرة إضافية على السكان تترتب عليه آثار سلبية تؤثر في مجال توفير المواد الغذائية والأساسية، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى ندرة السلع والمنتجات وارتفاع الأسعار على المواطنين السودانيين.
«تريفت» مدينة الخرطوم وترهلت في امتدادات عشوائية غير مخططة، وساءت حالتها وتدهورت خدماتها، حتى بدأ البعض يدعو لإنشاء عاصمة جديدة، يأسًا من إمكانية إصلاح الأوضاع. لم تعد الخرطوم المدينة التي كانت، ودفعت ثمنًا باهظًا لمركزية الدولة التي أعطتها كل شيء، وحرمت الريف من كل شيء، فحمل متاعه وقدم إليها بحجة مشروعة، إن لم نصبح مثل الخرطوم، فلتصبح هي مثلنا… وقد كان
هوامش
* محمد المكي إبراهيم، الأعمال الشعرية الكاملة، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ص
*** لمزيد من التفصيل عن أصل مدينة الخرطوم، انظر: بكري الصائغ، الذكرى 193 على تأسيس مدينة الخرطوم، 4 سبتمبر 2014، موقع صحيفة الراكوبة: http://www.alrakoba.net/news-action-show-id-144163.htm
**** عبد العظيم سليمان إبراهيم المهل، وحرم محمد بدوي محمد، الآثار الاقتصادية للنزوح في السودان: دراسة حالة ولاية الخرطوم (1998-2007)، مجلة العلوم الاقتصادية، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، (13-1)، 2014، الرابط: http://www.sustech.edu/staff_publications/20150326070250401.pdf
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».
شفتوا ديل : ” حيث يرتاد الناس الكازينوهات والمطاعم الراقية ودور السينما وأماكن الترفيه التي كانت تحمل أسماءً أجنبية: سانت جيمس، غوردون ميوزيك هول، أفريكانا، جراند أوتيل، التي تزورها أشهر الفرق الموسيقية العربية والأجنبية، وتقام فيها مسابقات الرقص وملكات الجمال.”. هم يا هم الأنتجوا لينا النحن عايشين فيه الآن سواء بأنفسهم أو بأولادهم الربوهم..
أرجو إنه الناس ما تهتم بالفارغة و تضرب في المليان و ترمي قدام..
الأمم تمدح بمجدها و علومها و أخلاقها و ليس برقصها و مجونها و استهبالها.
ربنا يعطي الخرطوم مظهرها الذي يليق بها و يرفعها لمكانتها التي تستحق.