طوق نجاة عنكبوتي

العدد 58

طوق نجاة عنكبوتي

SASCHA STEINBACH/EPA

ومن نكد الدنيا على المرء أن ينبري أحدهم مطالباً بحجب هذا العدو الفاجر أو منع ذاك الخطر الداهم المتمثل في شبكات العنكبوت المتداخلة حيث يُعطى الحق والخير فرصاً متساوية جنباً إلى جنب مع مخاطر الظلم والشر. ومثلما قيادة السيارة قد تنطوي على حوادث قاتلة، ما لا يعني المطالبة بمنع القيادة ودك السيارات، فإن الشبكة العنكبوتية بتناقضاتها وبما تحمله من تغريد وتدوين وصور فوتوغرافية وأفلام حقيقية وحقائق ومعلومات دقيقة جنباً إلى جنب مع نعيق وتغرير وصور فوتوشوب وأفلام مدسوسة وحقائق ومعلومات مغلوطة لا تعني غلقها حقناً للشرور أو منعاً للآثام.

ولا يضاهي إثم جنون الحروب والصراعات التي تفتك بالمنطقة العربية فداحة إلا إثم الأصوات التي تظهر بين الحين والآخر ملوحة بضرورة حجب «فيسبوك» حيناً أو منع «تويتر» حيناً أو قطع الإنترنت كلية لحين القضاء على جماعة مسلحة أو فناء الإرهاب أو معجزة من السماء، أيها أقرب. أقرب ما يمكن أن يتوارد إلى الذهن في تمكين المتضررين والمهجرين والمنكوبين والمهددين والمشردين والمفجوعين في أماكن الصراع هو التخفيف عنهم. ولكن كيف يخفف عنهم العالم دون أن يدري بحجم وكم وبعد وموقع تضررهم، بل أحياناً بوقوع الضرر أصلاً. 

قد يأتي طوق النجاة عبر رسالة نصية أو تغريدة تويترية أو تدوينة فيسبوكية أو استغاثة «واتس آبية»! من زلزال هايتي (2010) إلى كارثة فوكوشيما النووية في اليابان (2011) إلى الحرب الدائرة رحاها في سورية حتى هذه اللحظة منذ نحو أربع سنوات*، تقف الشبكة العنكبوتية موقف الجندي المجهول والوسيط العظيم في التشبيك بين كثيرين من المتضررين والمهجرين والمهددين من جهة وبين مقدمي الخدمات الإنسانية من جهة أخرى. وكيف لنا ألا نتذكر «بغداد تحترق» هذه المدونة (بلوغ) التي بدأتها شابة عراقية من قلب بغداد في العام 2003، ساطرة ما يحدث حولها من تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة لحظة بلحظة من قلب النار، ومن داخل الحرب الدائرة، مروراً بسياسات الدول العظمى المتناحرة على أرضها، والسجون، وأسرتها، وحقوقها المهددة باعتبارها امرأة في منطقة دمرتها الحرب وتكالب عليها الغزو واتفق على وأدها التطرف والتشدد والإرهاب. 

هذه المدونة كانت أكسجين المعلومات الإنسانية من وجهة نظر من يعيش الصراع الدائر بنفسه، وليس من خلال عين مصور يعمل في جريدة بعينها، أو صوت مراسل تابع لقناة دون غيرها، وهو ما يعني تدوينا يوميا للحدث والأزمة والكارثة من وجهة نظر ضحاياها دون رقيب أو دخيل أو سياسة تحريرية أو مصلحة أمن قومي أو هوىً سياسي أو ميل إقليمي أو تحيز ديني. وبالرغم من أن تدوينات «بغداد تحترق» لم تؤد بشكل مباشر إلى وصول المساعدات الإنسانية لمن يستحقونها، إلا أنها ساهمت فيما هو أوسع وأشمل من ذلك. فتدوينات الشابة العراقية كانت كمن فتح نافذة معلوماتية بالغة الثراء، شديدة الصدق، إنسانية الأبعاد، على ما يكابده ملايين العراقيين يومياً، بعيداً عن عدد الطائرات المشاركة في الضربات، وحجم المعدات الضالعة في الهجمات، وتعداد القتلى من المواطنين والمواطنات. التفاصيل اليومية لحياة المكروبين والمشردين والمتضررين في أماكن الكوارث الإنسانية وتلك التي من صنع الإنسان حيوية بالنسبة للمساعدات الإنسانية. فكم من مساعدات متوافرة ضلت طريقها إلى مستحقيها لنقص المعلومات وشح الحقائق، أو فلنقل لنقص المعلومات الحقيقية وشح الحقائق غير المسيسة. 

ومن يمكن أن يقدم تلك المعلومات سوى أصحاب المأساة ومتضرري الكارثة من مهجري الحرب وضحاياها ومنكوبي الزلزال ومشردي الفيضان وغيرهم الملايين ممن يعتبرون رسالة نصية قصيرة أو تغريدة موجزة أو تدوينة فيها ما قل ودل طوق نجاة ورسالة محمولة مباشرة إلى من يهمه الأمر من مقدمي المساعدات الإنسانية. إنه طوق نجاة عنكبوتي لا ينبغي حجبه أو منعه.

*زمن كتابة المقال في 2015

نُشر هذا المقال في عدد مجلة الإنساني رقم 58، الصادر في شتاء 2015.

اقرأ أيضا:
محمد علام، الربيع العربي وصراعاته بعدسة المواطن الصحفي

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا