حماية المدنيين في قلب قانون الحرب في الإسلام

قانون الحرب / مقالات

حماية المدنيين في قلب قانون الحرب في الإسلام

على مدار قرون تمكن قدامي الفقهاء، بما خلَّفوه من تراث فقهي مثير للإعجاب، من إضفاء لمحة إنسانية على الحرب، في هذا المقال المهم يتناول الأكاديمي المصري الدكتور أحمد الداودي اجتهادات الفقهاء المسلمين الأوائل في تأسيس قواعد تحمي غير المقاتلين وتضع حدودًا واضحة لما ينبغي وما لا ينبغي فعله أثناء قتال العدو

يكشف التراث الفقهي الإسلامي العريض والمفصَّل المعنيُّ بتنظيم النزاع المسلح عن أن قدامى الفقهاء كانت في أذهانهم، بدرجة أو أخرى، الفلسفة والمبادئ ذاتها التي ألهمت القانون الدولي الإنساني الحديث. ومن المثير للاهتمام أن التراث الفقهي الإسلامي المتقدِّم ميَّز بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية (مع أنه لم يستخدم هذه التسمية).

والمغزى هنا ذو شقين: الأول، أن القواعد بشأن استخدام القوة في نزاعات مسلحة غير دولية أشد صرامة وأكثر إنسانية من مثيلتها التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية؛ والثاني، أن الفقه الإسلامي، بسبب حوادث معينة في التاريخ الإسلامي الباكر، حدد أربعة أنواع من اللنزاعات المسلحة غير الدولية، لكل منها قواعده المختلفة التي تحكم استخدام القوة. هذه النزاعات هي: حروب الردة، قتال البغاة، الحرابة، قتال الخوارج.  

وقد طور الفقهاء المسلمون قواعد قانون الحرب في الإسلام، وهي قواعد تضفي الصبغة الإنسانية على النزاع المسلح، عن طريق حماية أرواح غير المقاتلين، واحترام كرامة مقاتلي العدو، وحظر إلحاق الضرر بممتلكات العدو إلا إذا فرضت الضرورة العسكرية ذلك، أو إذا حدث الاعتداء دون قصد بوصفه ضررًا جانبيًّا.

وفيما يلي المبادئ الإسلامية الأساسية للقانون الدولي الإنساني:

أولا: حماية المدنيين وغير المقاتلين
يؤكد الفقه الإسلامي بوضوح لا لبس فيه، وجوب حصر أعمال القتال كلها في ميدان المعركة ضد المقاتلين الأعداء وحدهم. ويحظر الفقه الإسلامي استهداف المدنيين وغير المقاتلين عمدًا في أثناء سير العمليات القتالية. يقول تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (سورة البقرة: 190).

وجاء في الكثير من الأحاديث النبوية ذكر خمس فئات من الناس يتمتعون بحصانة غير المقاتلين و، هم: النساء، والأطفال، والمسنُّون، والرهبان، والعُسفاء (جمع عسيف) (وهم الأجراء المستقدمون لأداء خدمات ومهام معينة للعدو في ساحة المعركة، لكنهم لا يشاركون في العمليات القتالية الفعلية.
ومن ضمن المهام المتنوعة التي كان يُعهَد بها إلى العُسفاء في ساحة المعركة في ذلك الوقت، الاعتناء بالحيوانات والممتلكات الشخصية للمقاتلين. وربما يناظر هذه الفئة في سياق الحرب الحديثة أفراد الطواقم الطبية – العسكرية والمدنية – والمراسلون العسكريون وجميع الفئات الأخرى من الأفراد داخل جيش العدو ممن لا يشاركون في العمليات القتالية الفعلية.

