إذا كانت صحة ورفاهية الأجيال الحالية قد تبدوان على المحكّ بسبب الأزمة المناخية والبيئية الراهنة، فكيف سيكون الوضع بالنسبة إلى الأجيال المقبلة؟ وكيف يمكن أن يُسهم القانون الدولي الإنساني أو ما يُعرف بقانون النزاعات المسلحة في تعزيز احترام مبدأ العدالة بين الأجيال؟ هذا ما يُحاول هذا المقال إلقاء بعض الضوء عليه.
يستأثر موضوع البيئة والاهتمام بها والمحافظة عليها من التدهور ومن ارتفاع درجات الحرارة الذي بات يهدد حياة السكان في مدنٍ ودولٍ بأكملها حول العالم باهتمام الحكومات والمنظمات الحكومية والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والعاملين في المجال الإنساني وحتى القطاع الخاص في وقتنا الراهن.
ومنبع ذلك هو ما للبيئة من أهمية بالغة في حياة الناس، وجودة هذا المحيط الحيوي الذي يعيش فيه البشر من عدمها تؤثر إيجاباً أو سلباً على نوعية حياتهم وبالتالي على صحتهم ونموهم ورفاهيتهم، والأهم، على بقائهم.
مبدأ العدالة بين الأجيال
يعتبر مبدأ العدالة بين الأجيال أحد مبادئ القانون الدولي للبيئة، ويقضي بأن تأمين احتياجات الأجيال الحاضرة لا يجب أن يتم على حساب الأجيال المقبلة (التي لم تولد بعدُ) وألاّ يؤدي إلى التقليل من فرصهم في العيش الكريم واللائق. ويتمثل ذلك في توزيع المنافع والأعباء فيما بين الأجيال، أي الإنصاف عبر شتى الأزمنة في توزيع هبات الأصول الطبيعية والحق في استغلالها.
وبحسب الأدبيات التي تناولت الموضوع، فإن مبدأ العدالة بين الأجيال ينقسم إلى ثلاثة مبادئ هي: الخيارات والجودة والوصول. فالمبدأ الأول، الخيارات المماثلة، يعني المحافظة على قاعدة الموارد الطبيعية المتنوعة بحيث تتمكن الاجيال القادمة من استعمال هذهِ الموارد لتحقق قيمها. والمبدأ الثاني، الجودة المماثلة، يعني ضمان أن يكون خيار جودة البيئة المتوازنة متاحاً لجميع الأجيال. أما بالنسبة إلى المبدأ الثالث، الوصول المماثل، فيقضي أن يكون استغلال الأرض ومواردها متاحاً لجميع الأجيال دون تمييز.
تجد فكرة الاهتمام بالأجيال القادمة مصدرها في صكوكٍ دوليةٍ متعددة منها، على سبيل المثال، ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، حيث جاء في ديباجة الميثاق أن أحد مقاصد الأمم المتحدة هو إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب، وديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 التي قضت بالإعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة. ومن بين الصكوك الدولية الأخرى، إعلان ستوكهولم للبيئة لعام 1972 الذي نصّ على حق الإنسان في الحرية والمساواة في ظروف عيش مناسبة، وفي بيئة تسمح نوعيتها بالحياة بكرامة ورفاهية، وهو يتحمّل مسؤولية رسمية تتمثل في حماية البيئة والنهوض بها من أجل الجيل الحاضر والأجيال المستقبلية. كما نصّ إعلان ريو دي جانيرو بشأن البيئة والتنمية عام 1992 على إعمال الحق في التنمية لتلبية الاحتياجات الإنمائية والبيئية للأجيال الحالية والمقبلة على نحوٍ منصف. ومن بين الصكوك الدولية التي سلطّت الضوء على احتياجات الأجيال المقبلة هي اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لعام 1992 واتفاقية حظر استخدام تقنيات التغير في البيئة لأغراضٍ عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى(1976) وتم تناول هذا الموضوع بصورة مباشرة في الإعلان المتعلّق بمسؤوليات الأجيال الحاضرة تجاه الأجيال القادمة الذي إعتمدتهُ منظمة اليونسكو عام 1997. كما أكدّت خطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 على مسؤوليات الجيل الحاضر إزاء أجيال المستقبل.
وإذا كانت السياسات البيئية الخاطئة وأنماط الإنتاج والإستهلاك غير المستدامة والفقر وإنعدام المساواة من العوامل التي تؤثر على البيئة الطبيعية وعلى جودتها، وبالتالي على تمتع أجيال المستقبل بها، فماذا عن دور النزاعات المسلحة؟
الحرب تهديد للبيئة الطبيعية
إن البيئة الطبيعية هي أحد الضحايا الخفيّة للنزاعات المسلحة. لطالما عكفت الأطراف المتحاربة على الإضرار بالبيئة من أجل إضعاف العدوّ أو للحصول على منافع. وكانت النتيجة تدمير البيئة الطبيعية وتدهورها. وما يفاقم المشكلة، إنهُ أحياناً، حتى بعد إنتهاء العمليات العسكرية، يبقى التهديد مستمراً ليطال أجيال وأجيال، كما هو الحال عند استعمال أسلحة معينة كسلاح اليورانيوم المنضّب المشّع الذي يلوث الهواء والماء والتربة والماشية ويؤثر على صحة الإنسان وحياتهِ، والألغام التي تغطي مساحات شاسعة من الأراضي في الدول التي شهدت نزاعاتٍ مسلحة واستعملت فيها وبكميات هائلة ولم تتم إزالتها بصورة آمنة ما يُشكلّ تهديداً للبيئة والسكان على حدّ سواء حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها. كما إن بعض التقنيات التي يُتوخى منها استعمال البيئة الطبيعية كسلاح، كالتقنيات والعوامل الكيميائية التي تسعى إلى إحداث زلازل وإنزلاقات طينية وإسقاط أوراق الأشجار، تؤدي إلى تدهور البيئة أيضاً. وهناك ممارسات أخرى تلجأ إليها الأطراف المتحاربة مثل تسميم الآبار وقطع الأشجار وتجفيف المسطحات المائية وهي ممارسات تؤدي إلى حدوث خللٍ في النظام البيئي والإضرار بالتنوّع الإحيائي الموجود في المنطقة ما يؤثر بالنتيجة على حياة السكان وصحتهم ومصدر رزقهم، وقد يضطرهم للنزوح والهجرة. وإذا كانت هذهِ التحديّات بشأن البيئة الطبيعية تواجه الأجيال الحالية، فما الذي سيكون عليهِ وضع الأجيال القادمة؟ بالتأكيد سيؤدي ذلك إلى إضعاف قدرتها على الحصول على خيارات مماثلة وجودة بيئة طبيعية مماثلة واستغلال مماثل لموارد البيئة الطبيعة أو حرمانها منها على نحو مساوٍ للأجيال الحالية، وهو ما يؤدي إلى تقويض مبدأ العدالة بين الأجيال.
ومن هنا نصّ إعلان منظمة اليونسكو لعام 1997 المُشار إليهِ أعلاهُ على أن “على الأجيال الحالية أن تُجنّب أجيال المستقبل ويلات الحرب. ولهذا الغرض، عليها أن تُجنّب تعريض أجيال المستقبل إلى العواقب الضارة للنزاعات المسلحة وكل أشكال العدوان الأخرى واستعمال الأسلحة، بما يتعارض مع مبادئ الإنسانية”.
القانون الدولي الإنساني ومبدأ العدالة بين الأجيال
يهدف مبدأ العدالة بين الأجيال إلى الموازنة بين احتياجات جيل الحاضر واحتياجات جيل المستقبل. من جانبٍ آخر، ولأنهُ قانون عملي، يوازن القانون الدولي الإنساني بين مصلحتين متناقضتين هما الضرورة العسكرية والاعتبارات الإنسانية. ولذلك يحمي هذا القانون الذي يطبّق في النزاعات المسلحة الأشخاص الذين لا يشاركون بصورة مباشرة في العمليات العدائية وكذلك الأعيان التي لا تُستعمل لأغراض عسكرية مباشرة، ومنها البيئة الطبيعية بإعتبارها عيناً مدنية. كما يحظر القانون الدولي ويقيّد استعمال وسائل وأساليب قتال معينة بسبب آثارها والتي من بينها الإضرار بالبيئة الطبيعية.
وفي إطار القانون الدولي الإنساني، يُفهم مصطلح البيئة الطبيعية بمعناه الأوسع ليشمل كل ما هو موجود أو يحدث طبيعياً، مثل الغلاف المائي والمحيط الحيوي والغلاف الأرضي والغلاف الجوي عموماً، وكذلك البيئة البيولوجية التي يعيش فيها السكان والتي لا تتكون فقط من الأعيان التي لا غنى عنها للبقاء مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية ومياه الشرب والماشية، ولكنها تشمل أيضاً الغابات والنباتات الأخرى والحيوانات وغيرها من العناصر البيولوجية أو المناخية.
