في عام 1949، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أُقرَّت اتفاقيات جنيف التي تنص على قواعد لسير العمليات القتالية بهدف الحد من المعاناة الإنسانية في أوقات النزاعات المسلحة. ومنذ ذلك الحين، شكَّلت هذه الاتفاقيات العمود الفقري للقانون الدولي الإنساني، ولعبت دورًا محوريًّا في حماية السكان المتضررين من جراء النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم. هنا إطلالة تاريخية وقانونية سريعة على مضمون هذه الاتفاقيات وتطورها
قبل أكثر من خمسة وسبعين عامًا وبالتحديد في أيلول/ سبتمبر من العام 1939، أقدمت ألمانيا على غزو جارتها بولندا. استهلت ألمانيا غزوها بمعركة بدت محدودة آنذاك، معركة ويستربلات (Battle of Westerplatte)، لكن سرعان ما تحولت الدفة كلية. كانت ويستربلات بداية لسنوات ست من حرب وحشية على الصعيد العالمي نتج عنها تكلفة إنسانية مهولة. وبعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها في العام 1945، بدا واضحًا أن العالم يحاول أن يتعلم الدروس من نتائج هذه الحرب المروعة، فبدأ في صياغة قواعد جديدة للعيش المشترك. تأسست منظمة دولية كبرى هي الأمم المتحدة، فنصت في ديباجة تأسيسها على عدم مشروعية الحرب، موكلة لنفسها مهمة طموحة لإنقاذ «الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف».
وبعد ثلاث سنوات، بدأت قوى عالمية في إرساء قواعد قانونية أملًا في عدم تكرار المآسي الإنسانية التي وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية. فجرى إقرار «اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية» التي اعتُمدت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1948. وفي اليوم التالي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، وهو وثيقة غير ملزمة قانونًا، لكنها أسست لمنظومة قانونية كاملة فيما بعد، تضمن كرامة الإنسان وحريته وقت السلم.
وفي السياق ذاته، أُقرَّت في 12 آب/ أغسطس من العام 1949 اتفاقيات جنيف الأربع وهي نصوص قانونية تُرسي بوضوح التزامًا أساسيًّا على أطراف النزاع مفاده أنه لا بد أن يعامَل الناس مُعاملة إنسانية حتى في أوقات النزاع المسلح، ولا بد أن ينظر العدو إلى عدوه على أنه بشر. وتتمتع هذه الاتفاقيات بقبول واسع على النطاق العالمي، إذ إن جميع دول العالم البالغ عددها 196 دولة مصدقة على اتفاقيات جنيف. وهذه الاتفاقيات لم تخرج إلى النور فجأة، وإنما كانت تتويجًا لعملية طويلة الأمد انطوت على وضع أسس وقواعد القانون الدولي الإنساني الحديث.
دلالة اتفاقيات جنيف
عقب ماراثون منهك من المناقشات والمفاوضات طيلة أربعة أشهر (من 21 نيسان/ أبريل إلى 12 آب/ أغسطس 1949)، أقر «المؤتمر الدبلوماسي لوضع اتفاقيات دولية لحماية ضحايا الحروب» الذي انعقد في مدينة جنيف السويسرية أربع اتفاقيات دولية ملزمة من أجل كفالة الحماية لضحايا الحروب. هذه الاتفاقيات هي: اتفاقية جنيف لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، واتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار، واتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب، واتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
ولا تنطبق اتفاقيات جنيف إلا على النزاعات المسلحة الدولية، باستثناء المادة الثالثة المشتركة في الاتفاقيات الأربع كلها، فهي تغطي أيضًا النزاعات المسلحة غير الدولية. ترتب هذه المادة التزامًا على الدول الأطراف على أنه في حال اندلاع نزاع مسلح ليس له طابع دولي على أراضيها فإنه ينبغي عليها أن تضمن «المعاملة الإنسانية» لمن «لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر». كان اعتماد هذه المادة في عام 1949 فتحًا جديدًا، إذ إن اتفاقيات قوانين الحرب السابقة لم تتناول إلا حالة الحرب بين دولة وأخرى. ونظرًا لأن غالبية حروب اليوم مصنفة بأنها نزاعات مسلحة غير دولية، تبقى المادة الثالثة مهمة للغاية في الأوضاع الحالية لأنها تضع إطارًا لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون أو كفوا عن المشاركة في القتال.