هؤلاء الأفراد أيضًا لا يمكن استهدافهم. استوعب صحابة النبي والأجيال المتعاقبة من الفقهاء المنطق الموجِّه لحظر استهداف هذه الفئات الخمس من الناس، ووفَّروا حصانة لغير المقاتلين من فئات أخرى أيضًا مثل المرضى والمكفوفين والمقعَدين والمجانين والمزارعين والتجار والصناع.
ومع ذلك، فالأفراد المدرجون في هذه الفئات المشمولة بالحماية، يفقدون حصانة غير المقاتلين إذا اشتركوا في العمليات القتالية.
وقد تناول الفقهاء بالبحث مسألة اشتراك مثل هؤلاء الأشخاص في أعمال القتال لتحديد إمكانية إباحة استهداف هذه الفئات. تضمنت هذه الحالات ما يلي: امرأة شرعت في قتل جنود المسلمين، أو قذفتهم بالحجارة، أو تؤدي مهام عسس واستطلاع أو تسخِّر مالها الخاص لتمويل جيش العدو. وتضمنت نقاشات الفقهاء حالات أخرى، مثل طفل أو شخص مسنٍّ يشارك في الأعمال القتالية المباشرة، وشخص مسنٍّ حُمِل إلى أرض المعركة ليخطط عمليات العدو.

وبغض النظر عن الفروق الدقيقة في تأملاتهم وفتاواهم المختلفة بشأن إمكانية السماح باستهداف هذه الفئات المشمولة بالحماية، فإن إمعانهم النظر في هذه الحالات واستيفاءها بحثًا، حقيقةٌ مجردة تثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن مبدئيْ التمييز وكفالة الحصانة لغير المقاتل، كانا من الشواغل الرئيسية بالنسبة لغالبية قدامى الفقهاء.

ثانيا: حظر استخدام الأسلحة العشوائية
مع أن الأسلحة التي استخدمها المسلمون في بداية التاريخ الإسلامي كانت بدائية، ذات قدرة محدودة على التدمير، فقد حرص الفقهاء المسلمون على تأسيس أحكام بخصوص استخدام أسلحة عشوائية الطابع، مثل المنجنيق (آلة لقذف الحجارة الضخمة) والسهام المسمومة والسهام النارية.

جاء في القرآن الكريم: «مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (سورة المائدة: 32).


ويشير بحث الفقهاء لاستخدام هذه الأسلحة العشوائية، اهتمامُهم الأصيل بممتلكات العدو والرغبة في صونها. وجدير بالذكر في هذا المقام أن السماح باستخدام مثل هذه الأسلحة العشوائية الطابع، خضع للبحث لتعلقها بحالات أخرى غير تلك التي تتضمن قتالًا بين الأفراد.

فعلى سبيل المثال، نظر الفقهاء فيما إذا كانت مثل هذه الأسلحة قد تستخدم ضد عدو يقاتل من وراء مواقع محصَّنة. في مثل هذه الحالات، من الواضح أنه سيكون من الصعب للغاية تجنب إحداث ضرر جانبي يطال الأشخاص والأعيان المشمولين بالحماية. يؤكد كل هذا، مرة أخرى، أن مبدأ التمييز كان الأساس لمناقشة إمكانية السماح باستخدام الأسلحة العشوائية الطابع.

وقد أجاز أغلب الفقهاء استهداف تحصينات العدو باستخدام المنجنيق، بموازنة: المبدأ الإنساني ومبدأ الضرورة العسكرية أحدهما مع الآخر. إلا أنهم اختلفوا اختلافًا حادًّا بشأن إمكانية السماح باستهداف تحصينات العدو بالسهام النارية: إذ حرَّم فريق منهم ذلك بينما أعرب فريق آخر عن نفوره من هذا الأسلوب في الحرب، لكن فريقًا ثالثًا أباحه في الحالات التي تتطلبها الضرورة العسكرية، أو عندما يكون ذلك ردًّا على هجوم من النوع نفسه.

تخلق الأحكام المتعارضة من هذا النوع تحديات كبيرة عندما يُستخدم القانون الإسلامي للحرب بوصفه مصدرًا مرجعيًّا في النزاعات المسلحة المعاصرة، لأنها يمكن أن تستغل استغلالًا انتقائيًّا لتبرير الهجمات ضد المدنيين والأعيان المشمولة بالحماية.

ثالثا: حظر الهجمات العشوائية
انطلاقا من الحرص على مبدأ التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، فصل الفقهاء أحكامًا تتعلق بمسألتين مرتبطتين باستخدام أسلوبين غير تمييزيين من أساليب شن الحرب قد ينجم عنهما قتل أشخاص مشمولين بالحماية، وإلحاق أضرار بالأعيان المشمولة بالحماية. وهذان الأسلوبان هما البيات (أي الإغارة على العدو ليلًا) والتَّترُّس (أيْ استخدام دروع بشرية).