وبقدر تعلّق الأمر بحماية البيئة الطبيعية من خلال نصوص القانون الدولي الإنساني المنظمّة لسير العمليات العدائية، فإن البيئة الطبيعية وكل عناصرها السابق ذكرها تعتبر أعياناً مدنية لا تجوز مهاجمتها، إلاّ إذا أستعملت بعض عناصرها لأغراضٍ عسكرية. أساس ذلك هو مبدأ التمييز بين المقاتلين والمدنيين وبين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية. كما إن الضرر الجانبي الذي قد يصيب البيئة الطبيعية جرّاء هجوم عسكري يجب أن يتم تقديرهُ قبل شنّ الهجوم. فإذا تبيّن إنهُ يفرط في تجاوز الميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوخاة من الهجوم، يُحظر ذلك الهجوم. وهذا هو مقتضى مبدأ التناسب. وعلى أطراف النزاع أن تتخذ الإحتياطات اللازمة لتجنّب، أو للتقليل إلى أدنى حدّ، الأضرار التي قد تلحق بالبيئة الطبيعية جرّاء أي عمل عسكري، وهذا هو مؤدى مبدأ التدابير الاحتياطية.
علاوة على ذلك يحظر القانون الدولي الإنساني الأعمال الانتقامية ضدّ البيئة الطبيعية، ويحظر تدمير مرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الريّ.
أما بالنسبة إلى نصوص القانون الدولي الإنساني التي تحمي البيئة الطبيعية على نحوٍ خاص، فيتعلّق البعض منها بحماية البيئة الطبيعية في حدّ ذاتها، من خلال حظر استعمال الأسلحة والتكتيكات التي يتوقع منها أن تسبب للبيئة الطبيعية ضرراً بالغاً وواسع النطاق وطويل الأمد. وعلى هذا الأساس فإن الأسلحة الكيمياوية والأسلحة النووية محظورة ويُحظر جعل الغابات وغيرها من أنواع الكساء النباتي هدفاً للهجوم بأسلحة محرقة، على سبيل المثال. كما يحظر القانون استعمال تدمير البيئة الطبيعية كسلاح من خلال حظر تقنيات تؤدي إلى تغيير في تضاريس الأرض وإحداث تغيير في المناخ. وهناك نصوص تحمي البيئة الطبيعية غير إن هدفها النهائي هو حماية السكان المدنيين من خلال حماية المحيط الحيوي الذي يعيشون ويحيون فيه ألا وهو البيئة الطبيعة.
ولا يقتصر الأمر على القانون الاتفاقي، حيث تحمي قواعد القانون الدولي الإنساني العرفية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة الدولية. كما يمتدّ نطاق بعض القواعد العرفية لحماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة غير الدولية كذلك.
ويُعتبر التسبب في إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية الذي ينتهك مبدأ التناسب، جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998).
المبادئ التوجيهية بشأن حماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة لعام 2020:
تخفيف عواقب النزاع المسلح على البيئة الطبيعية وإسهاماً في تعزيز مبدأ العدالة بين الأجيال
من أجل توضيح الكيفية التي توفر بها قواعد القانون الدولي الإنساني الحماية للبيئة الطبيعية، أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مبادئ توجيهية بشأن حماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة 2020 (وهي النسخة المحدثة للنسخة الأولى التي أصدرتها عام 1994 بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة إثر الدمار البيئي الذي نتج عن حرب الخليج 1991)، وذلك إستجابة للحوادث التي حصلت في نزاعاتٍ مسلحة لاحقة ملحقة أضراراً بالبيئة الطبيعية، كتلوّث نهر الدانوب سنة 1999 إثر قصف المنشآت الصناعية في صربيا، وتلوث المياه الجوفية في قطاع غزّة في العام 2008 بسبب العمليات العسكرية وكذلك إزالة الغابات بسبب سنوات من النزاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
تهدف المبادئ التوجيهية لعام 2020 إلى تسهيل إعتماد تدابير عملية لتقليل الأثر البيئي للنزاع المسلح. ولهذا الغرض، توصي اللجنة الدولية بتبني تدابير معينة لتنفيذ المبادئ التوجيهية وتتضمن نشر قواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بحماية البيئة الطبيعية وإدماجها في العقيدة العسكرية للقوات المسلحة، واعتماد وتنفيذ تدابير من أجل زيادة فهم الآثار التي يخلفها النزاع المسلح على البيئة الطبيعية قبل تنفيذ العمليات العسكرية وأثناء تنفيذها كلمّا أمكن ذلك، وتحديد وتعيين المناطق التي تتسم بأهمية أو هشاشة من الناحية البيئية باعتبارها مناطق منزوعة السلاح، وتبادل المعلومات بشأن الأمثلة والممارسات الجيدة المتعلقة بالتدابير التي يمكن اتخاذها لضمان الامتثال لإلتزامات القانون الدولي الإنساني التي تحمي البيئة الطبيعية.