دور اللجنة الدولية
شكلت هذه الاتفاقيات الأربع حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني، وهي مجموعة القواعد التي تحمي المدنيين والأشخاص الذين كفوا عن القتال، بمن فيهم الجرحى والمرضى من الأفراد العسكريين وأسرى الحرب. وتكفل هذه الاتفاقيات حماية الكرامة الإنسانية في وقت الحرب، إذ ترتكز قواعدها العملية على واقع ما يحدث في ساحات القتال، وصُممت لحماية واحترام الأرواح والكرامة الإنسانية. وهي لا تضفي شرعية على الحروب أو تطيل أمدها، بل إنها تمهد السبيل للسلام من خلال الحد من المعاناة.
وفي حين أن اتفاقيات جنيف الثلاث الأولى لعام 1949 قد نشأت عن معاهدات قائمة فعلًا، إلا أن اتفاقية جنيف الرابعة كانت جديدة تمامًا، كونها أول معاهدة في القانون الدولي الإنساني تتناول على وجه التحديد حماية المدنيين في أثناء النزاع المسلح. فمثلًا دخلت حيز النفاذ اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى من القوات المسلحة في الميدان، وهي في الأصل تطوير لاتفاقية جنيف الأصلية «لتحسين حال الجرحى في الجيوش في الميدان» التي أقرت في العام 1864. جاء إقرار هذه الاتفاقية الرائدة بفعل شهادة هنري دونان، مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، على المشاهد التي روعته في معركة «سولفرينو» في العام 1859.
ويتوافق فقهاء القانون على أن المصدر الأساسي للقانون الدولي الإنساني المعاصر يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبالتحديد في آب/ أغسطس 1864 عندما بلور ستة وعشرون مندوبًا يمثلون ست عشرة دولة أوروبية إضافة إلى الولايات المتحدة والبرازيل أول مجموعة من القواعد القانونية الحديثة التي تضبط سير العمليات القتالية. كانت هذه هي اتفاقية جنيف لعام 1864. خرجت هذه الاتفاقية في ظل واقع عالمي معقد. ففي حين تمتعت القارة الأوروبية بهدوء نسبي بعد انتهاء الحروب النابليونية (1803-1815)، كانت الحروب الداخلية والنزاعات المسلحة جراء الاستعمار على أشدها. فقد خرجت الاتفاقية إلى النور والحرب الأهلية الأميركية مستعرة (أودت بحياة ثلاثة أرباع مليون شخص، والبعض يصل بالتقديرات إلى مليون قتيل).
تطورت هذه الاتفاقية، مع تصاعد الدور المحوري للجنة الدولية للصليب الأحمر لتوفر الحماية، خاصة في ظل التقدم الكبير في وسائل القتال في تكنولوجيا الأسلحة، والتغيرات التي طرأت على طبيعة النزاع المسلح في القرن العشرين.
وبوصفها الوصية على القانون الدولي الإنساني والمُروِّج له، تتخذ اللجنة الدولية للصليب الأحمر إجراءات لحماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة وغيرها من حالات العنف وتعزيز احترام القانون. واللجنة الدولية تستمد اليوم مهمتها الإنسانية من اتفاقيات جنيف التي تكلِّفها بزيارة السجناء وتنظيم عمليات الإغاثة ولمِّ شمل العائلات التي تشتت أفرادها والاضطلاع بالأنشطة الإنسانية المماثلة في أثناء النزاعات المسلحة. ويذكر اسم اللجنة الدولية صراحة في العديد من أحكام هذه الاتفاقيات. ومنذ عهد «دونان»، حاولت اللجنة الدولية دائمًا مقارنة اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني ككل بواقع النزاع المسلح كما نشهده على أرض الواقع. ومن البداية، كنا جزءًا من عملية ديناميكية تكفل تكيُّف القانون الدولي الإنساني مع التغيرات المستمرة في شن الحرب.