والعلة من بحث مسألة البيات – وهي مسألة أثيرت أول ما أثيرت بين النبي وصحابته – هو الحرص على عدم تعريض غير المقاتلين للخطر لتعذر الرؤية. كان المنجنيق والأسلحة المشابهة تُستخدم استخدامًا رئيسًا لاستهداف العدو ليلًا، وهو ما زاد من خطر إصابة الأشخاص والأعيان المشمولة بالحماية. وبالمثل، وجد الفقهاء أن مهاجمة الدروع البشرية ربما يسفر أيضًا عن أضرار جانبية في حالتين أمعنوا النظر فيهما: استخدام أشخاص مشمولين بالحماية كدروع بشرية سواء كانوا من العدو أو من أسرى الحرب المسلمين.

مرة أخرى، كانت الحاجة إلى إحداث توازن بين القواعد الإنسانية الخاصة بالتمييز والتناسب والاحتياط من جهة، ومبدأ الضرورة العسكرية من جهة أخرى، تدفع الفقهاء إلى إصدار أحكام متعارضة: فبعضهم حظر الهجوم ليلًا أو ضد الدروع البشرية، وآخرون كرهوا هذه الأساليب، بينما أباحها فريق ثالث، وإن يكن في حال تتطلَّبها الضرورة العسكرية بشكل مؤكد. كما اختلف الفقهاء بشأن ما يمثل ضرورة عسكرية. على أية حال، لم تختلف آراؤهم بشأن النقطة الرئيسة، وهي أنه ينبغي ألَّا يُستهدف الأشخاص والأعيان المشمولون بالحماية عمدًا.

رابعا: حماية الأعيان
بحسب الرؤية الإسلامية، فكل شيء في هذا العالم ملك لله. والبشر بوصفهم خلفاء الله في أرضه يتحملون أمانةً تقضي بحماية ما لله، والإسهام في نماء الحضارة الإنسانية. ومن ثم، فحتى في أثناء سير الأعمال القتالية، فإن التدمير الطائش لممتلكات العدو محظور حظرًا صارمًا.

أمر أول الخلفاء المسلمين أبو بكر (المتوفى في العام 634)، قائدَ قواته قائلًا: «لا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تهدموا بناء، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وَلا تُغْرِقُنَّ نَخْلًا وَلا تَحْرِقُنَّهَا». وأوضح فقيه القرن الثامن الميلادي الإمام عبد الرحمن الأوزاعي (المتوفى في العام 774): «لا يحلَّ للمسلميــن أن يفعلوا شيئًا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب، لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد».

تحرَّم مثل هذه الأعمال التدميرية لأنها تمثل – كجريمة الإرهاب في الشريعة الإسلامية – جرمًا وصفه القرآن الكريم مجازًا بأنه «فساد في الأرض». ومن المثير للاهتمام أن نشير إلى أن فقهاء قلائل ميَّزوا بين الجماد وذوات الأرواح المملوكة للعدو. فقال الإمام الشافعي (المتوفى في العام 820) إن ذوات الأرواح قادرة على الشعور بالألم، وعلى ذلك فإن أيَّ أذى يلحق بها هو تعذيب لا مبرر له؛ بينما رأى ابن قدامة (المتوفى في العام 1223) أن إلحاق الأذى بذوات الأرواح يقع ضمن حدود الإفساد في الأرض. ولا يباح استهداف الخيل والحيوانات الأخرى في أثناء سير الأعمال القتالية إلا إذا كان جند العدو يمتطيها أثناء القتال.

وهناك أمثلة عديدة في الفقه الإسلامي تتعلق بحرمة الملكية الخاصة والعامة للعدو. وربما يكفي ذكر مثال واحد في هذا المقام. فقد أمعن قدامى الفقهاء النظر في جواز استهلاك إمدادات الغذاء الخاصة بالعدو أو الأعلاف المستخدمة في تغذية ماشيته. وانتهى هؤلاء الفقهاء إلى إباحة ذلك بشرط ألَّا يجاوز الكميات التي تتطلبها الضرورة العسكرية بالتأكيد، وبالتالي فقد أكدوا حرمة ممتلكات العدو. وعلى ذلك وفي حال إذا لم تقتض الضرورة العسكرية، فالقاعدة هي وضع عاملين في الاعتبار عن استهداف ممتلكات العدو: إجبار العدو على الاستسلام أو وضع حد للقتال؛ والامتناع عن تدمير الممتلكات عن عمد.