مما لا شكّ فيهِ أن تعهّد الدول بإعتماد التدابير المتقدمة لتيسير تنفيذ المبادئ التوجيهية سيسهم في تعزيز احترام مبدأ العدالة بين الأجيال. فعلى سبيل المثال يُلاحظ إنهُ في شرح القاعدة 2 من المبادئ التوجيهية، وعنوانها “حظر إلحاق أضرار واسعة الإنتشار وطويلة الأمد وبالغة بالبيئة الطبيعية”، أُشير إلى أن معنى “طويل الأمد” ينبغي أن يُراعي مدة الآثار غير المباشرة (أو الإرتدادية المتوقعة) التي تترتب على استعمال أساليب ووسائل قتال معينة (وليس آثارها المباشرة فقط). وتسترشد المبادئ التوجيهية هنا بالضرر الذي لحق بصحة الإنسان في فيتنام والذي لا يزال موجوداً والذي قد يستمر لأجيالٍ قادمة.
وخلاصة القول، على الرغم من أن مبدأ العدالة بين الأجيال هو أحد مبادئ القانون الدولي للبيئة، إلاّ إنهُ يجد صداهُ بشدّة في قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة. باحترام أطراف النزاع المسلح لقواعد القانون الدولي الإنساني، ومنها الخاصة بحماية البيئة الطبيعية، فإن أحد العوامل التي تهدد البيئة الطبيعية، وهي النزاعات المسلحة، سيكون تأثيرها أقلّ في هذا المجال ما يساهم في توفير فرص أفضل للأجيال القادمة في الحصول على بيئة طبيعية يمكنهم العيش والإزدهار وتحقيق التنمية فيها كما فعلت قبلهم الأجيال السابقة.
مقال رائع تمكنت الدكتورة سما الشاوي من خلاله الربط بين الاسباب المؤدية الى الاضرار بالبيئة وبين النتائج التي تعتبر مخالفة للقوانين الدولية سواء تلك المبينة في اتفاقيات حماية البيئة والحفاظ على حقوق الاجيال القادمة في الوصول الى الموازد وجودتها ووفرتها وبين الحروب التي يخوضها البشر دون مراعاة للقواعد الدولية المتفقدعليها والتي تنظم هذه الحروب مثل القانون الدولي الانساني . ان تجاهل الطراف المتصارعة ولاسيما الدول ناهيك عن الجماعات المسلحة من التي لا تعتبر دولا او غير خاضعة لدولة لقواعد القانون الدولي الانساني سببت وتسبب كوارث انية ومستقبلية مستدامة لاجيال البشرية ، مما يتطلب ان يشدد المجتمع الدولي والمنظمات الدولية عموما على ضرورة اشاعة ثقافة الالتزام بالقانون الدولي الانساني من قبل جميع الطراف المتصارعة وفي كافة اشكال الحروب وتحريم تلك الاسلحة المسببة للاضرار البيئية المستدامة كالذخي ة التي يستخدم في صتعها او ضمن مكوناتها اليورانيوم المنضب كما حرمت الاسلحة الكيمياوية من قبل ، بل ينبغي ان يمتد ذلك الى الاسلحة النووية . واستطرادا من هذا المنطلق والمفهوم تحريم كافة الاسلحة ذات التاثير الجمعي كالبرامج السيبرانية والتي يمكنها بنبضه واحدة قتل الاف البشر كما حدث عندما استعملت اسرائيل مؤخرا النبض
هذا المقال رائع و مفيد شكرا.على المعلومات المقدمة .
hayet.