وعلى سبيل المثال، في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، صاغت اللجنة الدولية اتفاقية دولية بشأن وضع المدنيين من جنسيات العدو في إقليم ينتمي إلى، أو يحتله، أحد الأطراف المتحاربة، وسعت اللجنة الدولية إلى تعزيز موافقة الدول بشأن تلك الاتفاقية. ولم يُتخَذ أي إجراء بشأن الاتفاقية لأن الحكومات رفضت عقد مؤتمر دبلوماسي لاتخاذ قرار بشأن اعتمادها. وبسبب ذلك، لم تظهر معاهدة محددة تحمي المدنيين من أهوال الحرب العالمية الثانية. لذلك، وافق المجتمع الدولي في عام 1949 على اعتماد اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين. وتعتبر هذه الاتفاقية لحظة فاصلة، فاتفاقية جنيف الرابعة كان معناها أن قواعد الحرب تشمل حماية السكان المدنيين والممتلكات خلال أوقات النزاع المسلح.
تطورات وتحديات
توسَّع القانونُ الدولي الإنساني بصورة كبيرة مع تطور طبيعة الحرب وأثرها على مر السنين. والجدير بالذكر، أن بروتوكولين إضافيين للاتفاقيات قد اعتُمدا في العام 1977، إذ عزز البروتوكول الإضافي الأول حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، بينما فعل البروتوكول الإضافي الثاني الشيء نفسه في ما يتعلق بالنزاعات المسلحة غير الدولية، بما في ذلك الحروب الأهلية.
وشهد عقدا الثمانينيات والتسعينيات دخول معاهدات دولية أخرى حيز التنفيذ، حيث حظرت بعض الأسلحة التقليدية، مثل الألغام الأرضية المضادة للأفراد، وكذلك الأسلحة الكيميائية. وفي عام 2008، وقعت أكثر من 100 دولة على معاهدة تاريخية ضد استخدام الذخائر العنقودية. كما تحقق تقدم كبير في مجال التحقيق في جرائم الحرب والمعاقبة عليها، والفضل في ذلك يرجع إلى عمل محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا، وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، فهناك تحديات عسيرة للغاية أمام اتفاقيات جنيف. فمن ناحية أولى، تتسم النزاعات الحالية بطول الأمد، ما يعني تفاقم الأزمات الإنسانية في ظل مكافحة السكان المدنيين من أجل البقاء. يضاف إلى هذا، احتدام أزمة التغير المناخي وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في الاحتياجات البشرية في السنوات المقبلة، ما قد يزيد من تعقيد العمل الإنساني.
من ناحية ثانية، شهدت السنوات الأخيرة تغيرات جوهرية على صعيد أساليب القتال وأنواع الأسلحة وطبيعة الأطراف المنخرطة في النزاع. فنحن نرى الآن أن هناك تكلفة إنسانية للعمليات العسكرية في الفضاء السيبراني، كذلك، أصبحت السمة الغالبة للنزاع الآن هي النزاعات المسلحة غير الدولية، علاوة على التنوع الشديد للجماعة التي تحمل السلاح في هذه الدول أو تلك. وفي كل هذه التغيرات، نحتاج إلى دراسة متأنية للعواقب الإنسانية. من ناحية ثالثة، فإن خبرة الحروب الحديثة والمعاناة المستمرة للسكان المدنيين توضحان بجلاء أن تصدي العالم لانتهاكات الحرب لا يرقى إلى المستوى المطلوب. وكما يقول بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر: «لا يوجد العدد الكافي من البلدان والجيوش والجماعات المسلحة التي تمتثل للقيم الإنسانية الأساسية المتأصلة في اتفاقيات جنيف. وعندما يُنتهك القانون الدولي الإنساني، فكلنا يدفع الثمن في نهاية المطاف».
للاسف يقف القانون الدولى عاجزا امام انتهاكات الدول ودائما الاقوى لايطبق عليه قواعد القانون فضلا على ان الدول العظمى تاخذ سياسة الكيل بمكيالين فى إزدواجية واضحة فى المعايير تقف امامها كافة القواعد والقوانين عاجزة