مشهد للدمار في حمص السورية في آذار/ مارس 2016. تصوير: Pawel Krzysiek/ أرشيف اللجنة الدولية.

خامسا: حظر التمثيل بالجثث
تحرِّم الشريعة الإسلامية التمثيل بالجثث تحريمًا قاطعًا. تتضمن توجيهات النبي بشأن استخدام القوة هذه النواهي: «لا تغلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا». كما أمر الرسول المسلمين بتجنب مهاجمة العدو عمدًا بضربه في الوجه. وجاءت توجيهات أبي بكر الصديق المكتوبة لأمير حضرموت باليمن متضمنة ما يلي: «إياك والمثلة في الناس فإنها مأثم ومنفرة».

هذا الاعتبار الذي توليه الشريعة للكرامة الإنسانية يستوجب دفن الموتى من الأعداء أو تسليم جثثهم لبلدانهم عقب توقف الأعمال القتالية. ويُذكر في المأثورات التاريخية والشرعية الإسلامية أن النبي أمر بدفن القتلى من الجنود دون أن يسأل ما إذا كانوا من جيش المسلمين أو جيش العدو. وأكد الفقيه الأندلسي ابن حزم (المتوفى عام 1064) أنه يقع على عاتق المسلمين التزام بدفن جثث أعدائهم إذا لم يأخدها العدو، وأنَّ تقاعسهم عن الاضطلاع بهذا الالتزام يرقى إلى حد التمثيل بالجثث.

سادسا: معاملة أسرى الحرب
تبرز بعض سمات الشريعة الإسلامية التي سبق مناقشتها في مسألة التعامل مع أسرى الحرب. وثمة قضيتان رئيسيتان هنا: ما حكم الاسلام في أسرى الحرب؟ وكيف ينبغي معاملتهم؟
تقوم الأحكام الفقهية في الحالتين كلتيهما، على أساس مرجعية قرآنية وتاريخية وعلى أساس سوابق معينة في بداية التاريخ الإسلامي. 

وفي ما يتعلق بحكم الاسلام في أسرى الحرب، ينقسم قدامى الفقهاء إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول، يبني موقفه على الآية الرابعة من سورة «محمد»: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ» (محمد: 4)، فأكدوا وجوب إطلاق سراح الأسرى من جانب واحد أو فداء بأسرى الجنود المسلمين.

أما القسم الثاني، وهم بعض فقهاء المذهب الحنفي، فقد حاججوا بأنه يُترك للدولة اتخاذ القرار في ذلك وفقًا لما تقتضيه مصلحتها، سواء إعدام الأسرى أو استعبادهم. غير أن بعض الفقهاء الآخرين من المذهب نفسه قالوا بإطلاق سراح أسرى الحرب، لكن مع بقائهم في الدولة الإسلامية لأن السماح لهم بالعودة إلى بلدهم من شأنه أن يعزز قوة العدو.

ويشمل القسم الثالث غالبية الفقهاء، وقد حاججوا أيضًا بأن للدولة أن تقرر ما تفعل وفق مقتضيات مصلحتها، لكنهم قالوا أيضًا إن الأسرى قد يُعدموا أو يُسترقُّوا أو يطلَق سراحهم من جانب واحد أو فداءً للأسرى من جند المسلمين أو يطلَق سراحهم دون السماح لهم بمغادرة الدولة الإسلامية.

ينبغي أن نلاحظ هنا أن الفقهاء الذين أباحوا إعدام الأسرى، بنوا رأيهم على أساس روايات تذكر أن ثلاثة من أسرى الحرب قُتلوا في الحروب بين المسلمين وأعدائهم في أثناء حياة الرسول. لكن وبعد دراسة هذه المصادر، تبيَّن أنه إذا كانت جميع هذه الروايات أو بعضها صحيحًا، فهؤلاء الأسرى الثلاثة قد أُعدموا بسبب جرائم ارتكبوها قبل الدخول في الحرب.
أما بالنسبة لمعاملة أسرى الحرب، فتوجب الشريعة الإسلامية احترامهم ومعاملتهم معاملة إنسانية. ويجب إطعامهم وسقايتهم وكسوتهم إن لزم الأمر، وحمايتهم من الحرارة والبرودة والمعاملة القاسية. ويحرُم تعذيب أسرى الحرب لانتزاع معلومات عسكرية، كما أوضح الإمام مالك (المتوفى عام 795م).

سابعا: الأمان
يطلق مفهوم الأمان على حالتين: أولا: الحماية والحقوق الخاصة التي تُمنح لغير المسلمين من دولة معادية يعيشون لفترة مؤقتة في دولة مسلمة أو يقومون بزيارة سريعة فيها لأغراض التجارة أو السياحة أو التعليم أو أية أغراض سلمية أخرى.

وبسبب طبيعة مهنتهم تمتَّع الدبلوماسيون بميزات الأمان منذ عصر ما قبل الإسلام. وثانيا الأمان، بمعنى «عقد حماية يُمنَح في أثناء سير الحرب فعليًّا لحفظ دماء شخص من الأعداء وماله، أو كتيبة كاملة، أو كل من بداخل حصن ما، أو جيش مُعادٍ بأكمله أو مدينة معادية». ولعقد الأمان نفس الغرض، من بعض الوجوه، في حالة وجود أفراد عاجزين عن القتال، وهو حقن الدم بتعبير الفقهاء المتقدمين.

وعلى ذلك، إذا طلب المقاتلون الأعداء الأمان في أرض المعركة في أثناء سير الأعمال القتالية – سواء كان ذلك مشافهةً أو كتابةً، أو عن طريق إيماءة أو بطريق الإشارة إلى ذلك بوضع أسلحتهم – يجب منحهم إيَّاه.

بعد ذلك يجب حمايتهم ومنحهم الحقوق نفسها الواجبة للسكان المدنيين المؤقتين في الدولة المسلمة المعنية. ويجب ألَّا يُعاملوا باعتبارهم أسرى حرب، ولا أن تُقيَّد حياتهم بأي طريقة في أثناء مكوثهم في الدولة المسلمة. وتسري هذه الحماية إلى أن يعودوا سالمين إلى أوطانهم. 

وإيجازًا، فنظام الأمان يوضح بلا أي لبس أن مقاتلي العدو يجب ألَّا يُستهدفوا إذا لم يكونوا في حالة قتال فعلي. وغنيٌّ عن البيان أن الخيانة محرَّمة تحريمًا قاطعًا بحسب القانون الإسلامي للحرب، لكن يجوز توظيف الخدع، فالنبي قد قال «الحرب خدعة».
ومن التوصيف السابق ذكره تتضح الفرادة التي يتميز بها القانون الإسلامي، من حيث أصوله ومصادره، في أساليبه لاستحداث قوانين وتطبيقها. 

والحق أن قدامى الفقهاء نجحوا في تدوين أدبيات قانونية ضخمة تضفي الإنسانية على النزاعات المسلحة. وهم أظهروا أيضًا قدرًا كبيرًا من الاهتمام والعناية بغير المقاتلين والمدنيين، وكذلك بأعيان مدنية معينة: فقد حاججوا بأن كل هؤلاء الأشخاص والأعيان مشمولون بالحماية، وأن أي ضرر جانبي يلحق بأيٍّ منهم لا يمكن تسويغه إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى.

وعلى الرغم من ذلك، تشكل بعض القواعد الإسلامية بشأن استخدام القوة تحديات بالنسبة لأنسنة النزاعات المسلحة. يرجع هذا إلى عدم تقنين قانون إسلامي للنزاعات المسلحة في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، كذلك لم تقنن عقوبات ضد انتهاك هذه القواعد. ومع ذلك، نظرًا لأن المعاهدات ملزمة في الشريعة الإسلامية، ولأن مبادئ القانون الدولي الحديث تتفق مع القانون الإسلامي للحرب، فإن القانون الدولي يسدُّ بالأخص هذه الثغرة – كبح الانتهاكات – على نحو مقبول.

*نُشر هذا النص في الأصل بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات» المعنية بالنقاش حول التحديات المعاصرة لقانون الحرب. وقد نقله إلى العربية عاطف عثمان.

انقر هنا لقراءة النص الإنجليزي.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا